الشرق الأوسط

وعد بلفور..الجرح الغائر في جسد فلسطين.. وقيام دولة الباطل والعدوان

 تصادف اليوم السبت، الثاني من نوفمبر، الذكرى الـ104 لصدور وعد بلفور المشؤوم، الذي منحت بموجبه بريطانيا “حقا” لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين،حيث أعطى من لايملك وعدا لمن لايستحق.

تذكر المصادر التاريخية أن نابليون أول سياسي أوروبي نادى علانية بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين، وهو صاحب النداء المشهور الموجه لليهود “ورثة أرض إسرائيل الشرعيين” الذي صدر في أبريل 1799.

وتجمع المصادر التاريخية على أن نابليون حاول استغلال اليهود بإثارته حججهم الدينية من أجل تجنيدهم وأموالهم وفي استكمال حملته على بلاد الشام، ولاستغلالهم في حربه ضد بريطانيا، إلا أن حملته فشلت في سنتها الثانية لتبدأ مرحلة جديدة في استغلال نابليون لليهود الأوربيين.

بعد عودته إلى فرنسا منهزما في مصر وبلاد الشام، دعا نابليون الطوائف اليهودية في المستعمرات الفرنسية إلى عقد مجلس (السانهدرين) وهو أعلى هيئة قضائية كانت قائمة في التاريخ اليهودي القديم، وحجته في ذلك مساواتهم بالفرنسيين والبدء بتأسيس الدولة اليهودية (في المنفى) لحين احتلال فلسطين

. بعد تجربة اليهود مع فرنسا لم تعد تذكر الدولة اليهودية سوى في البيوتات اليهودية وفي بيوت المفكرين على وجه الخصوص، واستمر ذلك الحال نحو مائة عام حتى ظهور هرتزل على مسرح الأحداث الذي بدأ بالتحرك سريعا لاستغلال الظروف العالمية وانتهاز فرصة ضعف الدولة العثمانية والمباشرة في إقناع زعماء أوروبا والسلطان العثماني بتشكيل دويلة.

وعد بلفور،هو بمثابة الخطوة العملية الأولى للغرب على طريق إقامة كيان لليهود على أرض فلسطين، تنفيذا لمخطط إستعماري باستباق أي نهووض أو وحدة للعرب،واستجابة لرغبات الصهيونية العالمية على حساب شعب متجذر في هذه الأرض منذ آلاف السنين.

وجاء الوعد على شكل تصريح موجه من قبل وزير خارجية بريطانيا آنذاك، آرثر جيمس بلفور في حكومة ديفيد لويد جورج في الثاني من نوفمبر عام 1917، إلى اللورد روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية، وذلك بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة، واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى، واستطاع من خلالها الصهاينة إقناع بريطانيا بقدرتهم على تحقيق أهداف بريطانيا، والحفاظ على مصالحها في المنطقة.

وكانت الحكومة البريطانية قد عرضت نص تصريح بلفور على الرئيس الأميركي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميا سنة 1918، ثم تبعها الرئيس الأميركي ولسون رسميا وعلنيا سنة 1919، وكذلك اليابان، وفي 25 أبريل سنة 1920، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو على أن يعهد إلى بريطانيا بالإنتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في المادة الثانية من صك الإنتداب، وفي 24 يوليو عام 1922 وافق مجلس عصبة الأمم على مشروع الإنتداب الذي دخل حيز التنفيذ في 29 سبتمبر 1923، وبذلك يتأكد أن وعد بلفور كان وعدا غربيا وليس بريطانيا فحسب. في المقابل اختلفت ردود أفعال العرب تجاه التصريح بين الدهشة والإستنكار والغضب، وبهدف امتصاص حالة السخط والغضب التي قابل العرب بها وعد بلفور،وفي واحدة من سياسات الدهاء والخبث الإنجليزي- أرسلت بريطانيا رسالة إلى الشريف حسين، بواسطة الكولونيل باست، تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالإستيطان اليهودي في فلسطين إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب، من الناحيتين الإقتصادية والسياسية، ولكنها في الوقت نفسه أصدرت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في فلسطين، بأن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة حاييم وايزمن خليفة هرتزل، وكذلك عملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمتين لهم.

لم يستسلم الشعب الفلسطيني للوعود والقرارات البريطانية والوقائع العملية التي بدأت تفرض على الأرض من قبل الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة، بل خاض ثورات متلاحقة، كان أولها ثورة البُراق عام 1929، ثم تلتها ثورة 1936.

من جهتها، اتخذت الحركة الصهيونية العالمية وقادتها من هذا الوعد مستندا “قانونيا” لتدعم به مطالبها المتمثلة في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وتحقيق حلم اليهود بالحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن قومي لهم، يجمع شتاتهم بما ينسجم والنوايا الإستعمارية الغربية وتوجهات الحركة الصهيونية، بعد انتقالها من مرحلة التنظير لأفكارها إلى حيز التنفيذ في أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقد في مدينة بازل بسويسرا عام 1897، والذي أقرّ البرنامج الصهيوني، وأكد أن الصهيونية تكافح من أجل إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين.

وتبدو الإشارة إلى وعد بلفور في نص وثيقة “الإستقلال” المعلنة مع قيام دولة إسرائيل، دليلا فصيحا على أهمية هذا الوعد بالنسبة لليهود، حيث جاء في هذه الوثيقة: ‘الإنبعاث القومي في بلد اعترف به وعد بلفور…”.

وتمكن اليهود من استغلال تلك القصاصة الصادرة عن آرثر بلفور المعروف بقربه من الحركة الصهيونية، ومن ثم صك الإنتداب، وقرار الجمعية العامة عام 1947، القاضي بتقسيم فلسطين ليحققوا حلمهم بإقامة إسرائيل في الخامس عشر من مايو عام 1948، وليحظى هذا الكيان بعضوية الأمم المتحدة بضغط الدول الكبرى، ولتصبح “إسرائيل” أول دولة في تاريخ النظام السياسي العالمي التي تنشأ على أرض الغير، وتلقى مساندة دولية جعلتها تعربد في المنطقة، وتتوسع وتبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، وتبطش بمن تبقى من الشعب الفلسطيني على أرضه دون رحمة.

تصريح بلفور أعطى وطنا لليهود وهم ليسوا سكان فلسطين، حيث لم يكن في فلسطين من اليهود عند صدور التصريح سوى خمسين ألفا من أصل عدد اليهود في العالم حينذاك، والذي كان يقدر بحوالي 12 مليونا، في حين كان عدد سكان فلسطين من العرب في ذلك الوقت يناهز 650 ألفا من المواطنين الذين كانوا، ومنذ آلاف السنين يطورون حياتهم في بادية وريف ومدن هذه الأرض، ولكن الوعد المشؤوم تجاهلهم ولم يعترف لهم إلا ببعض الحقوق المدنية والدينية، متجاهلا حقوقهم السياسية والإقتصادية والإدارية.

نص وعد بلفور: وزارة الخارجية البريطانية نوفمبر 1917م 2 عزيزي اللورد روتشيلد يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوما بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.

وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علما بهذا التصريح. المخلص/آرثر بلفور. إعلانُ بَلْفور والعمىٰ البريطانيّ لم تكنْ جريمةُ “إعلانِ بَلْفور” مجرّدَ واحدةٍ من سلسلةِ الجرائمِ التي ارتكبَتها بريطانيا الاستعماريّة حيثما حلّت، لكنّها الجريمة الأكبرُ والأشَدُّ انتهاكا لكلِّ مبادئ العدالة والأخلاق والإنسانيّة.

وتزدادُ خطورةُ هذا الإعلان كلّما تراكمت آثارُه وتوالت الكوارثُ التي يجرُّها على الشّعبِ الفلسطيني وعلى السّلم والإستقرارِ في العالمِ بأسرِه، لكن ما يزيد من فظاعة الجريمة التي ارتكبَتْها بريطانيا بحقّ شعبِنا هو أنَّ هذه الدّولةَ تصرُّ على التّشبُّث بجريمتها والدّفاع عنها بدلَ الإعتذارِ للشّعبِ الفلسطيني عن كلِّ ما جرّهُ هذا الإعلانُ عليهِ من ويلات. ليسَ هناكَ وثيقةٌ في التّاريخِ المعاصرِ يمكِنُها أنْ تختزل حقيقةَ مأساةِ الشّعبِ الفلسطيني كما هو حالُ إعلانِ بلْفور، ففي نَصِّهِ المُقتَضَبِ تتجسّدُ تفاصيلُ الظُّلم التاريخي الذي لحقَ بشعبِنا وما زالَ يعاني من تبعاتِه حتّى اليوم،إذْ لمْ يكُنْ لبريطانيا عندما أصدرتْ هذا الإعلانَ أيُّ شكلٍ من أشكالِ السّيادة على فلسطينَ، وبرغم ذلكَ تجرّأ وزيرُ خارجيّتها على توجيهِ الرسالة سيّئةِ الصّيتِ إلى الزعيمِ الصّهيونيِّ روتشيلد، الذي لم يكُن لهُ هو الآخرُ أو لحركتِهِ الصّهيونيّة الوليدةِ أيُّ مؤهّل يعطيه الحقَّ بأنْ يكونَ عنواناً لإعلانٍ يتعلّقُ بأرضِ فلسطينَ ومستقبلِها.

يمكنُ استكشافُ خطورةِ الإعلان من نقطتَين أساسيّتَين شكّلتا المضمونَ الحقيقيَّ لهُ والثّابتَ الوحيدَ في سياسةِ بريطانيا سواء في فلسطينَ أو على المستوى الدّولي: النقطةُ الأولى هي الإلتزامُ البريطانيُّ بتنفيذِ الهدف الوحيد من الإعلانِ وهو إقامةُ دولةٍ يهوديّةٍ في فلسطينَ بناءً على مشروع الحركة الصّهيونيّةِ التي بدأت حينَها بالتحكّمِ بالقرارِ السّياسيِّ في بريطانيا.

وقد شكّل هذا الالتزامُ محورَ وهدفَ السياسةِ البريطانيّةِ طوالَ فترةِ الإنتدابِ البريطانيِّ في فلسطينَ، والذي تمَّ تثبيتُهُ ليكونَ أساسَ قرارِ عُصبةِ الأممِ الذي أعطى بريطانيا حقَّ الإنتدابِ، وهو هدفٌ التزمت بريطانيا بتطبيقِهِ ولم تُنْهِ انتدابَها إلا عندما أكملتْ مهمَّتَها.

هذا الدّورُ البريطاني الذي رسمَ معالِمَهُ إعلانُ بَلْفور يضعُ بريطانيا في مقدّمةِ المسؤولينَ عن كلِّ ما تعرّضَ لهُ شعبُنا من الظّلْمِ والتطاولِ على حقّهِ في وطنِه، وبذلكَ تكونُ النّكبةُ الفلسطينيّةُ الكبرى جريمةً تتحمّلُ بريطانيا مسؤوليتَها ومسؤوليةَ ما رافقَها وما تبِعها من المجازرِ، وما أدّت إليهِ من تهجيرٍ للجزءِ الأكبرِ من شعبِنا خارجَ وطنِه.

النقطةُ الثّانيةُ هي ازدواجيّةُ التعاملِ البريطانيِّ مع الشّعبِ الفلسطينيِّ من جهةٍ ومع الحركةِ الصّهيونيةِ واليهودِ عموماً من الجهةِ الأخرى، فالإعلانُ يتجاهلُ بشكلٍ متعمّدٍ وجودَ الشّعبِ الفلسطينيِّ صاحبِ أرضِ فلسطينَ الشرعيِّ، والذي كانَ يشكّلُ أغلبيةً ساحقةً لسُكانِها عندَ إصدار الإعلان الذي اكتفى على استحياءٍ بالإشارةِ إلى شعبِنا كطوائفَ من “غيرِ اليهودِ” لها بعضُ الحقوقِ المدنيّةِ والدّينيّةِ، دون الحديثِ عن حقوقِهِ السياسيّةِ التي يتمتّعُ بها أسوةً بكلِّ شعوبِ العالَم. وفي المقابلِ يصرُّ بلْفور على أنَّ إقامةَ الدّولةِ الصّهيونيّةِ في فلسطينَ لن يكونَ لها أيُّ أثرٍ سلبيٍّ على حقوقِ اليهودِ ولا على وضعِهم السياسيِّ في البلدانِ الأخرى.

هذه الإزدواجيّةُ هي التلخيصُ الفاضحُ للمشروعِ الإستعماريِّ في فلسطينَ، فهو ومنذُ البداية مُصرٌّ على تجاهلِ وجود شعبِنا ويحرمُهُ من حقّهِ الأساسي وهو حقُّهُ في السيادةِ على وطنِهِ، ويسلِبُ منهُ هذا الوطنَ ليعطيه هديّةً للحركةِ الصّهيونيّةِ لتقيمَ فيهِ دولةً يهوديّة، دونَ أنْ يعني ذلكَ التقليلَ من تحكُّمِ الصّهاينةِ بالقرارِ السياسيِّ في دولِ العالم.

في عام 1952 نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثائق سرية عن فترة 1919 ـ 1939، بما فيها تلك التي تتعلق بتوطين اليهود في فلسطين، ويتضمن المجلد الرابع من المجموعة الأولى، في الصفحة السابعة نقلا عن مذكرة وضعها آرثر بلفور في عام 1917 ما يلي: “ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين..إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد وفي الحاجات الحالية وفي آمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة”.

بعدَ مرورِ أكثرِ من مئةِ عامٍ على إصدارِ إعلانِ بَلْفور ما زالَ الظّلمُ التاريخيُّ الذي ألحقَهُ بشعبِنا يشكّلُ وصمةَ عارٍ في تاريخِ وحاضرِ بريطانيا، ولنْ نكفَّ عن مطلبِنا بأنْ تعتذرَ الحكومةُ البريطانيّةُ -بصفتِها وريثةَ إثْمِ الإعلانِ- عن جريمتِها، وأنْ يكونَ الإعترافُ بالدّولةِ الفلسطينيّةِ المستقلّةِ وعاصمَتُها القُدْس أولى مظاهرِ هذا الإعتذار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق