بحوث ودراسات

حلقة الفكر الإسلامي

فوزي عمار :كاتب وسياسي ليبي


نشأ الخلاف الفكري عند المسلمين في العديد من القضايا الفكرية وهي في أغلبها خلاف فقهي و ليس عقديا إلا في مواضع قليلة ..
لقد اعتمد الفكر الإسلامي على علوم ابتكرها في هذا المجال ومنها علم الجرح والتعديل بالإضافة إلى التلاقح مع الفلسفة الإغريقية التي أخذها العرب المسلمون بعد فتح مصر تحديدا والإندماج مع مدرسة الإسكندرية الإغريقية .. علم الجرح والتعديل الذي نشأ في صدر الإسلام لدراسة علم الرواية .. رواية الأحاديث الشريفة والتحقق منها منهجيا وعلميا .
ومع ذلك نشأ العديد من الفرق مع الإختلافات في ما بينها، وهذه بعض الإنقسامات التي رصدها لنا المؤرخون العرب والإسلاميون،ولعل أشهرها الخلاف بين الغزالي وابن الرشد في مبدإ العقل والنقل .

كان الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في الظنيات لا في القطعيات ، في المتشابهات لا في المحكمات، في الفروع وليس في الثوابت والعقيدة ، من باب : هل الله أمر بالخير لأنه خير ونهي عن الشر لأنه شر ، أم أن الخير خير لأن الله أمر به والشر شر لأن الله نهي عنه ؟ تبني المعتزلة الرأي الأول و الأشاعرة الرأي الثاني.
( 2 ) اختلف الفقهاء في قضايا من أهمها قدم العالم وانقسموا بين من يقول إن العالم قديم ومن يقول إنه مُحدث .. الغريب أن فقيها مثل ابن تيمية قد انحاز إلى الفلاسفة وقال بقدم العالم مثلهم، مما جعله يقف في صف من كفرهم، وجاء الدور عليه ليُكفَّر هو نفسه أيضا من قبل من كانوا أنصارَه .. ومن أجمل ما قرأته في وصف موضوع قدم العالم أو إحداثه ، هو أن الله أوجد الأشياء من عدم وأعدم العدم فأصبح العدم وجودا.
( 3 ) قضية أخرى اختلف بشأنها الفقهاء، وهي الزمان والمكان ، وهل المكان ثابت أم متحرك فالبرغم من أن الفيلسوف الصوفي أبو حامد الغزالي قد انتصر على فلاسفة العقل مثل ابن رشد ،إلا أن رأيه في أن المكان متحرك وليس ثابتا قد أثبتته التجربة العلمية (الإمبريقية) مؤكدا أن بعد الزمان وبعد المكان لا يمكن الفصل بينهما ولا معني للزمان بدون المكان .
وقال إن العالم محدث ومن خلق الله وليس قديما، وبرهن على أنه إذا كان الزمان دالة في الحركة فإن الكون متحرك وليس ثابتا ..
وهذا ما أكده العلم ، وتم قياس عمر الكون بأنه يقارب 14 مليار سنة ،وأن الكون يتمدد وليس ثابتا.. العجيب أن القرآن وصف الزمان بأنه علاقة بمنظومتنا الشمسية حين قال :(ألف سنة مما تعدون)، وفي مقام آخر( خمسون ألف سنة مما تعدون) وهو وصف دقيق، فالسنة لها علاقة بدوران الأرض حول الشمس ..
وبأي قياس خارج المنظومة الشمسية لا تعني السنة شيئا وهذا ما شرحه اينشتاين في نظرية النسبية وفشل فيه نيوتن.
. ( 4 ) اشتغل مفكرون إسلاميون بالعلوم وقادوا الأمة إلى مشروع نهضة حقيقي بدأ بمشروع حداثة .. فالحداثة مثلا، وضع لها هيغل مفهوما واضحا حيث بدأ تعريفه لها بأنها ظهرت مع عصر التنوير والعصور التي شكلت تجددا مستمرا وحركة نهوض وتطوير وإبداع، هدفها تغير أنماط التفكير والعمل والسلوك وهي حركة تنويرية عقلانية مستمرة لتبديل النظرة الجامدة للكون والحياة والأشياء إلى نظرة أكثر تفاؤلا وحيوية، وهذا ما فعله مفكرون إسلاميون اشتغلوا على الإجتهاد المستمر الذي يبرهن على أن الإسلام صالح لكل زمان و مكان ..
لقد وضع عصر النهضة الإسلامي أول أسس مشروع تحديث وتنوير وتطوير اجتماعي واقتصادي وثقافي شامل بدأ من القرن التاسع و حتي الثالث عشر الميلادي.. حدثت نهضة فكرية اجتماعية قادها مفكرون مثل الفارابي وابن رشد وابن باجة والتوحيدي وابن مسكوية وابن سينا وغيرهم، وكان العرب والمسلمون يشكلون مرجعية ثقافية لمفكري أوروبا حتى عصر النهضة، إذ تأثر الأاوربيون بالمفكرين والفلاسفة العرب والمسلمين، خصوصا الفارابي وابن سينا وابن رشد و حتى الكندي الذين جسدوا انفتاحا على العلوم الدنيوية العقلانية فكانوا يجمعون بين علوم القرآن والفلسفة من دون الشعور بالحرج،ومكنهم ذلك من القدرة علي التطور والإبداع..

