أخبار العالمبحوث ودراسات

  انتكاسة العولمة وعودة القوميات

إعداد عادل الحبلاني قسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية

إشراف ومراجعة: الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية

يبدو أن حسم جدلية الصراع بين العولمة والقومية وانتصار الأولى على حساب الثانية  ليس إلا ضربا من ضروب المغالاة التي تعبر عن نرجسية أنصار الليبيرالية الجديدة، ذلك أن الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية والبيئية والصحية التي يشهدها العالم الحديث والمعاصر،  تعيد إلى واجهة النقاشات والمباحث الفكرية والفلسفية والعلوم السياسية التساؤل عن مدى وجاهة قيم العولمة إذا ما نظرنا إليها عمليا لا نظريا.

 فنظريا يحمل هذا النظام العالمي الجديد ( العولمة) في أيديولوجيته براديغمات جديدة ونزعة شمولية كونية تحمل في ثناياها محاولات وشروط إمكان إنهاء تاريخ من الحروب والصراعات الأممية والإقليمية عبر ترسيخ نموذج ونمط سياسي كوني قادر على استيعاب النزاعات وهادف إلى ترسيخ قيم الحرية في ارقى تجلياتها من خلال نظام سياسي عالمي قاعدته الديمقراطية وثماره الحريات والرفاه المادي للإنسان ولشعوب العالم دون تمييز على أساس العرق أو اللون أو الانتماء الديني، إلا أنه عمليا ليس إلا إعادة إنتاج لاستعمار جديد، مداخله سياسية واقتصادية وثقافية وغاياته القصوى هي مواصلة سيطرة القوى العظمى على جغرافيا  خيرات الأرض ونهب مقدرات الشعوب، بما ضاعف اجتماعيا نسب الفقر والجوع والبطالة والجريمة حول العالم و أغرق اقتصاديا الدول في المديونية والتبعية وضرب سياسيا كل مقومات الدولة الوطنية ذات السيادة وطمس حضاريا كل الاختلافات الثقافية.

 كل هذه العوامل وعلى أهميتها جعلت من العولمة مدعاة للازدراء ومبعثا لعودة القوميات والدولة الفيبرية (نسبة لماكس فيبر) كوجه جديد قديم وأداة شرعية وسبيل للخلاص من مساوئ النظام العالمي الجديد الذي كشف عن لا كونيته خاصة في ظل الجائحة الصحية التي عاشها العالم وانكفاء الدول على أنفسها بمنطق “أنا أولا” في ضرب صارخ لكل قيم التكاتف والتعاون والتآزر الدولي.

كيف عملت العولمة على طمس الجغرافيا ؟

مالذي يبرر عودة القوميات ؟

العولمة ومحاولات طمس الجغرافيا

إن نهج الطرق المظلمة والمخالفة للمسارات المستنيرة والوقوف عند عتبات بعض المواضيع الشائكة وإزالة بعض الغبار الذي يغطي وجهها الحقيقي، يكشف دائما عن خفايا ما هو كائن ليتصل بالأسباب العميقة لظهور الأشياء على نحو دون اخر ويبرز لنا الذهنية والخلفية الإبستيمية التي ساهمت في تبلور ظاهرة ما، فالعولمة على سبيل المثال ومنظور إليها من جهة النشأ على أنها ظاهرة اقتصادية تعني التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم والذي حتّمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبر الحدود إضافة إلى رؤوس الأموال الدولية والانتشار المتسارع للتقنية في أرجاء العالم كله.

 الأمر الذي حولها إلى حالة من الترابط الاقتصادي بين الاقتصادات الوطنية والإقليمية والمحلية في جميع أنحاء العالم تقريبا، مدفوعة بتركيز الشركات العابرة للقارات ومسنودة بالأهمية المتزايدة للمعلومات ذات الطابع الإنتاجي وبسرعة تطوير العلوم والتكنولوجيات بما يسمح بتطوير الصناعات في كل مصانع العالم وتعزيز التكافل الاقتصادي والاعتماد المتبادل  بالإضافة إلى إلغاء الحدود الجغرافية والأدءات الجمركية وهيكلة سرعة تنقل السلع برا وبحرا وجوا وتحرير التجارة العالمية تحريرا كاملا وتحويل العالم إلى قرية صغيرة.جعل منها مطلبا دوليا سيما وأنها تسهم نظريا في نشر الثروة على المستوى الوطني والفردي وهي السبيل للتطور العلمي والتكنولوجي والوجه الأمثل لنماء الدول وتحسين ظروف عيش مواطنيها.

 إلا أن ظاهرة العولمة وإن نظرنا إليها ضمن سياقها التاريخي والسياسي والعلاقات الدولية فهي لا تعدو أن تكون إلا الوجه الجديد للاستعمار الذي قام على أنقاض تفكك الاتحاد السوفياتي وانهياره في أعقاب الحرب الباردة وتفرد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم سياسيا وعسكريا وتكنولوجيا وثقافيا.

 فالعولمة في جوهرها ووفق سياقات نشأتها ليست إلا تصور فكري ليبيرالي أمريكي يسعى إلى السيطرة على العالم من خلال رسم ملامح جديدة للعلاقات الدولية تهدف إلى تقويض الجغرافيا ومن وراءه أو كنتيجة لذلك ضرب مفهوم الدولة القومية وإنهاء منطق سيادة الدول على جغرافياتها وسيادتها من خلال مداخل اقتصادية وتحت شعارات مختلفة كحقوق الإنسان والديمقراطية باعتبارهما القيم الكونية التي تسمح بإحلال الارتباطات والاعتماد المتبادل بين الشعوب عبر العالم وخلق مستوى أعلى من الترابط الثقافي والحضاري ينهي مع أهواء الغزو والحرب  ويرسخ الرشادة ويؤسس للمجتمع المدني الكوني كما ذهب إلى ذلك مناصر العولمة والمدافع الأشد عليها توماس فريدمان في كتابه ” سيارة ليكسيس وشجرة الزيتون، محاولة لفهم العولمة” بقوله ” العولمة الملمح الأكثر بروزا في هذا العصر الجديد وليس الجغرافيا مثلما كان سائدا في السابق، بعدما وحّد الجميع وقوضّت الأسواق والشركات العالمية والآلة والتكنولوجيا من سيادة ودور الدول على المسرح الكوني”.

وحيث أن الجغرافيا التي تسعى العولمة إلى طمسها وتغييبها هي في حقيقة الأمر أمرا واقعا وجغرافية دول وحدود عينية وواقعية لطالما كانت قيمة يذاد عليها، وغاية وهدف الدول الاستعمارية.

 بالإضافة إلى أنها  ميدان بحث مستقل بذاته تعنى به العلوم الجيوسياسية التي عرفت كغيرها من الميادين حالة من الركود في ظل سيطرة نموذج ليبيرالي كاد يلامس الكونية وينهي داخله منطق التوازنات العالمية في إهمال وسوء تقدير كامل إلى أن العالم تحكمه قوانين الستاتيكا كما قوانين الديناميكا وفق التصور الوضعي للعالم.

 فالمباحث الجيوسياسية  كغيرها من ميادين البحث التي على استحالة من الثبات عرفت أيضا حالة من الحركية التي  جعلت منها مدخلا واقعيا لفهم العلاقات الدولية الجديدة التي تنذر بانهيار مقولات العولمة بل وأكثر من ذلك تحديد مواطن ضعفها، فالحديث بالمنطق الجيوسياسي الإمبيريقي  عن وهم العولمة هو في حقيقة الأمر حديث عن عودة السياسة الواقعية، أي عودة أهمية الجغرافيا بعد استباحتها من قبل الدول الرأسمالية، ذلك أن الجغرافيا لا تزال مستمرة التأثير ومحاولات العولمة هزمها وإلغاءها وتعويضها بالانفتاح الكلي للعالم على بعضه البعض في ظل تطور تكنولوجي هائل، هو في حقيقة الأمر ليس إلا مغالطة تغطي بها الدول الرأسمالية الاستعمارية نواياها الحقيقية المتمثلة في السيطرة والهيمنة و النفوذ على الأرض، ولعل اجتياح الغرب  للعراق وأفغانستان وليبيا وغيرها من الدول الإفريقية  التي تتوفر أراضيها على موارد طاقية وجغرافياتها على مواقع استراتيجية  لهما دلالتان أساسيتان على الأهمية التي توليها الدول الاستعمارية  للأرض والجغرافيا، الأمر الذي يقوض مقولات العولمة ويجعلها بالأساس عود على بدئ لذهنية ما قبل الاعتماد المتبادل بين الأمم وتوحيد الاقتصاد والمعرفة العلمية، إذ أن الترويج لهذه القيم السياسية والحقوقية وغيرها من القيم ذات الطابع الإنساني الكوني سرعان ما تحطمت على صخرة المصالح الاقتصادية للدول المهيمنة وكشفت عن أهمية الجغرافيا على المستويات الطاقية والاستراتيجية والعسكرية والأمنية، بهذا المعنى تحمل العولمة كل مقومات فناءها واندثارها وعودة الجغرافيا والأرض وسيادة الدول وأمنها إلى الواجهة سيما بعد تعافي العديد من الدول على غرار روسيا القيصرية  والصين  واليابان وألمانيا وغيرها من الدول، التي لم تلعب الدور التعديلي لموازين القوى بقدر ما تحولت إلى قوى عظمى قادرة على رفع الفيتو في وجه الولايات المتحدة الأمريكية وإقامة تحالفت هادفة إلى إنهاء منطق القطبية الأحادية التي سادت العالم طيلة عقد من الزمن.

 حيث يشتد التنافس بين أمريكا وروسيا في كل جغرافيا ذات بعد استراتيجي على غرار سوريا وليبيا ودول إفريقيا ودول شرق اسيا، كما يشتد التنافس الحاد بينها وبين الصين تجاريا وربما عسكريا في مناطق بحر الصين الجنوبي إذا لزم الأمر، منطق التوازنات العالمية الجديدة لا تؤكد فقط على تهاوي نظام العولمة الأمريكي التوجه بقدر ما تأكد على أن الجغرافيا كانت وستظل ذات حضور جوهري في العلاقات الدولية والسياسات التي ترسم ملامح كل تحول عالمي وهي بالضرورة صخرة الواقع التي لا ملاذ من محاولات تجاوزها، فالجغرافيا ليست فقط حدود بقدر ماهي انتماء ووطن وسيادة وتاريخ وثقافة، فقد ظلت عصية على كل محاولات إلغاءها وستظل كذلك وإن انتهكت مجالاتها بالطائرات النفاثة ودكت جبالها وسهولها ومدنها بالقنابل النووية وإن أبيدت شعوبها كما فعلت أمريكا والقوى الاستعمارية الغربية في الفيتنام والعراق وأفغانستان وإفريقيا وشمالها.

ليست الجغرافيا وعودة التوازنات العالمية وحدها التي تأكد عن عدم نهاية التاريخ بعد، بل إن نموذج العولمة نفسه انطلق أعرجا وهو ما لم يسمح له بمواصلة الطريق، لأن النوايا الاستعمارية ومنطق الاحتكارية لا يمكن لهما المضي قدما في التاريخ إلا بالقفز عليه، ولكن دائما مع علمنا التاريخ أن القفز على التاريخ ليس إلا مسألة عرضية، فالرمال المتحركة لا تجعل البناءات ثابتة وهذا ما ينطبق على بناءات العولمة التي تهاوت من الداخل كما من الخارج وفسحت المجال لعودة الدول القومية وأعادت إلى الواجهة صراع قديم جديد أكثر رعبا في ظل ترسانات نووية قادرة على إفناء المعمورة.

العولمة وعودة القوميات

لم ينتهي عصر القوميات وواهم من يعتقد ذلك، فالدول المناصرة والداعمة للعولمة والتي تتشدق بمقولات الانفتاح الاقتصادي والتلاقح الحضاري والتي هللت لسقوط المعسكر الاشتراكي وبداية ولادة النظام الدولي الجديد الذي يعمل تحت قبة الأمم المتحدة باعتبارها السلطة الجديدة لإدارة شؤون العالم وإنفاذ الاتفاقيات والمعاهدات والتشريعات الدولية، هي نفسها الدول التي تناقض ميثاق الأمم المتحدة وتعمل خارجه من منطلق الأمن القومي والمصلحة العليا لدولها ومواطنيها.

 ولعل الأمثلة البارزة التي تؤكد على الشعارات الواهية التي تؤسس لها العولمة هي المثال الأمريكي، حيث رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف بمحكمة الجنايات الدولية علما وأن هذه المنظمة واحدة من المؤسسات القضائية الدولية، بتعلة أن القوانين الأمريكية لا تسمح ولا تبيح محاكمة جنودها خارج إطار القضاء الأمريكي، وفي الحقيقة ليس الأمر على هذا النحو فقط، فأمريكا القوة الداعمة للعولمة ومقولاتها لم تتخلص ولن تتخلص أبدا من النزعة القومية حتى وإن ادعت ما يخالف ذلك ولن تتخلص أي دولة من هذه النزعة المتأصلة في أساس نشأة الدول، فالاتحاد الأوروبي الذي تنعم شعوبه بالديمقراطية والرفاه المادي بعد قرون من الحروب الدامية بين الدول المكونة له لم يرتضي إلغاء الدساتير الوطنية والتأسيس لدستور موحد جامع لكل دول الاتحاد الأوروبي، بما يفيد أن النزعة القومية والدساتير ومنطق السيادة القومية ستظل محرك العلاقات الدولية وأساسها الجوهري على الرغم من ادعاء العولمة القطع مع منطق القوميات، فالمنظمات العالمية من تجارة وحقوق إنسان وصحة التي أفرزها هذا النظام العالمي الجديد ليست إلا غطاء للرأسمالية المتأخرة في وجهها الليبيرالي المتوحش.

 ألم تكشف جائحة كورونا عن وهن شعارات التكاتف والتعاون الدولي؟

 ألم تعزل إيطاليا وإسبانيا اللتان واجهتا الموت منفردتين؟

 ألم يتم قرصنة شحنات الأدوية واحتكار إنتاجها بمنطق “أنا أولا” الذي هو في الأساس منطق قومي ادعت العولمة القطع معه؟

الخلاصة:

 إن جائحة كورونا ومن قبلها تعافي العديد من الدول على غرار روسيا والصين وألمانيا واليابان بالإضافة إلى التحالفات الدولية الجديدة، ناهيك عن الأزمة البيئية وتعطل مفهوم الديمقراطية ومقولات حقوق الإنسان في أغلب دول العالم هي التأكيد على عودة الدولة القومية التي عرفت حالة من الركود في الدول العربية كما في دول اسيا وأغلب الدول التي انهزمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث عوضت مقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان والاعتماد المتبادل والانفتاح الاقتصادي والتجارة العالمية بمقولات الأمن القومي الغذائي والطاقي والسيادة القومية، وعاد رفع الفيتو في وجه السياسات الغربية وعلى رأسهم أمريكا من جديد، وأصبح الحديث على إعادة ترسيم الحدود هو السمة الأساسية للمحادثات الدولية.

لن يكون تهاوي العولمة ودق اخر مسمار في نعشها مترتبا عن مقاومة الدول لهذا النظام العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا ومن ورائها الدول الغربية، بل إن طبيعة هذا النظام نفسه تحمل في ثناياها كل المقومات  السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لتفككها من الداخل واندثارها بالنتيجة من الخارج. 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق