بحوث ودراسات

الدولة العميقة في تونس واذرعها

تقرير : صبرين العجرودي

رغم الغموض الذي يكتسي مفهوم الدولة العميقة وما الى ذلك من لبس في عناصرها ومكوّناتها وركائزها، الاّ انّ ذلك لم يمنع تداوله داخل مجتمعاتنا، فكان التعبير عنه مقترنا بالإشارة الى جهات سياسية نافذة داخل الدولة أو مجموعات المافيا والأمن التي تشتغل لصالح جهات معيّنة، والحقيقة فإنّ الدولة العميقة تعتبر كيان إداري حكومي غير منتخب متعدّد الأجهزة من مختلف الجوانب سواءً منها الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية او العسكرية، ولعلّ بالرغم ممّا قد يُروّج على أنّ الدولة العميقة لا تقترن بالشرعية كالدولة الوطنية الاّ أنّ دورها يتمثل قطعا في ضمان استقرار هذه الدولة وحماية ايديولوجيتها التي غالبا ما تجدها مهيمنة على مقالد الحكم داخل الدولة الوطنية.

كيف يندرج ذلك بالنسبة لتونس؟ وكيف يمكن تحديدا تفكيك مفهوم الدولة العميقة في الدولة التونسية؟

يقترن نموذج الدولة العميقة بحماية المصلحة العامة للدولة واذا ما أشارنا الى ما يمكن ان نطلق عليه تحقيقا للمصالح الخاصة وسيرورات عمل محكمة واستراتيجيات متمحورة حول ديمومة براغماتية خاصة بجهة بعينها ليست متعلّقة بتسيير شؤون الدولة ولا بالسعي الى ترسيخ استمراريتها، فإنّنا في هذه الحالة نتحدّث عن الدولة الأوليغارشية، والحال ان نقطة الالتقاء بين الاخيرة والدولة العميقة هي العلاقات الزبونية أو ما يمكن الاشارة اليه بالعلاقات النفعية التي يمكن ان تسهّل تحقيق أهداف الدولة العميقة في تكريس الاستقرار الداخلي والذي لا يمكن ان نعتبره منعزلا عن المصلحة العامة للشعوب، تحدث هذه المعادلة بربط الدولة العميقة علاقات نفعية مع مختلف المؤسسات النافذة داخل الدولة باعتبار أنّها عنصر يستمد قوته من هذه العلاقات، فالأدوار السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة متفرّقة داخل الدول ولا يمكن باي شكل من الأشكال مهما بلغت الدولة العميقة اعلى درجات قوّتها أن تحقق أهدافها بمعزل عن عناصر من الدولة الوطنية أو تضطلع بمختلف ، فهي دائما في حاجة ماسة الى اذرع من الدولة الوطنية تقوم بخدمتها وتطبيق اوامرها مستغلة بذلك صلاحياتها وادوارها المشروعة داخل الدولة، ويكون ذلك بتحقيق مصالحهم الخاصّة المرتبطة بالسلطة والثروات والنفوذ. لكن المثير للجدل هو الامكانيات الواردة للصراع ضمن هذه العلاقات الزبائنية وأسبابها وما هو منجر عنها داخل الدولة التونسية في الوقت الراهن.

صراعات عميقة بين الدولة العميقة واذرعها

كيف يمكن اوّلا ان نعرّف هذه الأذرع تعريفا دقيقا ؟ وكيف يمكن تحديد هذه الصراعات وتعريفها؟

لعلّ ما يمكن الاشارة اليه انّ شبكة الدولة العميقة داخل البلاد التونسية في الوقت الحالي متداخلة ومتشابكة، خاصّة مع عدم استقرار المشهد السياسي منذ عام 2011 وذلك ما يؤدي منطقيا ومباشرة الى تفكّك بناها وتشتّتها، وهو لا يضعف الدولة العميقة ولا يؤدي الى اضمحلالها بقدر ما يؤثر على الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لتونس، فهي ثابته لا محالة كدولة موازية داخل جميع الدول ولكنّ ذلك يؤثر في نسقها الوظيفي وهدفها الطبيعي وهو الاستقرار الداخلي للدول.

يمكننا الاشارة في هذا السياق الى السبب الرئيسي في هذا الخلل، وهو شبكة تحالفاتها غير المتجانسة والممتدة أفقيا وعموديا دون تحديدها بشكل واضح ومنظّم أو معروف  حتى لعناصرها في حدّ ذاتهم، هذه العلاقات الزبونية التي تربطها بسته اذرع اساسية متمثّلة في الذراع المالي، الذراع التشريعي، الذراع القضائي، الذراع الاعلامي، الذراع التنفيذي واخيرا الذراع الامني هي غير ثابته على عكس الدولة العميقة، جعلها تسعى جاهدة للحفاظ على مصالحها دون مراعاتها للتغيرات الطارئة في النظام السياسي للبلاد وحتى التغيرات العالمية التي تفرض نفسها على الدول.

أدّى ذلك الى دخول الدولة العميقة في صراع وحرب غير معلنة ولكنها واضحة المعالم مع اذرعها، فأصبحت غير قادرة على ضمان التناغم وحصول عدم الاختلاف وتضارب المصالح والتصادم، وذلك على مستويين رئيسين:

  • المستوى الأول: الاذرع فيما بينها، بحيث أصبح هناك تضارب واضح وملحوظ في المصالح التي طالما حرصت الدولة العميقة على الموازنة فيما بينها والتوفيق بين مصالحها، فأصبح المشهد العام في تونس كالآتي، صراع بين الجهاز السياسي والقضائي وحرب بين الاعلام والجهاز الامني، والكثير من الصراعات المعلنة بشكل واضح وغير المعلنة.
  • المستوى الثاني: الصراع بين الدولة العميقة واذرعها، بحيث لم تعد الدولة العميقة قادرة على الحفاظ على هذه الاذرع  نتيجة سعيها لمواكبة كافة التغيرات الداخلية والخارجية، لكن ذلك ليس مقبولا بالنسبة لأذرعها التي لم تتردّد في تقديم نفسها على أنّها المنقذ الحالي للبلاد.

بالتالي لم تعد الدولة العميقة قادرة على القيام بدورها المعهود في الحفاظ على الاستقرار الداخلي للدولة، حتى انّ كل تحالفاتها  اندثرت بالطريقة التي تعرقل سير الدولة التونسية في المسار الصحيح، حيث انّ العلاقات الزبونية تبنى بعناية شديدة وتنتهي بنفس مستوى هذه العناية ، ولا يكون ذلك اعتباطيا لا لشئ، ولكن تفاديا للأزمات الداخلية التي يمكن ان تلحق بالبلاد، والتي نشهدها في الوقت الحالي، اذ لم تكتفي هذه الاذرع بما خُوّل اليها في وقت سابق من نفوذ وامتيازات، لكنّ مساعيها الان تتمحور حول الاستمرار في السيطرة على دواليب الدولة وثرواتها بدخولها في حرب خاسرة دون مع الدولة العميقة، التي ومنذ نشأتها لم تندثر ولا يمكن بأي شكل من الاشكال الفوز عليها، فإمّا التحالف معها والعمل على تحقيق الاستقرار  بشكل مشترك، او قطع هذه العلاقات في حال توجبت ذلك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق