أخبار العالمبحوث ودراسات

ألكسندر دوغين قراءة في كتاب: “نظرية عالم متعدد الأقطاب”

“دوغين” ذلك الفيلسوف السوفياتي الذي ألهم عرش روسيا وذاع فكره في كل أقطار العالم سال حبره في مؤلفات رائدة ك كتاب “الخلاص من الغرب الاوراسية – الحضارات الأرضية مقابل الحضارات البحرية والاطلسية” ويعتبر كتابه “نظرية عالم متعدد الأقطاب” من أشهر مؤلفات القرن الحديث حيث عملت الوحشية الفكرية المتعصبة للأصل الصهيوني -الأمريكي على منع رواجه العالمي.

يوضح المؤلف أهمية كتاب “نظرية عالم متعدد الأقطاب” كونه” يُمثّلُ سلاحًا مفاهيميًّا للمرحلة الأخيرة من نضال العالم الإسلامي من أجل الاستقلال عن العمليات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية”، الأمر الذي يُبرز بشكل مباشر أهمية سياق الصراعات العالمية وتحوّل النظريات من “القطبيّة الأحاديّة” إلى “التعدّدية القطبية“، ما يجعل نظرية تعدد الأقطاب تنظر إلى الحضارات بشكل مترابط من جهة، وتجعل من نتائج هذه النظرية ظهورًا فاعلًا جديدًا في العلاقات الدولية، أو بما يُعرف بأنه “الدولة – الحضارة” التي تتخطّى “الدولة القوميّة” للوصول إلى “نتاج تكامل” دول مختلفة تنتمي إلى حضارة مشتركة من جهة ثانية.

    من هنا تتوحّد الشعوب لاكتساب الإمكانات الكافية للعمل كقطب كامل  فالدولة لا يمكن بمفردها أن تشكّل قطبًا، ما يجعل تكامل الدول نقطة الارتكاز في نظرية عالم متعدد الأقطاب.

    إن نظرية عالم متعدد الأقطاب “تتعارض” مع نظام وستلفاليا – يُطلق هذا المصطلح على معاهدتي السلام التي وقعتا في  عام 1648، واللتين أنهيتا حرب الثلاثين عامًا وحرب الثمانين عامًا بين إسبانيا ودولة المناطق السبع المنخفضة- المبنيّ على مبدأ سيادة الدول “السيادة المطلقة للدول القوميّة“، وما يفترضه من مساواة قانونية كاملة لجميع الدول ذات السيادة لكن الواقع العملي يدحض إمكان وجود هذه السيادة، وتلك المساواة.

     بعد الحرب العالمية الثانية، “نظام يالطا“، بقي محافظًا شكليًا على الاعتراف بالسيادة. وعلى هذا المبدأ أُسست الأمم المتحدة، وتواجدت ضمن هذا النظام “حركة عدم الانحياز” التي لم تستطع تكوين قوة ثالثة/”قطب ثالث”.

    ومع انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 بدأ تبلور نظام عالمي بديل، فكان نظامًا أحادي القطب، هي لحظة سياسية في هذا المسار الأمر الذي يعني مبدئيًا، استحالة استعادة القطبية الثنائية التي كانت سائدة سواء لأسباب ايديولوجية أم استراتيجية.

    لذلك ظهرت نظريات أو لنقل فرضيات، مثل مقولة “نهاية التاريخ” وكأن العالم أحادي القطب واقع مستقر تمامًا ودائم من جهة، وكأن أميركا “العالمية” هي “الإمبراطورية الجديدة” كاملة الهيمنة من جهة ثانية.

    وهذا رأي المحافظين الأميركيين الجدد وإن اُحتفظ شكليًّا واسميًّا بفكرة السيادة التي هي مُعطلة واقعيًّا.

     القطب لأنه يرتكز على مراعاة مواقف الآخرين من جهة، ويرفض هيمنة المركز من جهة ثانية ويؤكد ضرورة وجود مراكز عدة من جهة ثالثة. وبهذا يصبح من غير الممكن وجود حلّ وسط بين النظامين.

    غير أن هذا التوصيف النظري لا يُلغي عمليًا أمرين: الأول إن النظام الأحادي القطب هو الترتيب الفعلي للنظام القائم اليوم من حيث المبدأ. والثاني إن وجود هذا الترتيب لا يلغي بالمقابل قناعة البعض بإمكان نهاية هذا النظام الأحادي القريبة.

    بدلًا من الأحادية القطبية، يعتمد هذا المفهوم على أن عمليات العولمة ستستمر في التبلور والظهور وسيتوسع وجود النموذج الغربي بين جميع دول الأرض وشعوبها، الأمر الذي يجعل الهيمنة الغربية قيمًا وفكرًا مستمرة.

    لكن هذا النموذج سيُقلص دور الولايات المتحدة، كونها قوة وطنية ورائدًا للعولمة، ما سيؤدي إلى تبلور “الحكومة العالمية” التي سيشارك فيها ممثلو جميع البلدان. وهذا ما يدعو إلى تعاون “الدول الديمقراطية بصمت”، وإشراك الجهات الفاعلة غير الحكومية في عملية التشكيل مثل المنظمات غير الحكومية مجتمعات الانترنت.

    ومن الملاحظ أن هذا التوجّه، مدعوم من عدد من المجموعات السياسية والمالية المؤثرة، منها على سبيل المثال: عائلة روتشليد، جورج سوروس، ما يحوّل البشرية إلى “مجتمع مدني” عالمي بلا حدود مع الاحتفاظ على الخصائص الثقافيّة لكل حضارة.

    إن النظام غير القطبي المقترح لا يتوافق مع نظام العالم متعدد الأطراف، لأن الأخير لا يقبل “الهيمنة الغربية” ولا عالمية القيم التي يدعو إليها، ولأن النظام غير القطبي المقترح يفترض أن النموذج الأميركي “بوتقة الانصهار”، سوف يمتد إلى العالم بأسره. بينما تعددية الأطراف “متعاكسة” مع هذا الطرح كونها تؤكد ضرورة الحفاظ على الخصائص الثقافية لكل حضارة وتقويتها، لا تذويبها.

     لكن هذا الطرح يتناقض مع دعوة المحافظين الجدد في أميركا، والتي تعتمد فكرة أحادية القطب مبدئيًا من جهة، ويتناقض مع فكرة عالم متعدد الأقطاب من جهة أخرى. يرتكز هذا الطرح على أن الولايات المتحدة الأميركية لا يُفترض في مجال العلاقات الدولية أن تعتمد كليًّا على قواها الذاتية الخاصة ووضع جميع الحلفاء و”التابعين” أمام الأمر الواقع بل يجب عليها الأخذ في الحسبان مواقف الشركاء وإقناعهم بقراراتها وتبريرها بالحوار أي أن لا تتصرف “ديكتاتوريًا”.

    يوجد عدة مقاربات أو نماذج لتوصيف العلاقات الدولية، يمكن إدراجها مبدئيًّا ضمن اتّجاهين: وضعي يتضمن ثلاثة نماذج كلاسيكية: الواقعية، الليبرالية، الماركسية الجديدة والثاني، يتمثل في ما بعد الوضعية.

    إذ إن نظريات ما بعد الوضعية تسعى لتجاوز “المركزية العرقيّة” و”تفكيك إرادة القوّة” القائمة على خطاب هيمنة الغرب عامة، والولايات المتحدة الأميركية خاصة، ودحض مزاعم الغرب بكونه المنطلق ومن دون هذا المنحى لن تصبح التعددية القطبية حقيقة.

    يدّعي الغرب شمولية نظامه وقيمه وعالمية حضوره، معتمدًا إرادة القوّة تحت شعار “التنوير” و”التقدم” والعلمانية والعقل والحرية ودكتاتورية التكنولوجية. ودعاة الهيمنة البارزون هم ممثلو الواقعية والليبراليّة.

    غير أن الأمر أكثر تعقيدًا مع النظرية الماركسية للعلاقات الدولية الخاصة؛ خاصة لجهة تماثلها مع المركزية الأوروبية للعصر الحديث، والخطاب الغربي وحصر مسار التطور بمنطق واحد للتاريخ وهذا يتناقض مع نظرية عالم متعدد الأقطاب.

    لقد كان مجال العلاقات الدوليّة، ولزمن طويل، “علمًا أمريكيا” ومع أن دراسته أصبحت أكثر انتشارًا في المؤسسات والمعاهد العلميّة حول العالم غير أنه ما يزال يحمل “بصمة” الوسطيّة الغربية عامة والأميركية خاصة وهكذا تُنقل المفاهيم الغربية النموذجية للديمقراطية والدمقرطة والحرية والمساواة إلى مجتمعات غير غربيّة كما لو كانت هذه المفاهيم “شيئًا عالميًّا”.

    لذلك تبرز نظريات ما بعد الوضعية في تكوين نظرية العالم المتعدد الأقطاب، المنطلقة من تفكيك الهيمنة الغربية، كونها حضارة بين حضارات أخرى. ويظهر دور “صموئيل هنتنغتون “في رسم تخطيط لنظرية عالم متعدد الأقطاب، في خطوته المنهجية حول الحضارة/الحضارات فاعلًا أساسًا لعالم المستقبل.

     وبالتالي فإن عدد الأقطاب في النظام العالمي يكون بقدر ما توجد حضارات، أي أن هناك تحولًا نوعيًا من فكرة الدولة القوميّة، كونها فاعلًا في النظام العالمي إلى الحضارة. غير أن هذا لا يُلغي إمكان “الصراع” أو “الصدام” بين الحضارات، الأمر الذي يتطلب مفهومًا أكثر وضوحًا لماهية الحضارة.

    الحضارة، ضمن هذا التصور ليست دولة ولا نظامًا ولا طبقة ولا مجتمعًا ولا مجموعة من الأفراد، هي مجتمع جماعي توحّده المشاركة في التقاليد نفسها: الروحية والتاريخية والثقافية والعقلية والرمزية التي غالبًا ما تكون دينية ويستوعب هنتنغتون مفهوم الحضارة، تمامًا كما يستوعب مفهوم الثقافة. من هنا يتحدث عن ظاهرة “التحديث من دون التغريب”، السائدة أساسًا لعالم متعدد الأقطاب من جهة، ومحدّد من جهة أخرى الحضارات المُقدر لها في وقت تاريخي معين، كي تصبح أقطابًا لعالم متعدد الأقطاب.

    فقد قسّمها إلى نوعين: الأولى حضورها حتمي بلا منازع، عددها ستة، وهذه الحضارات هي الغربية، الأرثوذكسية (الأوراسية)، الإسلامية، الهندوسية، الصينية (الكونفوشيوسية)، واليابانية. والثانية هي حضارات محتمل لها أن تصبح أقطابًا لعالم متعدد القطاب، عددها ثلاثة، وهي: حضارة أميركا اللاتينية، البوذية، الإفريقية.

    يشرح المؤلف “طبيعة” كلّ من هذه الحضارات الغربية، ويراها الأكثر رسوخًا في الادّعاء بالفرادة العالمية الأرثوذكسية، أصلها أبيض وهي استمرار للجغرافيا السياسية للإمبراطورية البيزنطية التي كانت قوة عالمية، لكن تفصل بينها حدود الدولة القوميّة. ومع مسار التطورأصبح لدى النخب والدوائر الفكرية فيها دراية متزايدة بالاختلافات بين أنظمة قيمها مع الحضارة الغربية، ما سبّب المزيد من المزاج المعادي للغرب وبينت أحداث 9 من سبتمبر2011، مدى إمكان أن يُصبح الصراع عُنفيًا.

    الهندوسية هي حضارة على وجه التحديد الصينية لا تحدّد دينيًّا، بل توحدها ثقافة أخلاقية مشتركة وتركيبتها السكانية المثيرة للإعجاب هي مورد سياسيّ واقتصادي هائل حيث حولهّا إلى منافس اقتصادي للغرب، واليابانية بالرغم من اندماجها في منطقة الغرب المعولم هي فريدة من نوعها.

    أما الحضارات المحتملة، فتتوزع على النحو الآتي: أميركا اللاتينية المتعددة الثقافات تتمتع بإمكانات ديموغرفيّة وموارد سياسية واقتصادية كبيرة، البوذية ضبابية وغير واضحة، الإفريقية نظريًا يمكن أن تعي وحدتها.

    الجيوسياسة ترتبط بالمكان والمساحة  وهي كمكان جغرافي تبدو “ثابتة” لا تتغير، الأمر الذي جعل “المنهج المكاني” حاضرًا بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

    في القرن العشرين، السياق الجغرافي بدأ يدخل تدريجيًا، في نظام التحليل السياسي بالرغم من مقاومة علماء السياسة لهذا التوجّه على أساس الثنائية بين اليابسة والبحر وبين ازدواجية الشعوب وما بين البدويّة والاستقرار وبين الرُحّل والحضر وبين الغابات والصحراء.

    لقد أحدث القرن العشرين تنظيمًا جديدًا للعمليات التاريخية يتوافق مع المصطلحات الاقتصادية: مجتمع ما قبل الصناعي/زراعي، مجتمع صناعي، مجتمع ما بعد الحداثة.

    “حضارة اليابسة” هي مانحن فيه بعد عصر العولمة وعمليتها التي حققت سلسلة من الانتصارات في المعارك، ولكن العولمة لمّا تصل حتّى الآن، إلى النصر النهائي في الحرب..

    تعدّ “الأوراسيّة” الجديدة إطارًا كوكبيًا هو الأقرب إلى نظرية التعددية القطبيّة، بما يتضمنه من قبول تعدد القيم ورفض إذلال الثقافات الأخرى والإقرار بحقوق الشعوب والعدالة الاجتماعية…

    إن المبارزة الكونية بين الولايات المتحدة/الأطلسية وروسيا/الأوراسيّة جسدت ازدواجية: البحر/اليابسة.

     كما أن انهيار الاتحاد السوفياتي وتخلّي الاتحاد الروسي عن الايديولوجيّة الشيوعيّة وعدّه بلدًا “ديمقراطيًا” هو إعلان واضح وصريح بتفوق الجيوسياسة على الايديولوجيا. لكن الاتحاد الروسي لم يستطع الاندماج في “سكن جماعي كوكبي” واحد، أو مع “الوطن الأوروبي المشترك” وبالتالي لم تنفع محاولات “غورباتشوف” و”يلتسن” الداعين للإصلاح والاندماج مع “الغرب”.

     ففي حين تمزق الاتحاد السوفياتي بقي الغرب موحدًا من هنا، كشف المؤلف “الخطأ التاريخي” عند غورباتشوف ويلتسن في الاتحاد السوفياتي السابق واللذين اعتمدا المنهج الأحادي وغير النقدي لمسار التقدم .

    الرئيس الروسي الحالي “فلاديمير بوتين” فرض على الساحة الدولية واقع متحدي للهيمنة القطبية الجيوسياسية وفي هذا الصراع الدائم بين البر والبحر فإما ان يسقط الكل أو يبقى الكل وهو ذات الإرث الإنساني المشترك.

    اظهر المزيد

    مقالات ذات صلة

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    خمسة + 16 =

    
    زر الذهاب إلى الأعلى
    إغلاق
    إغلاق