  1. خلاف من نوع آخر كان بين فقهاء العقل وفقهاء النقل، وكان لكل منهم أساس نظري جادل به وفند فكرة الآخر، فكان لفقهاء العقل الأساس والمعرفة العلمية بينما فقهاء النقل تبنوا المعرفة الدينية كأساس للمجادلة .. يطلق على الأولى الإبستومولوجيا وعلى الثانية الغنوصية ، الأولي تجدها في المعمل وتصل إليها بالتجربة،أما الأخرى فيخبرنا بها الله في الكتب السماوية وجاء بعضها في الأحاديث الشريفة.
  2. يصل الإنسان إلى المعرفة العلمية (علم الشهادة )، ولكنه لا يصل إلى المعرفة الدينية (علم الغيب)إلا بالإيمان.. فلن تصل بالعلم إلى جواب عن أسئلة الروح مثلا وأين يذهب الإنسان بعد توفي الأنفس والتي لا يعلمها إلا الله .. (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)..وتعني الإبستيمولوجيا علم العلوم أو علم المعرفة..
    وانقسمت الإبستيمولوجيا إلى عدة اقسام فلسفية،هي الفلسفة الوضعية ، الفلسفة التفسيرية أو الفينومينولوجيا وهي فلسفة تعتمد على الشرح ، الفلسفة الواقعية وهي فلسفة تقع بين الفلسفة الوضعية والتفسيرية، الفلسفة العقلية تقول بمبدإ العلية ..
    كل ظاهرة لابد أن يكون لها علة ، فالعلم يشرح سبب غليان الماء وتجلط الدم مثلا كل القضايا القابلة للرصد والتجربة، ولا يبحث العلم سبب احتياج المعلول لعلته ، فالتجريب لا يقطع بجوهر العلية.
    أما المعرفة الدينية التي تسمي بالعرفان فهي أحد المناهج المتبعة للوصول إلى الله.. والعرفان من مصدر عَرَفَ فيقال عارف بالله ، أي متحقق بمعرفته ذوقاً وكشفاً، ويُطلق عليه أيضاً المعرفة “اللّدنيّة” أي التي تكون من لدن الله .. يقول المفكر محمد عابد الجابري: “يبدو أن العرفان نظام معرفي ، ومنهج في اكتساب المعرفة ،ورؤية للعالم وأيضاً موقف منه ، انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام في الشرق الأدنى.. واستعملت أيضا كلمة الغنوص،وهي يونانية الأصل، ومعناها المعرفة، بمعنى العلم والحكمة، غير أن ما يُميّز العرفان هو أنه من جهة معرفة بالأمور الدينية تخصيصاً، وأنه من جهة أخرى معرفة يعتبرها أصحابها أسمى من معرفة المؤمنين البسطاء وأرقى من معرفة علماء الدين الذين يعتمدون النظر العقلي” .انتهى الإقتباس.
    فالعرفان أو المعرفة الدينية تؤمن بالجعل .. جعل الشيء .. يقول تعالي:( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) وهناك فرق بين الإيمان بالله والإيمان بالعلم ..المشکل یکمن دائما عند بعض الناس فی الخلط بین الإثنین، فتجد من یؤمن بالعلم فقط والعکس صحیح، وتجد من یؤمن بالدین وینکر علی العلم أي دور.. أظن أن کليهما جانبهما الصواب إذ لابد من الجمع بین الإثنین، فکما أن الإنسان هو جسد وروح كذلك العلم یحاط بالجسد، والدین بالروح.. خلق الله الإنسان للعبادة وإقامة العدل والقسط للوصول إلى السعادة الأبدية، وسنام غاية الدين هي التقوى لتكافئ بالسعادة الأبدية وهي الجنة ، والعمل جزء مهم من العبادة لإعمار الأرض ..
    وجعل الله الإيمان مرتبطا دائما بالعمل الصالح (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وصولا إلى غاية التقوى وهي سنام الدين.
    والأساس الصحيح لحياة ناجحة هو الجمع بين المعرفة الدينية والمعرفة العلمية والجمع بين القرآن والعلم .. وحريّ أن نذكر هنا أن مما لاشك فيه أن كل ما ذكر في القرآن هو حقائق أثبتها وسوف يثبتها العلم، لأنه من عند الله، ولأنه الوحيد الذي يجمع بين العلمين ، علم الدين وعلم العلم والمعرفة..وهو سبحانه(عَالم الغَيْبِ والشَّهَادَةِ).

. 7 . جانب آخر مهم شاب الخلاف الفقهي منذ بدايات الإسلام وخاصة في نهاية العهد الراشدي وهو الخلاف السياسي . فاجتماع السلطتين الدينية والسياسية في رجل واحد كان سمة عصر النبوة حيث جمع الرسول العربي الكريم بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية وانتهى ذلك بوفاته وبانقطاع الوحي، فلا مجال لأحد بعد الرسول أن يساوي نفسه به صلى الله عليه وسلم ، وعاش الإسلام فترة بسيطة جمعت الدين مع المشروع السياسي وهي فترة النبوة والخلافة الراشدة ،قال عنها سيد الخلق سيأتي بعدها ملك عضوض.
أما ما سيأتي بعد ذلك سواء في العصر الأموي أو العباسي أو حتى العصر الحالي فما هو إلا إضفاء الدين على السياسة وإطلاق المقدس وهو الدين على الحاكم، ووصف كل من يعارضه بالمدنس، وهنا تكمن الخطورة.. وكما يعترف أحد دعاة الإسلام السياسي اليوم،الإخواني راشد الغنوشي، إن أشد أنواع الطغيان هو ما سيأتي باسم المقدسات وإضفاء صفة المقدس .

  1. استعمال الدين في السياسة..تاريخيا جاء(الإسلام السياسي) بصفتين إما الطرح الأيديولوجي للخطاب الديني مثل جماعات الإسلام السياسي حاليا وأشهرها جماعة الإخوان المسلمين، أو استعمال العرق والنسل الشريف مثل ما فعل ملك الأردن وملك المغرب باعتبارهما من نسل الأشراف،وهنا أيضاً تكمن الخطورة في توظيف الدين لمصلحة السلطة والحكم باسم الدين بدلا من الحكم بالشورى وبالعدل باعتباره أساس الحكم.. والخلاف مع هؤلاء يعتبر مثل الخلاف مع الدين نفسه!
    .9 – يعتمد النظام السياسي في الإسلام “السياسة الإسلامية” التي تتمثل في التشريعات الفقهية المستمدة من النص القرآني وسنة الرسول.. وانتقالا إلى كتابات بعض الفقهاء الذين كتبوا في الإسلام السياسي أو نظرية الحكم الإسلامي كالماوردي في كتابه”الأحكام السلطانية”، وابن تيمية في كتابه”السياسة الشرعية” وابن الجوزي والغزالي وغيرهم من المحدثين، نجد أنهم جميعا لا يخرجون عن القاعدتين الأساسيتين لنظرية الحكم الإسلامي وهما مبدأ العدالة والشورى، الذي تنص عليه معظم الدساتير الحديثة اليوم، ولكن في التطبيق الواقعي لم نصل إلى ذلك لعدة أسباب باتت أقوى من التشريع وهو التفسير الخاطئ للدين من ناحية وكذلك التعصب الديني داخل المنظومة الدينية نفسها
    إن مبدأ العدالة يعني تطبيق قول الرسول ” لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها “..والعدالة تعني التوزيع العادل للثروة والمساواة أمام القانون في كل شيء بين الحاكم والمحكوم وهو مبدأ دستوري، والثاني هو مبدأ الشورى الذي يقوم على قاعدة المشاركة في القرار السياسي وتوزيع الثروة.
    من هنا نخلص إلى أن التشريع الإسلامي لم ينصَّ على أي نظام حكم بعينه فردي أو ديمقراطي ، ملكي أو “آية الله”، جمهوري أو خلافة .. فالأهم هو الحرص والتأكيد على هذين المعيارين الديمقراطيين اللذين يضمنان الحقوق والواجبات وهما:العدالة والشورى .

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق