أخبار العالمأوروبابحوث ودراسات

“الدولة العثمانية الجديدة”… مخطط السيطرة على الغرب

الدكتور عمر فاروق

تعمل تركيا على توسيع نفوذها وتواجدها في العمق الأوروبي من خلال امتلاكها عدد من المؤسسات التي تحمل لافتات إغاثية ودينية وإنسانية، تستهدف الجاليات العربية والتركية والإسلامية، واستمالتهم تجاه إقامة “الدولة العثمانية الجديدة”، التي تمثل مشروع أردوغان في الهيمنة على مسلمي الغرب.

غالبية المؤسسات التركية التي يتم توظيفها كغطاء لتمرير مشروع “الخلافة العثمانية الجديدة”،تلتقي مباشرة مع توجهات وأهدافها تيارات الإسلام السياسي، لاسيما جماعة الإخوان وتنظيمها الدولي، ومخططها في السيطرة على الدول الغربية، ونشر الأدبيات القطبية البناوية عبر مسارات دعوية وسياسية واقتصادية واجتماعية، تستهدف استبدال الهوية الفكرية الثقافية للمجتعات الغربية من خلال صناعة مرتكزات ومجتمعات موازية في الداخل الأوروبي.

من أهمها المؤسسات التي لعبت دورًا بارزًا في نشر التوجهات الفكرية المشتددة، مؤسسة مديرية الشؤون الدينية الحكومية التركية”ديانت”،التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك في مارس 1924 ، بناء على القانون رقم 429، لتصبح مسؤولة عن إدارة الشؤون الدينية داخل تركيا، وتشرف على 90 ألف مسجد فى اسطنبول، وأكثر من 2000 مسجد موزعة على 38 دولة أوروبية.

وفي ظل هيمنة حزب “العدالة والتنمية” على السلطة في تركيا، وسعيهم إلى اختراقات المجتمعات الغربية وفقًا لمخطط التنظيم الدولي،تحولت “ديانت”، إلى أحد أدوات السيطرة على الدول من خلال 145.000 موظف، و120.000 إمام و40.000 مدرس للقرآن و3000 من الدعاة و1250 مفتيًا، وفي عام 2015 تضاعفت ميزانية “ديانت”،أربع مرات عما كانت عليه، لتصل إلى 2 مليار دولار سنويًا، بزيادة نحو 40 % تقريبًا.

الكثير من التقارير الغربية الرسمية أبدت انزاعجها من التغلغل التركي في الداخل الأوروبي، مشيرة إلى أن المساجد التابعة لمؤسسة”ديانت”، تحولت إلى مراكز استخباراتية وسياسية تعمل على استقطاب الجاليات العربية والإسلامية في أوروبا وأمريكا وآسيا لصالح مكونات الإسلام السياسي، تحت ما عرف بـ”جواسيس المنابر”.

يسيطر “الأئمة الأتراك”، التابعين لمؤسسة “ديانت” على النشاط الدعوي بقوة داخل ألمانيا والنمسا وهولندا وسويسرا والنرويج والسويد وبلجيكا، ويدير ملفاتها المشبوهة المخابرات التركية، وفقًا لدراسة صادرة عن “انفستيجتيف جورنال” تحت عنوان “ديانت تجمع معلومات استخباراتية عبر الأئمة فى 38 دولة”، كاشفة عن قيام الأئمة التابعين للمؤسسة بدور استخباراتي، فضلًا عن دروهم في الاستقطاب والتجنيد الفكري للشباب، وسعيهم في إعاقة عمل مؤسسات الداعية التركي فتح الله كولن في الغرب، العدو الأول للنظام السياسي التركي الحالي.

أصدرت المخابرات الألمانية والفرنسية منتصف عام 2018 تحذيرات من تمادي الكيانات التركية في التغلغل داخل الدولة الغربية، وأن الجاليات العربية والمسلمة في الغرب تحولت لطابور من العملاء لصالح تركيا، وفي سبتمبر2019، أغلقت النمسا عددًا من المساجد التابعة لمؤسسة “ديانت”، على خلفية ما وصفه البرلمان النمساوي حينها، من إن إغلاق المساجد التركية جاء على أساس أنها لا تعمل باعتبارها دورًا للعبادة، بل أصبحت امتدادًا لسياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب “العدالة والتنمية”.

ثاني تلك الكيانات التركية المعنية باختراق الدول الغربية، مؤسسة “ديتيب”، المعروف بـ”الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية” الذي تأسس عام 1984، بولاية كولونيا ، ويضم 930 جمعية، وتشرف على 900 مسجد، موزعين على 16 ولاية ألمانية، وتعمل على إرسال الأئمة ومدرسي التعليم الديني إلى المساجد الألمانية، بجانب التحكم في أكثر من 70% من المسلمين المقيمين في ألمانيا.

في 4 أبريل 2017 أجرت المخابرات الألمانية تحقيقًا حول توظيف تركيا لاتحاد المساجد التركية في ألمانيا “DITIB” للقيام بأعمال تضر الأمن القومي الألماني، وأشار التحقيق وفق أكاديمية “ذي كونفرسيشن” إلى أن أردوغان ومنذ وصوله للحكم عمل بالتنسيق مع جماعة الإخوان وقطر على تحويل مهمة المساجد في أوروبا إلى الدعاية لـ”الدولة العثمانية الجديدة”، وأن ثمة قلق يسيطر على دوائر صنع القرار السياسي في الغرب بسبب تحكم أنقرة في المساجد والجميعات الإسلامية، وتورط بعضها في في تمويل ونشر التطرف والإرهاب.

في مايو 2020، عرض التلفزيون الألماني فيلمًا وثائقيًا، بعنوان “هكذا يتعرض منتقدو أردوغان للتجسس في ألمانيا”، ملقيًا الضوء على تحول “الاتحاد التركي الإسلامي” للشؤون الدينية، إلى ذراع لجهاز الاستخبارات التركي (MIT) ، والقيام بأدوار سياسية داعمة للمكونات الإسلام السياسي المتشددة، بحجة خدمة الجالية العربية والإسلامية.

ثالث تلك الكيانات التي تلعب دورًا مشبوهًا داخل أوروربا واسيا “وكالة التعاون والتنسيق” (تيكا)، التي تأسست عام 1992، تحت لافتة مساعدة الجمهوريات السوفييتية في الخروج من أزماتها الداخلية، لكن مع تولي حزب “العدالة والتنمية” السلطة، أخذت “تيكا” وجهًا قوميًا إخوانيًا، وفقًا لرؤية المشروع الأردوغاني في إقامة “الدولة العثمانية الجديدة”، ومحاولة استثمار مختلف المؤسسات التركية في مد نفوذها شرقًا وغربًا.

في إطار الدور التوسعي الذي يقوم به أردوغان، عمل على زيادة النشاط التعليمي والثقافي في العمق الأفريقي والغربي، متخذًا من مؤسسة “تيكا”، مرتكزًا لتنفيذ مشروعه الفكري الإخواني القائمة على استراتيجية التجنيد والاستقطاب للأجيال الشبابية، واستمالتهم تجاه “الدولة العثمانية الجديدة”، المتقاطع مع مشروع تيارات الإسلام السياسي “دولة الخلافة”،توهمًا بأن تركيا تمثل الراعي الرسمي لمسلمي العالم.

ومن ثم تضاعف انتشار المكاتب الممثلة لمؤسسة”تيكا” من 12 مكتبًا عام 2002، إلى 25 مكتبًا عام 2011، ثم 56 مكتبًا في 59 دولة عام 2014، بحجم مساعدات ارتفع من 85 مليون دولار في عام 2002 إلى 3 مليار دولار، سعيًا في أن تستهدف 140 دولة في 5 قارات.

بجانب سعيها في تمويل والمساجد ودعم نشاط الجمعيات الأصولية، لعبت “تيكا” أدورًا متعددة لاسيما في التدريب العسكرية والإعلامي، إذ تعتبر جزء من منظومة الاستخبارات التركية، منذ أن تولي رئاستها هاكان فيدان، قبل أن يتولى رئاسة جهاز المخابرات التركية.

نظمت “تيكا” دورات تدريبية لضباط الشرطة في عدد من دول العالم منها، أذربيجان وفلسطين وكوسوفو البوسنة والهرسك، وألبانيا والجبل الأسود وأوزبكستان ومنغوليا وتونس ومولدوفا وأفغانستان، بالتعاون مع القيادة العامة للدرك في تركيا، كما عقدت دورات للمحررين العسكريين بالتعاون مع وكالة الأناضول وأكاديمية الشرطة، داخل أفغانستان وإثيوبيا وجورجيا وسوريا وميانمار ونيجيريا والجزائر وفلسطين والأردن وفلبين وباكستان وأذربيجان.

رابع المؤسسات التركية التي وجد فيها أردوغان ضالته للسيطرة على الغرب، منظمة “الذئاب الرمادية”، التي تتمحور أيدولوجيتها ومنهجيتها الفكرية على الولاء للنزعة القومية الأصولية التركية، جامعة بين التفوق العرقي والتطرف الديني، وتسعى لاسترجاع أمجاد الخلافة العثمانية أو الهيمنة التركية على العالم العربي والغربي، وذلك في إطار السياسية البرجماتية التي تسيطر على أردوغان ومنهجيته في صناعة “تحالفات مشبوهة” قائمة على المصالح المشتركة أو المتبادلة.

تحالف أردوغان مع منظمة “الذئاب الرمادية”، المرتكزة على عقيدة تتقاطع مع الهوية الفكرية لمشروع دولة الخلافة العثمانية، وإيمانها المطلق بفكرة توظيف العنف، صنع ما يسمى “الميليشاوية الأردوغانية”.

تحولت منظمة “الذئاب الرمادية”،لأداة في أيدي المخابرات التركية، وأصبحت أحد عوامل اختراق دول الإتحاد الأوروبي بشكل عام من خلال السيطرة على الجاليات التركية، وغيرها من الجاليات العربية والإسلامية بجانب دعم المنظمات الإخوانية في أوروبا التي تلقى تمويلًا مباشرًا من تركيا وقطر.

تشكلت منظمة “الذئاب الرمادية” أواخر ستينيات القرن الماضي، على يد ألب أرسلان توركيش، العقيد السابق في الجيش التركي،وأحد مدبّري انقلاب عام 1960، كذراع مسلّح تابع لحزب “الحركة القومية”، وترتكز على فكرة تمجيد الشعب التركي واستعادة الهوية التاريخية للدولة العثمانية، وتتخذ من شعار ” رأس الذئب”، علامة مميزة لها ولأعضائها، من خلال رفع أصبعي السبابة والخنصر، بينما تضم باقي أصابع اليد إلى بعضها .

تمثل منظمة “الذئاب الرمادية” التركية، شبكة استخباراتية منتشرة في أوروبا ترتكز حول تجمعات المساجد والدوائر القوميين، ويتواجد بألمانيا وحدها بشكلٍ سري نحو 180 ألف عضو من عناصر منظمة “الذئاب الرمادية”، فضلًا عن امتلاكها 170 جمعية ومؤسسة داخل الولايات الألمانية، وتمثل تهديدًا أمنيًا، ما يجعلها أكبر تنظيم سري في البلاد، كما تنتشر في فرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا والسويد، وفقًا لدراسات أمنية صادرة عن مراكز أوروبية بحثية.

خامس المنظمات التي يوظفها أردوغان لخدمة مشروع “الدولة العثمانية الجديدة”، حركة “مللي جوروش” التي تعتبر أكبر منظمة أصولية في الغرب من حيث عدد الأعضاء، فوفقًا لإحصاءات عام 2005، أعلنت الحركة أن لها 87,000 عضو في جميع أنحاء أوروبا، منهم 50,000 فقط في ألمانيا؛ حيث يقع مقرها الرئيسي في مدينة كيربن بولاية شمال الراين، ونشطت الحركة في جميع البلدان الأوروبية تقريبًا، وفي دول أخرى مثل أستراليا وكندا والولايات المتحدة.

تأسست “مللي جوروش” عام 1969، على يد رئيس وزراء تركيا الأسبق نجم الدين أربكان، وتعرف “الرؤية الوطنية”،أو “منظمات الشتات التركية في أوروبا”، وتتطابق فكريًا مع أطروحات سيد قطب وأبو الأعلى الموددي، وتسعى للقضاء على النزعة العلمانية التي أرساها كمال أتاتورك في تركيا الحديثة، في مقابل إقامة دولة الخلافة الإسلامية المرعزمة، التي سقطت عام 1924.

تحولت “مللي جوروش” كذراع أوروبي لحزب “النظام الوطني الإسلامي” الذي أسسه أربكان، كأول حزب إسلامي في تركيا منذ سقوط الخلافة العثمانية، حيث شكلت الساحة الأوروبية بيئة مناسبة لها لممارسة أنشطة التمويل والتجنيد، ومجالًا للعمل الآمن بعيدًا عن الملاحقة الأمنية والقانونية في الداخل التركي، وقد تحولت الحركة بعد صعود أردوغان إلى السلطة إلى حركة داعمة لمشروع “الدولة العثمانية الجديدة”.

منذ عام 2002، عملت حكومة “العدالة والتنمية” على صناعة “تحالف مقدس”بين “الاتحاد التركي الإسلامي”، و”حركة مللي غوروش” لتتمكن من بسط سيطرتها التامة على المؤسسات الدينية والدعوية والتعليمية في عموم القارة الأوروبية.

ففي فرنسا وحدها تسيطر الحركة على نحو 300 مسجد، و270جمعية أصولية، وفي بلجيكا تسيطر على 400 جمعية أصولية، و147 مسجداً، ولديها نحو 15000 إمامًا ومعلمًا وموظفًا، وتصفها المخابرات الألمانية بأنها “منظمة متطرفة”، وتضم تحت جناحها العديد من المنظمات الألمانية من بينها، “اتحاد الجمعيات الإسلامية” في برلين، و”اتحاد الجمعيات الإسلامية” في مقاطعة نيدرساكس، و”اتحاد الجمعيات الإسلامية” في بريمن، و”اتحاد الجمعيات الإسلامية” في فستفاليا.

يترأس فرع الحركة في فرنسا، فاتح ساريكير (فرنسي)، تم انتخابه أوائل عام 2020 ، أمينًا عامًا للمجلس الفرنسي للعبادة الإسلامية، لمدة ست سنوات، وهي الهيئة الأعلى لتمثيل المسلمين في فرنسا، كما يشغل منصب رئاسة الإتحاد الأوروبي للتعليم الإسلامي، ويضم نحو 17 مدرسة ومعهداً في فرنسا، وتملك الحركة إلى جانب شبكتها الدينية والتعليمية، شبكة أعمال تجارية واقتصادية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق