إعداد د. بدرة قعلول،رئيسة المركز الدولي للدراسات الإسترتيجية والعسكرية
تونس – تونس -27-12-2019
تصاعدت التصريحات والمواقف التركية الرسمية بشأن التدخل العسكري في ليبيا استنادا إلى اتفاقيتين وقعهما أردوغان والسراج،وهما الإتفاقيتان اللتان أثارتا جدلا كبيرا ورفضا واسعا من قبل طيف واسع من الشعب الليبي وكذلك من مصر واليونان وقبرص والإتحاد الأوروبي.
والملاحظ أن الطرف التركي،لتبرير تدخله العسكري في ليبيا، يسوق مبررات واهية لا تليق حتى بأي سياسي أو باحث يحترم انتهاج الصدق والموضوعية والحقيقة..
ومن بين تلك التبريرات وجود “مليون تركي” بليبيا يحق للدولة التركية الدفاع عنهم، وأن “ليبيا أصبحت تحت رعاية تركيا” وأن التدخل التركي هو “لصالح الديمقراطية” في ليبيا.
وقد أثارت هذه التبريرات استغراب واستهجان العديد من المراقبين ورواد مواقع التواصل الإجتماعي. فهل انعكس منطق السياسة- وفق التصور التركي- حتى تبادر مثلا تركيا إلى الدتخل في ألمانيا بحجة وجود أكثر من ثلاثة ملايين تركي هناك؟
وهل تبادر دول أخرى إلى اتخاذ مثل هذه الذريعة للتدخل عسكريا لحماية أقليات تنحدر من بلدانها ومر على وجودهم مئات السنين على غرار الإنجليز في جنوب إفريقيا؟ وخلافا للترويجات التركية، تؤكد الوثائق التاريخية والسجلات المدنية أن أتراك ليبيا، بلغ عددهم 35000 (عام 1936)، بما في ذلك ثلاثون ألفا في طرابلس ومصراتة، وكانوا يمثلون بالفعل في ذلك الوقت 5 في المائة من السكان الليبيين، وقد مكّنهم هذا الموقع الجغرافي الدقيق من تطوير تأثيرهم على هذه المنطقة بالذات، حيث شكّلوا نوعاً من النخبة الموروثة من العهد العثماني.
أما الإدعاء بأن التدخل التركي هو من أجل “الديمقراطية” في ليبيا، فإن أردوغان يعلم قبل غيره مدى الدمار الذي أحدثته الميليشيات المسلحة التي يتغطى بها السراج وجماعة”الإخوان” في ليبيا من تشريد مئات الآلف من الليبيين في الداخل والخارج، وحجم الذهب والأموال التي هُربت إلى تركيا في حين يتزاحم الليبيون بالآلاف يوميا أمام المصارف علهم يتحصلون على ما يسد رمقهم من حساباتهم بسبب فقدان السيولة،إلى آخر حلقات الدمار والإرهاب التي تعيشها ليبيا.
وواضحة جدا”الديمقراطية”التركية سواء داخل تركيا حيث يتم إخراس كل الأفواه المعارضة،أو في سوريا، حيث ظل النظام التركي يقمع المواطنين منذ الإنقلاب المزعوم في يوليو 2016، ومنذ ذلك التاريخ، فصل أردوغان 151 ألف موظف من عملهم، وأغلق 3 آلاف مؤسسة تعليمية، واعتقل 319 صحفيًّا، وأغلق 89 وسيلة إعلامية، وسرح ما يزيد عن 10 آلاف ضابط بالجيش.
ووفقًا للتقرير الذي نشرته صحيفة(قرار) التركية المعارضة، في 21 نوفمبر 2019، فإن تركيا وهاييتي أكثر دولتين تعانيان من انخفاض في الحقوق الأساسية حول العالم، معتبرًا أن الديمقراطية في تركيا أصبحت هشة وضعيفة للغاية. ووفقا لموقع “بيانيت” تدهورت أوضاع الحريات، إلى جانب سوء معاملة المعارضين، في وقت احتلت أنقرة المرتبة السادسة عالميا في أوضاع السجون.
أما في سوريا التي كانت تركيا البوابة الرئيسة لدخول الإرهابيين عبرها، فتتجلى”الديمقراطية” التركية في الدمار الذي ألحقته الجماعات الإرهابية المسلحة التي تعمل تحت غطاء المخابرات التركية،وكذلك في تشريد الملايين وفي سرقة النفط السوري وفي تهريب قرابة ألف مصنع من حلب والشمال السوري إلى تركيا .. والقائمة تطول.
وهنا لابد من استدعاء أحداث التاريخ الواقعي،وليس حسب الإدعاءات المغالطة للوقائع.. لقد تم احتلال إيطاليا لليبيا في عهد جمعية الإتحاد والترقي، ووقعت حكومة الإتحاد والترقي على اتفاقية التنازل عن ليبيا لإيطاليا في مدينة لوزان بسويسرا، في ما عرف( اتفاقية قلعة أوشي/ لوزان) في 3 أكتوبر 1912، وبموجبها انسحبت القوات التركية من ليبيا وسلمتها إلى قوات الإحتلال الإيطالي،تماما كما سبق أن سلمت تركيا الجزائر إلى فرنسا،حسب أغلب المصادر التاريخية، حيث يقول أستاذ التاريخ في جامعة وهران، رابح لونيسي، ” إنهم سلموا الجزائر لفرنسا، والداي حسين وقع اتفاقية استسلام وتسليم لفرنسا مقابل السماح له ولعائلته وحاشيته وما تبقى من الجيش التركي بمغادرة الجزائر، مُحمّلين بما يملكون من أموال”.
أما في ليبيا، فيسجل محمد بن عبد الجليل في كتابه “ري الغليل في أخبار بني عبد الجليل” بطولات وتضحيات الليبيين، ضد فظائع الغزاة العثمانيين الذين خطفوا الفتيات والأطفال وفرضوا الضرائب على الموتى، وقطعوا رؤوس الثوار وعلقوها على أسوار القلاع.
ويوثق الكتاب أحداثا ومعارك امتدت من العام 1831 إلى 1843، ويبدأ برفع والده الشيخ عبد الجليل سيف النصر لواء الثورة ضد يوسف القرمانلي الوالي التركي في العام 1831، ويستمر المناضل الليبي في نضاله المسلح بعد انتهاء حكم القرمانلية، حتى سقط شهيدا على يد جنود عشقر باشا الوالي التركي في العام 1842.
وأورد المؤلف في كتابه المشحون بالذكريات، حقائق كثيرة، على سبيل المثال سقوط 4500 شهيد في مذبحة غريان في العام 1827 على أيدي الأتراك.
كما أرسلت إسطنبول حملة عسكرية في 22 يونيو 1836 بقيادة طاهر باشا، شملت 12 سفينة حربية على متنها 3 آلاف جندي، بينهم 300 من الخيالة، وحملت السفن المدافع والذخائر والمؤن العسكرية،حيث بدأ طاهر باشا حملته العسكرية بالهجوم على مصراتة، وتواصلت المعارك مدة 28 يوما ، وتكبد الأتراك خسائر بشرية كبيرة وصلت إلى 600 قتيل، وفي 9 أغسطس 1836 تمكن طاهر باشا من الإستيلاء على مصراتة، وعين ضابطا تركيا حاكما للمدينة.
هذا فيض من غيض.. فلينتطر الليبيون مكارم الديمقراطية التركية القادمة عبر فوهات المدافع!