ليبيا .. ورزنامة الخيارات الصعبة
بقلم الكاتب الليبي / يوسف بن داوود
تبقى نظرية كيسنجر في إدارة الولايات المتحدة الأمريكية للأزمات هي الصورة الحقيقية للمشهد الليبي والتي تقول بأنه “ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تحل أي مشكل في العالم لكن من مصلحتها أن تمسك بخيوط المشكلة وتحرك هذه الخيوط حسب المصلحة القومية الأمريكية”..
من هنا نبدأ اليوم في تبسيط وشرح السيناريوهات المتوقعة بحسب رؤية الحلفاء والأعداء لحل الأزمة وفق وجهة نظر كل طرف ووفق ما يخدم غايات وطموحات كل جهة.
العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، منذ مطلع عام 2013 م انقسم ليكون ما بين حلفين: حلف يرى أن الإسلام السياسي المتمثل في تنظيم “الإخوان المسلمين” هو الحل، وسنرمز فيما يلي إلى هذا الحلف بحلف الشر ، أما الحلف الآخر فإنه يرى أن الإسلام السياسي متمثلاً في تنظيم “الإخوان المسلمين” الدولي هو المشكل، وسنشير فيما يلي إلى هذا الحلف بحلف الخير.
إذن المنطقة تنقسم ما بين حلفي الخير والشر وكل حلف يسعى بكل جهد إلى كسب النقاط السياسية دولياً وتحقيق المكاسب على الأرض عملياً،ولكن المفارقة أن كلا الحلفين يعتمدان بشكل أو بآخر على التأشيرة والضوء الأخضر الأمريكي في كل مناوراتهما السياسية و مواجهاتهما العسكرية .. طبعاً هنا الأمريكان يطبقون حرفياً نظرية كسينجر في إدارة الولايات المتحدة للأزمات والتي أشرنا إليها سالفاً ، ودوران الحلفين في الفلك الأمريكي جعل كل الأزمات تشتعل ولكن لا حسم حقيقيا فيها ، من العراق إلى الصومال إلى سوريا واليمن وبالتأكيد ليبيا .
اليوم متصدرو المشهد الليبي أمام رزنامة خيارات صعبة بكل المقاييس، فإختلاف الحلول لم تعد ما بين مكونات حلفي الخير والشر فقط وإنما ما بين مكونات كل حلف أيضاً ، وأهم السيناريوهات المطروحة اليوم هو السيناريو الفرنسي بمباركة أمريكية ، فـماكرون منذ ما حدث في مدينة غريان وقيام عصابات الوفاق المسلحة بالإستيلاء على أسلحة وعتاد عسكري وصل قوات الجيش الوطني الليبي عبر فرنسا ، وجد نفسه أمام ضغط رأي عام محلي قبل الدولي ، ومنذ ذاك الحين اقتصر دعم الإليزيه للجيش الليبي على بعض الأمور اللوجستية دون الميدان .. الفرنسيس ، تصورهم للحل بجعل سرت منطقة خضراء منزوعة السلاح وأن يغادرها طرفَا الصراع الليبي ليعيدا تمركزهما على بعد عشرات الكيلو مترات منها وليتم توطين مجلس رئاسي وحكومة جديدة في سرت تكون تحت حماية دولية بعيداً عن ضغوط قد تمارس عليها من أي قوة مسلحة ليبية ، بمعنى أدق استنساخ للمنطقة الخضراء في بغداد العراق.
من الناحية الأخرى نجد أن تركيا،وهي رأس الحربة حالياً لمحور الشر في تدخلها في ليبيا، تحاول أن تكسب الوقت وتناور وبدعم و تأشيرة أمريكية أيضاً .. تركيا أردوغان العثمانية تقوم برص الصفوف وحشد الإرهابيين من كل حدب وصوب وتستجلب آلاف الأطنان من الأسلحة والذخائر ..
فالأتراك يرون أن الجلوس على طاولة المفاوضات يجب أن يكون بعد الإستيلاء على سرت وقاعدة الجفرة ، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن لا وجود دائما لهم في ليبيا ، فلا أمريكا ستسمح بهذا ولا أوروبا أيضاً ، وأن مكاسبهم ستكون إقتصادية عبر عدة مشاريع تم الترسيم لها مع حكومة السراج ، فلا أحد يرغب في أن يرى قواعد عسكرية تركية في ليبيا .. أيضاً استطاعت أمريكا عملياً كسر التقارب الروسي التركي وما دار من اتفاق على توطين المرتزقة التركمان في ليبيا لتخلو ساحة الحرب السورية للروس، وقد بدأت تركيا فعلا بإعادة جزء من المقاتلين التركمان إلى تركيا لتحاول توظيفهم في ساحة حرب جديدة، فكثيرة هي ساحات الحروب التي أوكلت بها أمريكا تركيا هذه الفترة: ليبيا – العراق – اليمن – سوريا ، ناهيك عن محاولات التمدد التركي في مناطق النفوذ التاريخية لفرنسا :مالي – النيجر – تشاد.. فقد رصدت مصادر عدة تغلغل الأتراك بدعم وتمويل قطري في هذه الدول تحت غطاء المساعدات الإنسانية والجمعيات الخيرية والبعثات الدراسية مما أثار حفيظة فرنسا وجعلها تحاول إعادة ترتيب المشهد السياسي في تلك الدول بإطلاق العنان لموجة احتجاجات في مالي لإسقاط حليف تركيا قطر هناك، الرئيس أبوبكر إبراهيم كيتا .
تركيا أيضاً، ومن خلال أدواتها من الليبيين، تحاول خلق الفوضى في المنطقة الشرقية بليبيا وكانت ولا تزال تحاول تنفيذ مخطط يهدف إلى ضرب استقرار المنطقة وإسقاط هياكلها السياسية والعسكرية لتجد دول محور الخير نفسها أمام واقع جديد لا يمكن استدراكه أو التعامل معه .
بعض دول محور الخير ، ترى أن الحل هو إعادة ترتيب المشهد في غرب البلاد عن بعد، من خلال خلق أزمات ونشوب صراعات ما بين المجموعات المسلحة ليسقط حليف دول محور الشر غير مأسوف عليه وهي حكومة الوفاق، ولكن يبدو أن هذا الخيار يحتاج لزمن طويل، والتعويل عليه دون وجود أدوات تنفيذ يمكن الثقة بها، ضَرْبٌ من ضروب الخيال ، فمن يتواجد هنالك على رأس تلك الميليشيات المسلحة يبحثون عن مصالحهم ولو على حساب دماء إخوتهم، وطبعاً الإطار العام لمصالحهم هو بقاء حالة الفوضى واستمرار حكومة الوفاق اللادستورية .
في آخر النفق المظلم تتعالى أصوات لتتجه ليبيا نحو التقسيم ، لعل أهم تلك الأصوات التي صرحت علناً بذلك هي ستيفاني ويليمز المكلفة بتسيير أعمال بعثة الأمم المتحدة في ليبيا ، ولعل أولى الخطوات نحو التقسيم ما أصبحنا نلاحظه مما يروج له من تقاسم عائدات النفط ، أيضاً محاولة توجيه الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، إلا أن المشكل في ليبيا هو مشكل سياسي اقتصادي مركب وأن الليبيين في أقاليم ليبيا الثلاثة التاريخية يعانون من تغول ومركزية القرار في إقليم طرابلس على إقليمي فزان وبرقة .
هنا يجب أن نؤكد أن المشكل في ليبيا ليس سياسيا كما يسوّق البعض ولا هو اقتصادي كما يزعم البعض الآخر ، المشكل في ليبيا يا أولي الألباب هو مشكل أمني بحث ، فعندما جاء المواطنون في بنغازي ليتظاهروا أمام منزل المشير حفتر في منتصف عام 2014 م لم يكونوا يبحثون عن كرسي حكم أو عائدات نفط وإنما طالبوا الرجل بإنقاذهم من الموت على أيادي زنادقة العصر الحديث من يرون أنفسهم أوصياء على الأمة بتوكيل وتفويض من رب السماء ، وأخذوا لأنفسهم أسماء تبدأ من “قاعدة الجهاد” إلى”أنصار الشريعة” إلى”داعش” وحتى”حماة الدين”، وحينها فاق عدد حالات الإغتيال للعسكريين من ضباط وضباط صف وجنود وحتى محامين ونشطاء المجتمع المدني وإعلاميين وعلماء دين معتدلين، حوالي الــ 600 حالة اغتيال تراوحت ما بين التفجير عن بعد وما بين القتل رمياً بالرصاص وحتى الذبح بالسكاكين .
حينها خرج حفتر ليقدم نفسه ومن معه إلى الموت المؤكد ، فالرجل بحوالي 200 ضابط وجندي قاد معركته الأولى يوم 16\5\2014 ليواجه الآلاف المؤلفة من أعتى إرهابيي العالم اجتمعوا في ليبيا من كل الأصقاع وكان حينها الخزان البشري لهذه المعركة هم أبناء المدن والمناطق والقبائل الليبية دون تمييز شرقاً وغرباً وجنوباً .
يجب أن يعلم متخذو القرار حولنا إقليمياً ودولياً أن المعركة والمشكل ليس سياسياً أو اقتصادياً ، إنما هو أمني بإمتياز ، ربما توجد أخطاء، هذا صحيح ، ربما عدم وجود هيكل سياسي فاعل في شرق البلاد جعل الكثيرين يترددون في فتح قنوات تواصل أو حتى دعم معركة الجيش الليبي ضد تنظيمات الموت، هذا أيضاً صحيح، ولكن اعلموا أن كل هذا نتاج أن العالم في عام 2011 م لم يسقط الراحل معمر القذافي كشخص أو كحاكم فقط وإنما العالم- بما فيه دول الإقليم- أسقط الدولة الليبية بكامل مؤسساتها التنفيذية سياسياً – إقتصادياً – إجتماعياً، وكذلك المؤسسات العسكرية والأمنية فدخلت البلاد في فراغ تمتد تبعاته إلى الآن ، وإن من خرجوا ليواجهوا الإرهاب في عام 2014 م وجدوا أنفسهم أمام مشاكل ومسؤوليات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية تحتاج عقودا من الزمن لحلها في دولة مستقرة فما بالك ليبيا التي يتقاذفها الإرهاب ، لأنهم باختصار بدأوا من النقطة صفر في إعادة تكوين هياكل الدولة .
اليوم يجب على الجميع تحمل مسؤولياتهم وأولهم الليبيون ، فالمرحلة تتطلب أولاً إعادة ترتيب المشهد في شرق البلاد سياسياً .. يجب أن يخرج علينا جسم سياسي من تحت قبة البرلمان المنتخب والمعترف به دولياً ، هذا الجسم يمثل حكومة قادرة على التواصل ومعالجة الإشكالات الإقتصادية والأمنية ، قادرة على ملئ الفراغ خصوصاً فيما يتعلق بالتواصل على مستوى سياسي إقليمياً ودولياً وأن تكون البداية من دول الطوق الليبي ، فلن يستطيع أحد وضع حلول في هذا العالم المفتوح اليوم لوحده ، ويجب الإستعداد منذ الآن للحرب القادمة، ولازلنا نؤكد أنها آتية لا محالة ، فلا استقرار ولا تنمية ولا حلولا في ظل وجود الإرهاب والإرهابيين فهؤلاء لا يؤمنون لا بالتعايش السلمي ولا بحق الشعوب في تقرير مصيرها، فهم لا يعرفون إلا الدم — الدم .. الهدم — الهدم”. “
للحديث بقية..