بحوث ودراسات

التنظيمات الإرهابية في شمال إفريقيا: الهيكل، الإيديولوجيا والتمويل

د.مصطفى صايج أستاذ محاضر –كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية/:جامعة الجزائر 3


تعرف منطقة شمال إفريقيا الممتدة بين الدول الأربعة، ليبيا، تونس، الجزائر والمغرب تصاعدا للجماعات الإرهابية والتنظيمات المتطرفة العنيفة، وإن كانت بدرجات متباينة ومتفاوتة من حيث ثقل هذه التنظيمات وحجمها ودرجة التهديدات القائمة والمحتملة داخل كل بلد، مع الأخذ بعين الاعتبار هوية هذه التنظيمات التي لا تعترف بالحدود الجغرافية والسياسية، كما حدث خلال الهجوم على المجمع الغازي الجزائري في حقل عين امناس في يناير 2013، أو الهجومات الإرهابية على متحف باردو والمنتجع السياحي في مدينة سوسة التونسية في سنة 2015 أو تمدد ما يعرف بداعش في خليج سرت الغني بالنفط في السواحل الليبية.
فماهي طبيعة هذه الجماعات والتنظيمات الإرهابية المنتشرة في شمال إفريقيا؟ وما الإيديولوجيا العقائدية التي تستند عليها لتبرير سلوكاتها المتطرفة والعنيفة؟ وما هو حجم وثقل هذه التنظيمات والجماعات؟ وما هي التهديدات القائمة والمحتملة التي تمثلها هذه التنظيمات والجماعات على دول منطقة شمال إفريقيا؟
أولا: طبيعة التنظيمات والجماعات الإرهابية في شمال إفريقيا.
يمكن تفسير ظهور وتصاعد الجماعات والتنظيمات الإرهابية في شمال إفريقيا إلى عاملين أساسيين، عامل البيئة الداخلية، وعامل البيئة الخارجية، وقد أثر كل عامل على طبيعة وإيديولوجية وثقل كل تنظيم وجماعة، بحيث يسهل لنا هذا التقسيم، التمييز النسبي بين الجماعات الإرهابية المحلية والجماعات الإرهابية العابرة للحدود.
إن التنظيمات الإرهابية المحلية ترتبط بالمشهد السياسي الداخلي، بحيث تقوم بتوظيف التعبئة العقائدية وتجهز قدراتها القتالية لإسقاط النظام السياسي القائم بالخيارات العسكرية، وحجتها في ذلك محاربة ما تسميه في أدبياتها الأيديولوجية “حكم الطاغوت” و” النظام الكافر” واستبداله بتطبيق الشريعة وإقامة حكم الله. وتستغل هذه التنظيمات حالات اللاستقرار السياسي وتجربة الانتقال الديمقراطي المتعثرة لإضعاف الدولة الوطنية، وتمثل الجماعة الإسلامية المقاتلة (الجيا) والجيش الإسلامي للإنقاذ( الأيياس) التابع للجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة في الجزائر، نموذجا لهذه التنظيمات التي انتهجت العنف المسلح في مواجهة النظام في فترة التسعينيات من القرن العشرين.
بينما ترتبط التنظيمات والجماعات الإرهابية العابرة للحدود بالمشهد السياسي الإقليمي والدولي، ويمثل تنظيم القاعدة وفروعه الإقليمية نموذجا لهذه التنظيمات التي انتشرت في بيئة ما بعد الحرب الباردة، المرتبطة بالأوضاع الإقليمية ما بعد أفغانستان وما بعد الغزو الأمريكي للعراق، حيث يمثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الذي ينتشر في المجال الجغرافي لشمال إفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقي، النموذج الأبرز لهذه التنظيمات.
كما تمثل بعض التنظيمات فروعا تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على غرار جند الخلافة في الجزائر، وداعش في ليبيا وتونس، التي تمددت نتيجة الأوضاع الإقليمية ما بعد نظام معمر القذافي مستغلة الاضطرابات الأمنية في سوريا والعراق.
والملفت للانتباه، أن هناك اتجاه تصاعدي للجماعات الإرهابية العابرة للحدود في منطقة شمال إفريقيا على حساب الجماعات الإرهابية المحلية، بحيث تشير بعض التقارير، بأن من بين ستة تنظيمات إرهابية الأكثر تأثيرا في القارة الإفريقية، يوجد ثلاثة منها في شمال إفريقيا، وهي، تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، المرابطون، وأنصار الشريعة .

القاسم المشترك بين هذه التنظيمات الثلاثة أنها تأخذ طابع التنظيمات العابرة للحدود، ويرجع تفسير هذا الاتجاه التصاعدي للتنظيمات والجماعات الإرهابية العابرة للحدود في شمال إفريقيا لعدة أسباب، أهمها، الفراغ الأمني والسياسي في ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي وما خلفه من انعكاسات سلبية، مثل انتشار فوضى السلاح، تزايد الكتائب والمليشيات المسلحة في ليبيا، التحالفات العضوية والوظيفية بين الجماعات الإرهابية وتنظيمات الجريمة المنظمة.
يمثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، حالة الانتقال من الجماعة الإرهابية المحلية إلى التنظيم العابر للحدود، بحيث تم إنشاء التنظيم في 24 يناير 2007، بعد مبايعة الجماعة السلفية للدعوة والقتال تنظيم القاعدة وإعلان ولاءه لزعيمه أسامة بن لادن. يقود التنظيم عبد المالك دروكدال المدعو” أبومصعب عبد الودود”، وينشط في المناطق الشمالية للجزائر وفي المناطق الصحراوية في جنوب الجزائر وفي شمال مالي، وشرق موريتانيا وغرب النيجر، أي يستغل منطقة الساحل الإفريقي بعد الفراغات الأمنية في شمال مالي بسبب الانقلاب العسكري في سنة 2012 واستفادته من فوضى السلاح التي خلفتها مرحلة ما بعد القذافي، ليقيم تحالفات مع بعض الجماعات الإرهابية والمتطرفة في شمال مالي على غرار أنصار الدين، وجماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا.
وقد استفاد هذا التنظيم في مرحلته الأولى من الخبرة القتالية للجزائريين العائدين من أفغانستان، بحيث خلصت دراسة حول سوسيولوجية الأفغان الجزائريين، تم إعدادها من قبل مصالح الأمن الجزائرية، حول عينة تتكوم من 800 عنصر الذين شاركوا في حرب أفغانستان خلال الثمانينات، أن عدة عوامل توفرت في مطلع الثمانينات عززت توجه الشباب للقتال في أفغانستان ضد الاجتياح السوفياتي، من أهمها: تأثير معنى الجهاد وسلطته على المقاتلين، الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تعرفها الجزائر، تنامي نسبة البطالة وسط فئة الشباب، توفير عدة تنظيمات للشباب فرصة الهجرة نحو أفغانستان، تنظيم الدعوة والتبليغ مقره باكستان، الرابطة الإسلامية العالمية ، المنظمة الدولية للإغاثة الإسلامية- جمعية الأخوة الجزائرية-الفرنسية- حزب التحرير الإسلامي.
التحول في أيديولوجية الجماعة السلفية للدعوة والقتال من الطابع المحلي إلى الطابع العابر للحدود، حسم ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث كانت الغلبة داخل التنظيم للجناح المطالب بالتدويل وتوسيع “الجهاد” خارج الجزائر، الذي يقوده نبيل صحراوي وعبد المالك دروكدال. وعزز من هذا الاتجاه، التدخل العسكري الأمريكي في العراق في سنة 2003، وإقامة التنظيم اتصالات مع تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الذي يقوده أبو مصعب الزرقاوي، بحيث اتفقا على إرسال مقاتلين من شمال إفريقيا إلى العراق، مقابل قيام الزرقاوي في يوليو 2005 باختطاف وقتل دبلوماسيين جزائريين بالسفارة الجزائرية ببغداد، وهو ما عجل بمبايعة الجماعة السلفية للدعوة والقتال لتنظيم القاعدة وتحول الجماعة إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، حيث أعلن أيمن الظواهري في 11 سبتمبر 2006 التحاق التنظيم بالقاعدة الأم .
وعليه، انتهج تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بداية من سنة 2007 العمليات الانتحارية المماثلة لتلك التي كانت تجري بشكل واسع في العراق، حيث تم تفجير مقر الحكومة الجزائرية في 11 أبريل 2007، وفي 6 سبتمبر من نفس السنة نفذ عملية انتحارية في موكب الرئيس الجزائري بباتنة خلف مقتل 25 شخص ومئات الجرحى، وانتهت سنة 2007، بعمليتين انتحاريتين، الأولى بمقر المحافظة السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة بالجزائر والثانية أمام مقر المجلس الدستوري مخلفة 67 قتيل و177 جريح. كما نقل التنظيم عملياته خارج الجزائر بالهجوم بالأسلحة الخفيفة على السفارة الإسرائيلية بنواكشوط ، في فبراير 2008، كما قام باغتيال الرعية البريطاني المختطف “إدوين دير” في يونيو 2009 على الحدود المالية النيجيرية، وسنة بعدها يتم اغتيال الرعية الفرنسي”ميشال جيرمانو” المختطف بمالي، وتلتها عمليات اختطافات واغتيالات لثلاثة رعايا فرنسيين في سنة 2013، من بينهم صحفيين بإذاعة فرنسا الدولية .
يلجأ تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من خلال هذه الاختطافات المتتالية للرعايا الغربيين وبالأخص الرعايا الفرنسيين، إلى كسب الأموال من خلال إجبار الدول الغربية على دفع الفدية مقابل إطلاق سراحهم أو الضغط عليهم لدفع دول شمال إفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقي لإطلاق سراح بعض القيادات المحسوبة على التنظيم، كما حدث مع قضية الرعية الفرنسي “بيار كامات” . يشير تقرير لمجلة “نيويورك تايمز” من أن التنظيمات الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، القاعدة في شبه الجزيرة العربية، والشباب الصومالي، تلقت على الأقل 125 مليون دولار ما بين 2008 و2014، منها 66 مليون دولار فقط تم دفعها في سنة 2013، بينما تشير الخزانة الأمريكية إلى مبلغ 165 مليون دولار في نفس الفترة.
إلى جانب تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ظهر تنظيم المرابطون في منطقة شمال إفريقيا والساحل الإفريقي،الذي تم إنشاؤه في 20 أوت 2013 بعد التحالف بين جماعة الموقعون بالدماء التي يقودها ”مختار بلمختار“، القائد السابق لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي و حركة الجهاد والتوحيد في غرب إفريقيا التي أنشأت بدورها في 23 أكتوبر 2011، ويمثل هذا التنظيم حالة الانشقاقات وإعادة تركيب التحالفات بين التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود. ويعتمد هذا التنظيم على تجارة المخدرات في منطقة الساحل، بما يؤكد الطرح الذي يذهب إلى أن الجماعات الإرهابية التي توظف الإيديولوجيات الدينية تتقاطع مصالحها مع تجارة المخدرات، كما أكدته دراسة لوكالة أمريكية لمكافحة المخدرات US Drug Enforcement Agency (DEA), من أن 60 بالمائة من الجماعات الإرهابية الأجنبية ترتبط بتجارة المخدرات، وبالموازاة، فإن 80 بالمائة من زعماء طالبان في أفغانستان يقاتلون من أجل الأهداف الربحية وليس من أجل الإيديولوجية الدينية”
يمثل هذا التقاطع العضوي والوظيفي بين الجماعات الإرهابية وتجار المخدرات التحدي الأمني الذي يمس منطقة شمال إفريقيا بشكل مباشر، خصوصا وأن التأثيرات والانعكاسات تتعدى تهديد الأمن التقليدي، من ضرب للمؤسسات والتفجيرات، إلى التهديد الذي يمس الأمن المجتمعي من خلال تزايد عدد المستهلكين للمخدرات مما يصيب المجتمعات في عمقها الاجتماعي.
منذ اكتشاف ما عرف بقضية “الخطوط الجوية للكوكايين” في شمال مالي في نوفمبر 2009، تبين التحدي الذي تطرحه التحالفات العضوية والوظيفية بين التنظيمات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود الممتدة من إمريكا الجنوبية عبر شمال وغرب إفريقيا إلى أوروبا، حيث تشكل أوروبا ثاني أكبر سوق للاستهلاك العالمي، الذي قدر ب 33 مليار دولار سنة 2012.
من بين العمليات الإرهابية التي تنسب لتنظيم المرابطون اختطاف سبعة دبلوماسيين جزائريين، في 5 أبريل 2012، بقنصلية الجزائر بقاو شمال مالي، والهجوم على الموقع الغازي بعين أمناس في جنوب الجزائر في 16 جانفي 2013 ، حيث قتل 37 أجنبي و 29 إرهابي. وعليه، فإن تنظيم المرابطون تم تصنيفه ضمن قائمة الأمم المتحدة للتنظيمات المرتبطة بتنظيم القاعدة في 2 يونيو2014 .
هذه الارتباطات بين تنظيم المرابطون وتنظيم القاعدة توضحت أكثر في العمليات المشتركة التي قام بها التنظيم بالشراكة مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في مايو 2013 إثر الهجوم على موقع الشركة الفرنسية لليورانيوم ” أريفا” في شمال النيجر، وقد تكرس هذا التحالف في إعلان الوحدة بين تنظيم المرابطون وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في ديسمبر 2015، بحيث قدر مجموع تعداد الإرهابيين في التحالف الجديد، بأكثر من 1000 إرهابي، لأن التقديرات الأمنية تشير إلى أن تنظيم “المرابطون” يضم ما لا يقل عن 600 إرهابي من جنسيات مختلفة، الغالبية منهم من عرب شمال مالي وشمال النيجر، ويتوزع الباقي بين جنسيات، مصر والسودان ونيجيريا والجزائر وتونس والمغرب ورعايا دول أوروبية من أصول إسلامية، بحيث يتوزع تنظيم “المرابطون” على عدة كتائب، أشهرها كتيبة ابن لادن. بينما يضم الفرع الصحراوي في تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” ما بين 400 و500 إرهابي من جنسيات مختلفة أيضا، ويتوزعون على كتائب، أبرزها كتيبة طارق بن زياد وكتيبة الأبرار وسرايا، منها سرية الفرقان وسرية الانغماسيين .
إضافة إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والمرابطون، يظهر أنصار الشريعة في تونس الذي ظهر إلى الوجود في أبريل 2011 في خضم ” ثورة الياسمين” ، بدأت نشاطاته في العلن إلى غاية منعه من قبل المؤتمر التونسي في مايو 2013 ، بسبب الأعمال المنسوبة للتنظيم، منها الهجوم على السفارة الأمريكية بتونس في سبتمبر2012، وقتل السفير الأمريكي رفقة ثلاثة أمريكيين بالقنصلية الأمريكية ببنغازي في 11 سبتمبر2012، واغتيال المعارضين التونسيين، شكري بلعيد ومحمد براهمي في 25 جوان 2013.
توسع نشاط تنظيم أنصار الشريعة من تونس إلى شمال شرق ليبيا، وانتشر التنظيم بشكل فعال في مدينة بنغازي، كما يقود بعض الهجومات المسلحة على الحدود التونسية الجزائرية، باتجاه جبال الشعانبي أين تتحصن الجماعات الإرهابية.
لا يخفي تنظيم أنصار الشريعة أهدافه المتمثلة في تطبيق الشريعة الإسلامية في تونس وليبيا، حيث يؤكد قائد التنظيم سيف الله ابن الحسين، المدعو أبوعياض، نهجه القائم على العنف المسلح خصوصا بعد التجربة التي اكتسبها في مشاركته في القتال في أفغانستان إلى جانب حركة طالبان التي التحق بها في بداية 2000، وقد شارك في عملية اغتيال القائد مسعود في 9 سبتمبر2001. وقد تم تصنيف أنصار الشريعة في 10 يناير 2014 ضمن القائمة الإمريكية للجماعات الإرهابية.
يرتبط تنظيم أنصار الشريعة بعلاقات تنسيقية بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهو ما اتضح في اجتماع تنسيقي ببنغازي في سبتمبر 2013 بين الجماعات الإرهابية الليبية، المغربية والمصرية والتونسية وممثلين عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وبحضور ممثلين عن جبهة النصرة السورية، نشرت تفاصيله الصحيفة الألمانية “والت أم سونتاك” Welt am Sonntag
يبرز صراع الولاءات بين تنظيم القاعدة وداعش بشكل خافت في الجزائر وتونس عكس ليبيا، فإذا كان أنصار الشريعة في تونس تعلن ولاءها لتنظيم القاعدة، فإن كتيبة عقبة بن نافع التي تأسست في سنة 2012 أعلنت ولاءها لتنظيم داعش بعدما كانت الجماعة محسوبة على تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتتمركز أساسا على الحدود التونسية الجزائرية، بمنطقة جبال الشعانبي، وتركز هجوماتها المسلحة على القوات الأمنية والعسكرية لكلا البلدين. وفي نفس الاتجاه، فإن جند الخلافة الذي ظهر في الجزائر،أعلن ولاءه لداعش بعدما انشق عناصره عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وقام بعملية اختطاف وقتل الرعية الفرنسي ” هرفي غوردل”.
استغلت الجماعات الإرهابية العابرة للحدود في شمال إفريقيا حالة الفوضى الأمنية في الدول التي تعرف حالات الانتقال الديمقراطي لتتمدد في المجالات الحيوية، سواء في المناطق البحرية أو المناطق الغنية بالثروات الطبيعية، لكي تبني قوتها من خلال المزيد من التعبئة والتوسع، وهذا ما شهدته ليبيا، من خلال سيطرة الجماعات الإرهابية على المنفذ البحري لخليج سرت و صراعها على النفط الذي يشكل عصب الاقتصاد الليبي. فقد سيطر تنظيم داعش على هذه المناطق الساحلية نظرا لأهميتها الاستراتيجية اقتصاديا وعسكريا، وكانت درنة أول “إمارة” لداعش، حيث أعلن التنظيم الإرهابي ولاءه لأبي بكر البغدادي ولداعش في نهاية 2014، ورمزية مدينة درنة، الساحلية في شرق ليبيا، تكمن في احتضانها العديد من الشباب الذين شاركوا في القتال في أفغانستان والعراق في فترة حكم القذافي. وقد استغل هذا التنظيم الإرهابي حالة الصراع الثنائي بين جيش الكرامة الذي يقوده اللواء خليفة حفتر في شرق ليبيا وجماعة فجر ليبيا في غرب ليبيا، ليتمدد في مدينة بنغازي الساحلية، وبعدها يسيطر على خليج سرت الغني بالنفط.
يعود تشكيل داعش في ليبيا إلى 4 أبريل 2014، بعدما أسس الليبيون العائدون من سوريا مجلس شورى شباب الإسلام، وكانوا قد تجمعوا من قبل تحت راية كتيبة البتار، التي أنشأت في سنة 2012. ويقدر عدد المقاتلين في صفوف داعش في ليبيا حسب تقديرات كتابة الدولة الأمريكية في مارس 2015، ما بين 1000 و 3000 مقاتل، بينما تشير تقارير الأمم المتحدة في نوفمبر 2015 إلى أن عدد قوات التنظيم في ليبيا يتراوح ما بين 2000 و3000 مقاتل من ضمنهم 1500 متمركزين في منطقة سرت .
يستمد التنظيم الإرهابي في ليبيا قوته من ايديولوجية تنظيم الدولة الإرهابية (داعش) القائمة على الاستيلاء على الأرض والموارد، بحيث كشف هذا التنظيم الإرهابي في أكتوبر 2014 على ما سماه “بخريطة دولة الخلافة” تشمل العراق وسوريا، كردستان، كازاخستان، بلدان الخليج، اليمن، القوقاز، بلدان المغرب العربي، الأناضول، مصر وإثيوبيا، وكل القرن الإفريقي، الأندلس وجزء من أوروبا.
تقوم التحديات الأمنية لهذا التنظيم، أنه يجند في صفوفه مختلف الجنسيات بما فيها الأوروبية، حيث تشير التقديرات المتفاوتة، ما بين 30 ألف و200 ألف مقاتل في التنظيم، يحتل ثلث العراق وثلث سوريا، بمساحة تصل إلى 250 ألف كلم مربع، بنفس مساحة بريطانيا، بوعاء سكاني في المناطق التي يسيطر عليها ما بين 10 إلى 12 مليون نسمة، مما يعطي للتنظيم القدرة على التجنيد والتعبئة. في تقرير قدم لمجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة في فيفري 2015، قدر عدد المقاتلين الأجانب في العراق وسوريا ب22 ألف مقاتل من ضمنهم 700 مقاتل من جنسية فرنسية.
بعد ثمانية أشهر من صدور قرار مجلس الأمن في 24 سبتمبر 2014 المتضمن مكافحة تمويل، تجنيد وتنقل الإرهابيين للقتال في سوريا والعراق، قدم تقرير من قبل الأمم المتحدة يشير إلى وجود مقاتلين من 100 دولة إلى جانب التنظيم الإرهابي داعش في العراق وسوريا، تصاعد عددهم من 15 ألف مقاتل إلى 25 ألف مقاتل، بزيادة وصلت إلى 71 بالمائة في ما بين مارس 2014 ومارس 2015 ، بينما قدرت مصالح الاستخبارات الأمريكية في سبتمبر 2015، عدد المقاتلين الأجانب في سوريا والعراق ب 30 ألف مقاتل منذ 2011، أي بضعف العدد الذي تم إحصاؤه سنة قبلها، أي في سبتمبر 2014. ووفق دراسة أنجزها المركز الدولي للدراسات ومكافحة التطرف، فإن من بين عدد المقاتلين الأجانب الذين يشكلون الأغلبية في صفوف داعش هناك 3 ألاف تونسي، و2500 سعودي ثم المغرب والأردن وروسيا ب 1500 ألف مقاتل .
وهو ما جعل السلطات الأمنية في دول شمال إفريقيا تدق ناقوس الخطر حول التهديدات التي يمكن أن تلحقها الجماعات العائدة من القتال من سوريا والعراق وليبيا، فحسب لطفي بن جدو، وزير الداخلية التونسي، فإن تقديرات الأمن التونسي في جوان 2014 لعدد المقاتلين التونسيين في سوريا وصل إلى 2400 مقاتل في صفوف جبهة النصرة وأغلبيتهم 80 بالمائة في صفوف داعش، وفي فبراير 2014 صرح لطفي بن جدو، أن السلطات التونسية منعت 8 آلاف تونسي من اللحاق بسوريا، في الوقت الذي عاد 400 تونسي بعدما قضوا فترة في سوريا.
تصاعد خطر المجندين التونسيين للقتال في سوريا والعراق وليبيا جعل خبراء الأمم المتحدة يطالبون باحتواء هذا الخطر الذي يهدد المنطقة، بحيث تزايد عددهم في صيف 2015 إلى 5.500 مقاتل، مما جعلهم من بين أكبر المجندين ضمن قائمة المقاتلين المنتسبين ل 100 دولة ، حسب إليزابيتا كارسكا Elzbieta Karska ، التي ترأس مجموعة عمل محاربة المرتزقة التابعة للأمم المتحدة، وقد قدمت إحصائيات جديدة مقارنة بسنة 2014، بعد زيارتها الميدانية لتونس ولقاءها بمجموعة الفاعلين السياسيين والمجتمع المدني، تشير إلى :” وجود 4 ألاف مقاتل تونسي في سوريا، 1000 إلى 1.500 مقاتل في ليبيا، 200 في العراق، 60 في مالي و50 في اليمن، و625 الذين عادوا من العراق يتابعون قضائيا”.
هذا التصاعد الملف للانتباه لعدد المقاتلين التونسيين المجندين في سوريا والعراق وليبيا، كبد الدولة التونسية خسائر بشرية ومادية، ويحاول أن يضرب عمق الاستقرار السياسي والاقتصادي، في ظرف ثلاثة أشهر تم ضرب عمق السياحة التونسية من خلال عمليتين إرهابيتين أخذت صدى عالمي بعد مقتل 59 سائحا أجنبيا في متحف باردو بالعاصمة والمنتجع السياحي في سوسة.
اشتد عود الجماعات الإرهابية في شمال إفريقيا باستفادتها من فوضى انتشار الأسلحة بعد سقوط نظام القذافي، لما كان يملكه النظام من ترسانة عسكرية متنوعة، ” الحكومة الليبية كانت تملك إلى ما يقارب 20 ألف صاروخ مضاد للطيران، مما جعل سعر صواريخ ستينغر stinger يتراجع في السوق السوداء من 10 آلاف دولار إلى 4 ألاف دولار في الأيام الأولى لسقوط نظام القذافي” . وحسب تقديرات بعض الخبراء، فإن نظام القذافي تحصل على ترسانة متنوعة من الأسلحة الخفيفة: 100 ألف بندقية تم استيرادها من أوكرانيا ما بين 2007- 2008 ، و 10 آلاف مسدس استورد من إيطاليا سنة 2010، وفي نفس السنة، اشترت ليبيا الصواريخ المضادة للطيران من روسيا، ونظمت معرضا للسلاح استقبلت فيه 100 عارض من 24 دولة. تأثيرات فوضى السلاح في ليبيا أثرت بشكل كبير على دول الجوار لليبيا خصوصا في منطقة الساحل من مالي إلى السودان، حيث تعززت الحركات الانفصالية في النيجر، التشاد، السودان ومالي، وهذا ما أكده تقرير للأمم المتحدة رقم S/2012/42 الصادر في 18 يناير 2012 ، إذ يشير إلى أن النزاع المسلح في ليبيا سمح للجماعات الإرهابية والمتطرفة في الساحل الصحراوي، مثل بوكو حرام وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب، بالحصول على مخازن كبيرة من الأسلحة، ذات نوعية مثل، القنابل اليدوية، رشاشات مضادة للطيران، بندقيات آلية، ذخائر، متفجرات، وكذا الأسلحة الخفيفة المضادة للطيران المحمولة في الشاحنات.
وحسب بعض التقديرات، منها ما صرح به الأميرال جيامباولو دي باولاGiampaolo Di Paola ، رئيس اللجنة العسكرية التي تشمل قادة الأركان لبلدان الحلف الأطلسي، أن 10 ألاف صاروخ أرض-جو اختفىت بعد النزاع في ليبيا، مما تشكل تهديدا حقيقيا للطيران المدني من كينيا إلى أفغانستان. بالنسبة لدول شمال إفريقيا والساحل، فإن الخطر يكمن في ترسانة السلاح الخفيف المتشكل من المتفجرات والمسدسات، حيث تخزن ليبيا ما بين 800 ألف إلى مليون سلاح خفيف يتوزع على مجموع التراب الليبي، ويمكن للجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة أن تستولي على صواريخ سام-7، التي يسهل حملها من قبل شخص واحد ونقلها في سيارة خفيفة، لديها القدرة على الاستخدام على مدى 5 كلم، وكانت مالي الدولة المباشرة التي تأثرت بفوضى السلاح وعودة التوارق الذين كانوا ضمن الجيش الليبي، وتصاعدت المطالب الانفصالية والحركات الإرهابية العابرة للحدود على غرار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب أو جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا.
تطرح قضية فوضى السلاح تهديدات قائمة ومحتملة على كل بلدان شمال إفريقيا، فالجزائر باعتبارها أكبر دولة جغرافيا في المنطقة، يصعب عليها مراقبة الحدود الشاسعة التي تصل إلى 6 آلاف كلم، حيث تتقاسم مع ليبيا والنيجر فقط أكثر من 2000 كلم، وبينها وبين مالي ما يفوق 1400 كلم، مما جعلها تنتهج استراتيجية تأمين الحدود بانتشار وحدات الجيش الوطني في المناطق الحيوية، ومكافحة تنقل الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة عبر كل الحدود الجزائرية، ونشير هنا على سبيل المثال، لحجم التهديدات الأمنية من خلال الحصيلة التي قدمتها القوات الأمنية الجزائرية في السداسي الأول لسنة 2015، في مجال مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات والجريمة المنظمة، بحيث تم ” تحييد 102 إرهابيا بالقضاء على بعضهم وتوقيف آخرين، وتمكنت وحدات الجيش الوطني الشعبي من استرجاع 150 وحدة من الاسلحة..وتدمير653 عبوة متفجرة، كما تم استرجاع كميات كبيرة من الذخيرة وهواتف نقالة وأجهزة “جي بي أس” مع تدمير عدة مخابئ للإرهابيين.
ختاما، يمكن التأكيد على أن منطقة شمال إفريقيا تعتبر جغرافيا منطقة ارتدادات للزلازل الجيوسياسية الواقع ثقلها في منطقة الشرق الأوسط، فمن أفغانستان إلى العراق وسوريا، تتشكل الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي يعاد انتشارها وتشكيلها طبقا للتناقضات الإقليمية والدولية، فعودة الأفغان العرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أو عودة المقاتلين من سوريا والعراق يشكل نواة للقيادات التي تنشط في شمال إفريقيا، لكن هذا لا يمنع من استغلال هذه الجماعات والتنظيمات لتعثر الانتقال الديمقراطي في منطقة شمال إفريقيا، كما حدث في الجزائر في بداية التسعينات من القرن العشرين، وتونس وليبيا في مرحلة ما بعد الربيع العربي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق