أخبار العالمأوروبابحوث ودراسات

ما وراء انسحاب تركيا من معاهدة القوات المسلّحة التقليدية في أوروبا؟

انظمت انقرة الى معاهدة القوات المسلحة التقليدية في عام 1992، كان الهدف من الاتفاقية هو تشديد الرقابة على تحركّات الأسلحة وكمياتها وأماكن تخزينها.

وقد أعلنت تركيا في الخامس من شهر ابريل الجاري انسحابها من هذه المعاهدة ممّا أثار الدهشة لدى المجتمع الدولي.  من جهته اعتبر الطرف اليوناني أنّ انسحاب تركيا من المعاهدة بديهي نظرا لتجاوزها بنود الاتفاق بشكل ملحوظ من خلال إنتاج صناعات عسكرية بكميات كبيرة ودون خضوعها لأي من القيود المذكورة، كما نادت اليونان بضرورة توضيح نطاق الاتفاقية ومدى تطبيق معاهدة السماء المفتوحة.

تعتبر من المعاهدات الساعية لتكريس مبدأ الشفافية بين الدول في مجال الأسلحة في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، بحيث تمّ توقعيها بين طرفين رئيسيين، هما دول حلف الناتو ودول حلف وارسو في عام 1990، وكان الهدف منها الحد من عدد الأسلحة التقليدية التي يمكن أن يحصل عليها الدول (الدبابات المقاتلة، والمدفعية، الطائرات الحربية، المروحيات الهجومية، المركبات المدرّعة) والتصريح بشفافية عن الأماكن التي يمكن أن تُخزّن فيها هذه الأسلحة، كما ألزمت بتدمير الأسلحة الأخرى التي فيها خرق لبنود الاتفاقية.

تخضع هذه الاتفاقية بدورها الى ما يُطلق عليها أيضا “اتفاقية السماوات المفتوحة”، والهدف منها بالتحديد مراقبة مدى التزام الدول الأعضاء باتفاقية القوّات المسلحة التقليدية من خلال السماح لأي من الدول الموقّعة على الاتفاقية طلب إجراء تفتيش قبل يوم واحد للتثبت من التزام الدول الأعضاء الأخرى بإرسال طائرة ترصد الأسلحة الموضوعة في المكان التي أعلنت الدولة تخزين أسلحتها فيه.

وإذا ما تمّ خرق بنود اتفاقية الأسلحة التقليدية ووجدت احدى الدول نظيراتها من الدول الأخرى العضوة في الاتفاقية أسلحة غير متفق عليها على غرار الدبابات والمدافع، حينها يقع تفعيل آليات اتفاقية فيينا وتذكير الدولة المخالفة بمسؤوليتها تجاه الاتفاقية التي وقّعت عليها.

ومن بين المسؤوليات الأخرى التي تقع على عاتق الدول الأعضاء أنّها في حالة نقلت أي من المعدات الحربية مثل القطع أو الأنظمة العسكرية لمنطقة أخرى من أجل التخزين فهي ملزمة على القيام بإبلاغ الدول الأخرى الموجودة ضمن الاتفاقية. وخلال عملية النقل، تكون عملية الإعلام شفّافة ومنظّمة من أجل ضمان معرفة كل الدول الأعضاء بمواقع التخزين.

وبالتالي فإنّ الهدف الرئيسي من هذه الاتفاقية هو منع أي تفاقم للأزمة في فترة الحرب الباردة (أي إمكانية لحشد قوّات لشن هجوم سريع ضد الطرف الآخر في أوروبا) وتوسّع دائرة الثقة بين دول حلف الناتو ووارسو وتهدئة الأوضاع دون الدخول في حرب جديدة، ومع حصول تغييرات دولية جديدة مثل تفكك حلف وارسو وانضمام كل الدول الأوروبية الى حلف الناتو تغيرت كل الحسابات.

لا يعد قرار انسحاب تركيا من المعاهدة اعتباطيا، وهو استغلال واضح للظرف الحالي والتجاذبات العالمية التي تمر بها الدول والتوترات في العديد من الملفات والقضايا والدولية وخصوصا تكالب مختلف الدول الأوروبية على التسلح وتطوير قدراتها العسكرية مع التحديات التي تواجهها سواء بسبب الحروب أو النزاعات السياسية والدولية الأخرى في الشرق الأوسط أو في غيرها من المناطق.

ولن تفوّت تركيا هذه الفرصة والأزمات التي يمر بها العالم دون الخروج من قيود المعاهدة التي تعرقل قدراتها في تطوير أسلحتها أو توظيفها، خاصّة مع التغييرات العميقة في التحالفات الدولية بسبب سهولة تشكّل الصراعات والأزمات.

بالتالي فإنّ السعي لتحقيق مختلف مصالحها سواء كانت سياسية أو عسكرية وإعادة بناء تحالفات جديدة لا تقيّدها أي من الاتفاقيات الموقّعة سابقا للاستفادة من القدرات العسكرية للدول الأخرى وتبادل الخبرات يعد أولوية كبيرة بالنسبة الى تركيا على حساب أي من المعاهدات التي من شأنها أن تحول وتحقيق أهدافها.

وبالتالي تستأنف تركيا بعد الإنسحاب من المعاهدة نشاطها في إعادة هيكلة وتطوير قدراتها العسكرية والعمل على تطوير مخزونها من الأسلحة التقليدية وعموما منظومتها الدفاعية من خلال زيادة حجم إنتاجها العسكري بشكل يخلّصها من مظلة الهيمنة الأورو-أمريكي وهيمنة الدول الغربية، وبذلك تكتسب تركيا القدرة على ردع أي من التهديدات الدولية والإقليمية التي يمكن أن تحيط بها جرّاء التوترات الدولية الكبيرة دون اللجوء الى الغطاء الأمريكي أو الأوروبي.  

مع الانسحاب التركي حديثا والانسحاب الروسي سابقا من المعاهدة لم تعد هناك أي ركيزة لتطبيق الاتفاق بل أصبح ورقا على حبر خاصّة مع الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا ومزيد تحشيد القوات العسكرية في المناطق الانفصالية في جورجيا وتمركز القوات العسكرية في منطقة ترانسنيستريا الانفصالية التابعة لدولة مولدوفا، لذلك لم تعد هناك دواعي لاستمرار روسيا في البقاء ضمن الاتفاقية تجنّبا لأي طلب تفتيش مرتكز على اتفاقية السماء، بالتالي فقدت المعاهدة تقريبا كل قيمتها.

أوضح محلّلون أنّ تداعيات الانسحاب من هذه الاتفاقية له سلبيات ليس من الصعب رصدها، بل أصبح من الواضح الجزم أنّه ستشمل في البداية إلغاء كل القيود التي نصت عليها بنود الاتفاق، وبالتالي ستتوجّه كل الدول نحو التسلح بكل الإمكانيات الدفاعية المتاحة سعيا لتجنّب أي تهديدات من الدول الأخرى التي ستقوم بدورها بزيادة وزن صناعاتها العسكرية.

وبناء على ذلك، ستركّز الدول الأوروبية على تخصيص الكثير من النفقات لصالح على الأسلحة “وعندما تصل هذه الدول إلى حالة من الاكتفاء والرضا عن جيشها تزداد دوافعها العدوانية

ويبدو أنّ الإتفاقية في ظاهرها تركّز على عامل التوازن بين حلفين رئيسيين، هما حلف الناتو وحلف وارسو، لكنّها في الحقيقة أثرت على العلاقات داخل حلف الناتو والثقة بين أعضائها نظرا لتغيّر مختلف الموازنات والتحالفات العالمية، مثلما هو واضح بالنسبة لوضعية تركيا واليونان.

ويشير خبراء، الى أنّ مخاوف اليونان من انسحاب تركيا من الاتفاقية اتخذت فوق حجمها، إذ تعكس مدى نقص معرفتها بتفاصيل الاتفاقية، حيث تظن أنّ الاتفاقية كانت تضع قيودا على إمكانية اكتساب تركيا للأسلحة سواء، وأنّه بخروجها من الاتفاقية أصبح لها القدرة على استيراد ما تريده من الأسلحة، ولكن في الحقيقة تعمل المعاهدة على تقييد نشاط استخدام الأسلحة التقليدية وكمياتها المخزّنة فقط، دون التدخل في المصادر التي يمكن للدول الأعضاء أخذ الأسلحة منها سواء على المستوى المحلي أو الخارجي، وهي بذلك لا قيود على تلبية احتياجاتها الخاصّة من الأسلحة.

ويجدر الإشارة الى أنّ عملية التسلح ليست مجرّد عملية غير خاضعة لقوانين وميزانية خاصة وضوابط محدّدة لدى الدول، حتى مع انعدام وجود أي ضغوطات دولية، فرغم انسحاب تركيا، فإنّ ذلك لا يعني خروجها عن النمط المعتاد بطريقة مبالغ فيها مثلما تظن اليونان، إذ أنّ هناك حسابات في غاية الدّقة، وعادة ما تعطي الدول الأولوية في صرف ميزانيتها على الأمور الأساسية التي تهدّد أمنها، وان استلزم ذلك تخزين الأسلحة فإنّها لن تتوانى في ذلك لتأمين نفسها، دون ذلك فهي لن تكون عرضة للإسراف في تخزين الأسلحة دون وجود أي تهديدات مؤكدة أو محتملة بقوة.
وتشير مصادر، إلى أنّ تركيا تهتم في الوقت الحالي بتطوير نوعية الأسلحة، واستبدال الأنظمة التقليدية بأنظمة متطوّرة، وبالتالي فهي ليست بحاجة الى مزيد تكديس الأسلحة بما يخرق حدود الاتفاقية التي انسحبت منها أكثر من حاجتها الى اقتناء أسلحة ليست لديها، ورغم الخروج من المعاهدة الى انّها الى حدود هذه اللحظة لم تتجاوزها، لكن من المؤكد أنّ قرارها لم يأتي من فراغ وأنّها ستتجاوز بنود الاتفاقية وإلاّ لن يكون لها سبب منطقي في الانسحاب، والمرجّح أنها بدأت بتغيير الأنظمة وستتجه قريبا اذا استوجب الأمر نحو عملية تطوير المخزون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

12 − 10 =


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق