تطبيع العلاقات المصرية التركية: مسارات شائكة ومصالح متضاربة
صبرين العجرودي
منذ أواخر عام 2022 شهدت العلاقات المصرية التركية محاولات جدية نحو تطبيع العلاقات بين الطرفين، لاحت ملامحها بعد لقاء الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب اردوغان على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم بقطر.
يذكر ـنّ العلاقات قد تدهورت بين البلدين بعد الاطاحة بالرئيس المصري السابق “محمد مرسي” في عام 2013 المدعوم بالكامل من تركيا. وفي هذا الخصوص لقت القيادات الاخوانية دعما كبيرا من الرئيس التركي، الأمر لم ينل ترحيب مصر التي صنّفت هذه القيادات على انّها ارهابية.
وفي فترة ما، زادت الفجوة بين البلدين، عندما وفّرت تركيا منصة لكل القنوات التلفزيونية والمواقع الاعلامية لتجد الحرية الكاملة للتعبير عن مواقفها المعادية للنظام المصري والانطلاق في حملات مشوّهة للنظام المصري دون أن تجد أي ردع من السلطات التركية.
إلاّ أنّ ذلك لم يستمر، حيث قامت تركيا بوقفها عن التحريض ووضع قيود وضوابط على عمل الاعلاميين المناصرين للإخوان، وهو ما اعتبرته مصر مبادرة تركية جيّدة لتحسين العلاقات بين البلدين.
يعتبر عودة العلاقات بين مصر وتركيا ملفا في غاية التعقيد نظرا إلى أنّه محكوم بعديد المتغيرات المرتبطة بمصالح وطبيعة كلا البلدين في المنطقة، لذلك فإنّ التطبيع النهائي يتطلّب تنازلات عديدة من الطرفين خاصّة بعد التغيرات العميقة التي شهدتها عديد المناطق على غرار سوريا وليبيا والعراق في السنوات الأخيرة.
ولعلّ ما يمكن الجزم به، أنّ عودة العلاقات المصرية التركية له أسبابه وتداعياته على المنطقة، التي يجدر علينا توضيحها وتسليط الضوء عليها وخصوصا اثبات مدى واقعيتها في علاقة بمصالح كل الأطراف وكل الملفات والقضايا ذات الصلة، من حيث قدرتها على أن تشكّل حاجزا أو محفزا لتطبيع هذه العلاقة بين البلدين على النحو المطلوب.
ما هي أهمّ العوامل التي دفعت كلا الطرفين للسير نحو تطبيع العلاقة فيما بينهما؟
ما هي التأثيرات التي يمكن أن تنجر عن تطبيع العلاقة بين البلدين ؟
لعلّ ما هو مثير في ملف عودة العلاقات بين مصر وتركيا، هو التغيرات التي يمكن أن تنجرّ على منطقة الشرق الاوسط في ظلّ التنافس المحتد بين البلدين من أجل النفوذ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى، لا يخفى وأنّ العديد من الحروب والمشاكل بين شعوب المنطقة لا يمكن أن تكون بمعزل عن ذلك، خاصّة وقد ارتبطت مشاكلها وازماتها بتحركات القوى الاقليمية في المنطقة، لذلك فإنّ مصيرها مرتبط الى حد ما بالخطى التي تسير على نحوها العلاقات المصرية التركية.
قراءة في طبيعة العلاقات المصرية التركية (2014-2023)
ساهمت الاحداث التي شهدتها الدول العربية في عام 2011 أو بما تمّ التعبيرعنه بكونه “ثورات عربية”، في ظهور تغيرات عالمية كبيرة، حيث سعت بعض الدول لاستغلال هذه الاحداث لخدمة مصالحها وزيادة نفوذها في بعض المناطق أو ترسيخ ايديولجيتها. وهو ما انطبق تحديدا مع تركيا، التي لم تتوانى في ترسيخ سياسات واستراتيجيات تسمح لها باستغلال الأوضاع المتدهورة في منطقة الشرق الأوسط تمكّنها من التوسع، وخصوصا غرس ايديولجيتها التي لاحت ملامحها بوضوح عندما شغلت التنظيمات الاخوانية الارهابية الحكم في مصر، حيث لقت دعما كبيرا من تركيا ارتفعبعد الاطاحة بنظام محمد مرسي في عام 2013. حينها انتقلت العلاقات المصرية التركية الى مرحلة تفاقمت خلالها التوترات، وتميّزت بالتصعيد من الجانب التركي واعلان دعمها الصريح لجماعة الاخوان في مضر.
رغم جلّ التغيرات العالمية غير المسبوقة التي طرأت على الساحة الدولية والاقليمية على وجه الخصوص وما الى ذلك من منافسات عميقة حول النفوذ والسيطرة، إلاّ أنّ ما يمكن ملاحظته منذ عام 2014 أنّ مصر ظلّت صامدة أمامها، حيث انّها حافظت على اتزانها وظلّت متشبّثة بمنطق عدم الدخول في مواجهة أو حرب مباشرة مع أي من منافسيها رغم صعوية تحقيق هذه المعادلة في ظلّ استمرار تركيا في فتح جبهات للصراع، لكنّ مصر في النهاية فرضت قوانينها حتى مطلع عام 2021، متى خرجت تصريحات رسمية ودية من رئيس تركيا ووزير خارجيته “تشاويش اوغلو” بشأن امكانية التعاون بين البلدين فيما يتعلّق بالاختصاصات البحرية بعد سنوات انقطعت فيها العلاقات الديبلوماسية نتيجة للنزاع حول مسألة الاخوان.
لم ترحّب مصر بذلك دون إملاء شروطها على الطرف التركي، مشيرة في ذلك من خلال جملة من التصريحات على لسان ساستها حول ما إذا وجدت مصر تغييرا في سياسة تركيا بما يكون متوافقا ومنسجما مع رؤيتها وعدم تدخل في شؤونها الداخلية فإنّها ستعمل على تحسين العلاقات في المستقبل وحينها ستتوفر الأرضية الملائمة للقيام بالاتفاقيات، خصوصا اذا ما ترجمت تركيا تصريحاتها الى أفعال. عقب ذلك قام الرئيس المصري باتصال لتعزية اردوغان على خلفية حادثة الزلزال الذي لحق بتركيا، ثمّ التقيا في افتتاح بطولة العالم لكأس القدم في العام الماضي.
دوافع السير نحو التطبيع
أحرزت مصر نجاحا كبيرا في نيل شرعيتها السياسيةممّاأفشل كل المحاولات الرامية للإطاحة بنظام السيسي على رأسها المحاولات التركية، وذلك من خلال تعامل عدّة دول مع مصر واستدعائها للمناسبات الرسمية، الأمر الذي أضعف الموقف التركيالرافض للنظام المخالف للإخوان في مصر، حتى أنّها لم تعد قادرة على الاعتماد على المعارضة المصرية نظرا لضعف الاخيرة وعدم قدرتها على الاطاحة بنظام السيسي المتماسك والمتحصّل على الشرعية الدولية.
الى جانب ذلك، يشكّل العامل الاقتصادي دافعا كبيرا لسعي تركيا لتطبيع العلاقات مع مصر، حيث أنّ سياستها مع الدول التي حصلت فيها الثورات وانحيازها مع الانظمة الضعيفة داخلها أفقدها استثماراتها، لا سيّما رجال الأعمال الذين واجهوا صعوبات كبيرة حين اتبعوا السياسية الاقتصادية التركية المنفتحة على أنظمة معيّنة في الدول التي تربطها بها علاقات اقتصادية. وهو الامر الذي جعل الوضع الاقتصادي في تركيا اداة للضغط عليها لإعادة رسم علاقاتها مع الدول التي أظهرت العداء ضدّ أنظمتها على غرار مصر. فمثلا تراجعت الصادرات التركية للسعودية في عام 2020 بما يقارب 95%، مقابل تسجيل الصادرات المصرية الى السعودية ارتفاعا بنفس النسبة، الى جانب ذلك سجّلت تركيا تضخما اقتصاديا كبيرا وانخفاضا في قيمة عملتها بمقدار النصف تقريبا مقابل الدولار الأمريكي في عام 2022، وتراجعت الأجور الى النصف، بينما تضاعفت أسعار المواد الغذائية منذ عام 2018.
اضافة الى ذلك، تعاني تركيا أزمة سياسية عميقة ممّا جعلها عاجزة عن التقدم نحو الأمام أو رسم استراتيجيات جديدة في علاقاتها الخارجية وهو ما يفسّر مساعيها لإعادة رسم العلاقات مع عدّة دول على غرار سوريا ومصر والسعودية.
ولعلّ من أهمّ ما يمكن ان تحرزه تركيا في تطبيع علاقتها مع مصر هو أن تحسّن علاقتها مع السعودية والامارات، وذلك بعد تيّقنها بأنّ معاداة الدول بسبب الايديولوجية الاخوانية أمر لم يعد مجديا بسبب تهاوي هذا الفكر وانعكاسه السلبي على مكانتها الاقليمية وعلاقاتها الخارجية، خاصّة وقد اتخذت الدول منحى مغاير في رسم العلاقات فيما بينها بعيد الى حد ما عن الايديولوجيا، حيث باتت المصالح الاقتصادية والسياسية طاغية تماما، لذلك تتجه تركيا نحو التغيير بعد التأثيرات السلبية التي خلّفتها سياستها عليها طيلة السنوات الماضية.
السيناريوهات المحتملة بشأن مسار تطبيع العلاقات
في حالة التوافق، من المتوقع أن يقوما الطرفين بتحديد أهمّ شروط تطبيع العلاقات من خلال تسليط الضوء على القضايا الحارقة بين البلدين والنظر في التنازلات الممكنة التي يمكن تقديمها بطريقة تضمن الموازنة فيما بينها والنجاح في تحقيق هدف عودة العلاقات.
في النفس السياق، اذا استجابت تركيا للشروط المصرية بشأن التطبيع والتي تتقاطع مع مصالح الطرف المقابل فإنّ البلدين سيصبحان قوتين اقليميتين لهما القدرة على إحداث تغييرات جذرية في العديد من الملفات، ولكنّ ذلك قد يتطلّب تنازلات عديدة من تركيا، على غرار توقّفها عن الدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، أو تراجع تمددها العسكري في المنطقة.
أمّا اذا تشبّثت تركيا بموقفها المتعلّق بالاتفاقيات الخاصة بشأن شرق المتوسط، فإنّ ذلك سيعرقل تطبيع العلاقات، حيث تحبّذ تركيا تقسيم الموارد التي يمكن العثور عليها في شرق المتوسط بين جميع البلدان في المنطقة بطريقة عادلة وإلاّ فإنّها سوف تقوم في كل فرصة بالتدخل من خلال المناورات العسكرية والدبلوماسية لتحقيق مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية. ذلك يختلف مع ملفي الأمن الطاقوي والأمن الاقليمي بالنسبة لمصر التي ترى تركيا أنّها تسعى للحصول على أكبر مساحة. وترى مصر في المقابل انّها لو اتفقت مع تركيا لتحصّلت على مساحة بحرية هامّة بدل تلك التي تحصّلت عليها من الاتفاقية المبرمة من إدارة قبرص.
تعتبر عودة العلاقات بين مصر وتركيا خطوة جريئة، ذلك لأنّ تحالف الطرفين وتجاوز الخلاف من شأنه أن يؤثر ايجابا على القوة الاقليمية للدولتين باعتبار أنهما تشكّلان مركزا لثقل واستقرار شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي حالة نجاح عملية تطبيع العلاقات فإنّ ذلك من شأنه أن يحدث تغيرات كبيرة على الصعيدين الدولي والاقليمي.
إلاّ أنّ منطق التنازل يعد أمرا صعبا في ظلّ المصالح التي تحكم مكانة البلدين وثقلها في المنطقة، ومن المفترض أن يسير نسق التطبيع بوتيرة بطيئة للغاية تجعل التطبيع غاية يصعب تحقيقها بقدر التعقيد والتشابك الموجود في الكثير من الملفات المرتبطة بمصالح البلدين.