ذئاب المال في كل مكان
بيروت-لبنان-18-4-2023
مشهدٌ سورياليٌ. صعبٌ أن تصدّقه.. إنه في غاية الإبداع الجهنمي. المكان: في إفريقيا. الزمان: لا وقت له، يمتد إلى عقود. الحدث: الفصل التام بين الأثرياء والفقراء.
المدينة واضحة المعالم: هنا، الأحياء الباهظة والباذخة والفاقعة.. عمارات فخمة، شوارع نظيفة ومترفة، أناس بكل أناقتهم، فائض من الغنى والثروات، فرح مستدام، أجواء ما فوق أرستقراطية محروسة من شرطة يقظة، كاميرات مراقبة، أمن مضمون، الاختلاط ممنوع، الفصل تام وقاس: هنا للأغنياء، وهناك للحثالات، من أطفال عراة، وفتيات بائعات هوى، ورجال منكسي الحياة، وأصدقاء مخلصين للتراب وقذارة المبيت والطرق.
على الجهة الواطية من المدينة، ثاني عاصمة بعد جنوب إفريقيا، مخيمات بالية، رجال من قش،فتيات يبعن بالمطاعم أجساداً لم تعد لهن.. يتسللون إلى الأمكنة الفاخرة الممنوعة بحثاً عن طعام مرمي، عن أوراق، عن كتاب..طافرونوطافرات من مخيم مكتظ بالبؤس والشيخوخة المبكرة، مدمنون على النسيان، حشيشة، سرقة.
الشرطة ساهرة وعينها مصوبة دائماً على الحفاة، تُروّج لهم المخدرات، تمنعهم بالقسوة من التسلل، الاختلاط ممنوع.. هنا الجنة وملائكتها الأثرياء، وهناك الجحيم والأمراض والعدوى وأوساخ المدينة وشهوات النزف.
ولمّا عجزت الشرطة عن منع التسلل، قررت أن تُطلق الرصاص على الأرجل، نجحت الرماية.. هنا مدينة الأصحاء، وهناك مخيمات اللقطاء.. ربحت الشرطة الرهان: صوَبت على الأرجل، بعدها ارتاح الأغنياء من أصحاب الأرجل المثقوبة بالرصاص.
هذه صورة عن عالم اليوم وعوالم الهمج.
ننتقل الآن إلى لب المأساة.. تلك المدينة ليست يتيمة، شقيقاتها معروفات في هذا العالم وفي كافة القارات،
كلنا في غابة. لماذا لا تخجل البشرية من همجيتها؟
المصائر الإنسانية دمية بشعة، اللغة التي نلوكها تتعامى عن البشاعات، تصنع حاضراً كاذباً مضاداً للأخلاق والجمال. أما اللغة، ففي كل وادٍ تهيم، لغة فضفاضة، كاذبة، فارغة. طاعون طاغ والضحايا يبتسمون بأسنان مسننة. نلجأ إلى الشعارات الباهرة، شعارات مثالية كاذبة مبتذلة عاقرة.. اللغة نفي للواقع والوقائع، والصور توبيخ انتقائي. إذاً، نحن ضحايا ونحن مرتكبون ومدربون على نسج أكاذيب نُصدّقها، ندعي البراءة، نُناقش في أيّنا على صواب.. والصواب مستحيل. نلجأ إلى مفردات وعناوين نلوكها، نطالب بسلطة القوانين، يا حرام! هذه كلمة غير بريئة، الكلمات سلاح مضاد للواقع، ومانعة للأحلام الممكنة. قوانين دولية ذات أنياب مضادة للأحلام والحرية. القوانين الدولية حجاب ولبوس، أما السياسة، فمهنة حقيرة وخطيرة،إنها داء لا دواء. في تراثها البشري، إعدام للحقوق والقضايا. الصح، هو مع الأقو، والأقوياء مفترسون ودمويون. السياسات العليا، أفيون الشعوب وطمأنينة الطغاة. السلطة، تسيَل الثقافة، هي خرقة مصانة، ممسحة، وسيلة جميلة للارتكاب تنزع عن الثقافة أنيابها، تعير سلطة مسلحة بعفة كاذبة.. مع الاعتذار الشديد، الثقافة العمومية راهناً، هي خرقة أو ممسحة، وفي غياب الثقافة، تصير اللغة لغواً. ثم، وداعاً لكل ما يحتاجه الانسان من نبل وآفاق ورؤى.
إذا لم يكن ذلك كذلك، فماذا إذن؟ كيف نقرأ العالم اليوم؟ عالم يعيش على إيقاع النزف الدائم، الحرب المجنونة، الظلم الكوكبي، الاجتياح المستدام، التلفيق الفائز.. دول عظمى في أدنى مستويات الحقارة مزينة بالنياشين وأقواس النصر وحاضرة دائماً، يعني دائماً، على شاشات القول.. والقول التالي، إلى نهاية الجملة التي لا تنتهي.. عالم مدرب على تنظيم الاحتلال وتشريع الحروب، عالم مسكون بإرهاب شرعي ضد إرهاب انتقائي وهمجي. ألا ترون أن السياسة تجارة رابحة جداً؟!
ثم ما نفع المعرفة؟ أين تقيم القيم؟ أين جهات الحرية؟ أين ثكنات الإرهاب؟ أليس الظلم المستدام إرهاباً علنياً؟ العسكرة إرهاب. الاحتلال إرهاب. الحروب ذروة الإرهاب. الجامعات الراهنة تُخرّج حراساً لحماية الواقع، وحماية الجرائم التي سترتكب مع التوحش الكوني. قادة الأخلاق تراجعوا إلى الخطوط الخلفية. التجارة إله.. الرأسمال إله الآلهة..
نعيش حالة نغشُّ فيها أنفسنا، نتمسك بالمبادئ والأخلاق والقيم والحرية والمساواة والعدالة والكرامة، هناك شعوب لم تذق بعدُ طعم الحرية، وتبشر بالعدالة والتفوق. بيئتنا العربية نموذجية في انتاج التبعية، في إنتاج الثكنات العسكرية. رائحة الحرية تهمة تستحق العقوبة.. عالم عربي، من المحيط الى الخليج، يعيش مقتله اليومي من زمان حتى الآن، وحتى ما بعد الآن بأوان مديدة، كل شعوبنا معتقلة يُعَوض عنها بالاحتفالات والتفاهات وقشور المتعة.. بلاد نتنة سياسياً،بلاد تحتضن المهربين والمضاربين وقناصي الفرص، بلاد بشعارات حداثة قميئة، لا حداثة أبداً من دون حرية للإنسان. الإنسان الحقيقي هو الإنسان الحر. من اختار السوق ميداناً ومرجعاً، يصبح رقماً في سلسلة أرقا تتعايش في ما بينها على قاعدة المضاربات والأرباح وشراء الأسهم. البورصات عواصم عالمية. العواصم الإدارية تراجعت أمام الهجوم الكاسح للأسهم وللعنف الضروري لاستمرار إنتاج الحروب.
كم حرباً اليوم؟ كم حرباً بالأمس القريب؟ كم حرباً نهجس بها الآن؟ الكرة الأرضية تتدحرج. العنف داؤها ودواؤها.. الحروب إنفاق مشتهى، توظيف بورصة، لا قيمة للدماء، لا ثمن للقتل.. الحروب إذاً تجارة رابحة، موتوا أيها الأبرياء.
نحن كعرب، نعيش موتنا السياسي، دفنوا إنسانيتنا، طلاق مبرم مع الأفكار النبيلة والقيم.. الانسان العربي منفي، الانسان سلعة، بضاعة، أما العقائد والقيم فلم تعد تنجب وقائع معقولة.. الأديان من جهتها ملتزمة سياسياً واقتصادياً ومالياً، بعافية الايمان الغلط بإله لا يمت إلى السماء بصلة قربى.. أي جحيم هذا هو جحيم الأرض؟
نستطيع أن نجد ملجأً في الفنون.. إذا كانت الأفكار مدافن الشعوب، فإن الفنون الجميلة هي النافذة المشرعة على الجمال والانسان. ألم نلاحظ أن الفلسفات والأفكار والعقائد السياسية والدينية كانت مادة فتنة وبؤرة نيران وحروب؟.. الفن والشعر والمسرح والرسم والنحت والموسيقى الخ.. جعلت الانسان أمام سماء تتسع في هذه الأرض. الفن منح الانسان أجنحة للطيران وطريقاً إلى تأليه الجمال، وتجميل ما هو عادي وأقل من العادي.
خيانة العقل مزمنة، منذ البدايات وما قبل الدين. العقل بلا أنسنة يستفحل، يستسلم للغش والقوة والقسوة. الحروب نتاج عقول جائعة ولا تشبع، عقول اجتياحية ومدمرة وصانعة أقدار ومحطمة آمال. القرن العشرون، هو قرن صعود العنف إلى ذروته واختمار رأس المال إلى حد إعدام مدن ودول وشعوب.. حربان عالميتان. ومن دون التوغل في هذا الماضي القريب، العالم راهنا، فخور بحروب طاحنة وعنف من كل الأنواع والمصادر، عنف دول رأسمالية اجتياحية، نريد أسواقاً مطيعة ونهمة، عنف جماعات مؤمنة بالحرية والعدالة، عنف جماعات دينية ترتكب أبشع أنواع القتل. علينا أن نتأكد إن كان لدى هذا العالم مبادئ معقولة..أبداً. المبادئ ديكورات سياسية. المهم أن تفوز بمعركتك ولو أفنيت قيماً وجماعات ودولاً.
الرأسمالية بحاجة إلى اجتياحات.. الولايات المتحدة لا ترغب في أن تنافسها روسيا أو الصين. لسنا في الحسبان، نحن خاضعون لجملة تبدأ بفعل أمر. لا استشارات. اخضعوا، جوعوا، موتوا، سنحاصركم حتىباستسلامكم.
وحدها “إسرائيل” غير خاضعة لهذا المنطق، هي تُستشار ولا تقبل الأوامر. سُلطاتنا مجرد خدم صغار على موائد اللئام الكبار.
*نصري الصايغ-كاتب- لبنان
