قنابل الرئيس التونسي واستبدال الوطية بقاعدة رمادة
طربلس-لبنان-علي شندب
بدت المواقف التي أطلقها الرئيس التونسي قيس سعيّد، خلال اجتماع “المجلس الأعلى للجيوش والقيادات الأمنية” الخميس الماضي، أشبه بقنابل غير صوتية وغير دخانية..إنها القنابل التحذيرية وغير منزوعة الصواعق التي ألقاها الرئيس سعيّد عبر التلفزة التونسية وتناقلها الإعلام الدولي.
قنبلة سعيّد التمهيدية الأولى كانت “أن تونس تعيش ظرفا دقيقا قد يكون من أخطر اللحظات التي تعيشها البلاد”.
قنبلة سعيد الثانية كانت بكشفه اللافت عمّن يسعى إلى تقويض الدولة وقوله “إن هناك من يسعى إلى تفجير الدولة من الداخل عبر ضرب كل مؤسساتها وتغييب سلطتها في عدد من المناطق بعد ضربها وتفكيكها.. وإن الخطر لا يتهدد البلاد من الخارج بقدر ما يتهددها من الداخل”.
قنبلة الرئيس التونسي الثالثة أفصحت عن أبرز المخاطر التي تهدد تونس وهي “محاولة إقحام المؤسّسة العسكرية والأمنية في الصراعات السياسية، عبر محاولة استدراج المؤسّسة العسكرية من أجل الدخول معها في مواجهة”.
قنبلة سعيد الرابعة عرّت أهداف القنابل السابقة وهي “إشعال فتيل الفتنة في تونس”.
إذن، أربعة قنابل مدوية تلك التي فجّرها قيس سعيد في الإجتماع الإستثنائي للقادة العسكريين والأمنيين. إنها القنابل التي تحوي جعبة قيس سعيد الكثير منها، لكن يبدو أن الرجل ارتأى عدم الإفصاح عمّا في كل جعبته وأدًا للفتنة، واتساقا مع ما يسمح به الموقف وفق تقديرات قادة الجيوش والأجهزة الأمنية.
قنابل سعيد، أتت بعد أحداث عنيفة طالت مدينتي رمادة وتطاوين جنوبي تونس، والتي تداخلت فيها تظاهرات غاضبة بسبب البطالة والوضع الإقتصادي مع تصدي الجيش التونسي لرتل من أربع سيارات دفع رباعي “مشبوهة” تقل مسلحين قادمين من ليبيا أرادوا الدخول الى تونس عبر معبر وازن الحدودي، فتعاملت معهم قوات الجيش التونسي تدرجيا بالرصاص التحذيري وصولا إلى التصويب على عجلات الرتل الرباعي ما دفعه إلى العودة باتجاه ليبيا، ما أدى إلى مصرع أحد “المهربين” على يد الجيش في المنطقة العسكرية العازلة.
وزارة الدفاع التونسية شدّدت في بيان لها على “أن وحدات الجيش ستبقى جاهزة بكل الوسائل القانونية المتاحة للتصدي لكل محاولات المس بسلامة تراب البلاد وأمنها القومي عبر التصدي للأعمال غير المشروعة كالتهريب والأنشطة الإرهابية والجريمة المنظمة”.
مواقف الرئيس التونسي معطوفة على بيان وزارة الدفاع، تفصح عن ملامح المشهد الذي تعيشه تونس.. إنها الملامح التي رسمت حكومة قطر معالمها الأولى عام 2011، عندما حوّلت تونس إلى قنطرة لإدخال السلاح والمسلحين وكل صنوف العتاد الحربي دعما للميليشيات المسلحة التي شكّلت القوة البرية لعدوان الناتو على ليبيا.
فمن يستعيد حقبة 2011 المعروفة تفاصيلها غير السرية للمتابعين اللصيقين فضلا عن أهالي وأبناء جنوبي تونس، يستذكر وبالتفصيل كيف حضرت البواخرالقطرية إلى ميناء جرجيس البحري محملة بالمعدات والأسلحة والمسلحين، ويستذكر أيضا أسطول طائرات الشحن القطرية وغير القطرية التي كانت تحط في مطار جربة، (تلك الجزيرة التي تعتبر أحد أهم رموز السياحة التونسية).
كما يستذكر أيضا كيف استخدم مطار رمادة من قبل الطيران الفرنسي والقطري وغيرهما لتنفيذ الغارات على مواقع الجيش الليبي غربي ليبيا، ويستذكر كذلك بوضوح الخدمات اللوجستية التي وفرتها حركة النهضة لأساطيل العدوان وحشود المسلحين من مساكن وبيوت وفنادق ومشافي ومصحات وسيارات نقل وخدمات متنوعة بوصفهم أبناء المنطقة العارفين بدهاليزها ومنعرجاتها فضلا عن طرقها ومسالكها غير الشرعية المستخدمة من مهربي البضائع، وقد تحولت مسالك وأساليب المهربين إياها، طرقا لإدخال السلاح إلى ليبيا.
الأهم في كل ما جرى عام 2011 أنه كان يتم عبر تكامل ثلاث قنوات: الأولى قناة رئيس الوزراء الباجي قايد السبسي، الثانية عبر قناة رئيس أركان الجيش التونسي الجنرال رشيد عمّار، الثالثة عبر قناة حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي الذي لعب دور السمسار في تمكين قطر من السبسي والجنرال عمّار واستطرادا من تونس.
إنهم الثلاثي الذي حوّل تونس إلى قنطرة قطرية. حيث لعبت قطر دور متعهدة العدوان على ليبيا. إنها قطر التي اُطلقت يدها في جنوبي تونس، فبنت فيه شبكة علاقات يتداخل فيها الولاء الإخواني مع الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي.. إنها الشبكة التي لم تهملها قطر، لكنها جيّرتها لصالح حامي حماها أردوغان تركيا والإخوان.
ربما كان ضِلْعَا الثلاثي الباجي السبسي ورشيد عمّار، يعتقدان أن تحويل تونس إلى قنطرة باتجاه ليبيا لا يضر بمصالح تونس ولا بأمنها، بل من شأنه أن يدرّ الكثير من الأموال الخضراء إلى جيوبهم كما إلى بطون جائعة في تطاوين ورمادة وبقية الشريط الحدودي التونسي مع ليبيا، وهما لذلك ربما لم يشعرا بأي غضاضة، حتى أن السبسي الراحل، وبعدما تبوّأ كرسي تونس لم يتراجع أو يعتذر عمّا تسببت به فعلته بليبيا، ربما لقناعته الموهومة أيضا أن “القنطرة” تسير باتجاه واحد، وليس باتجاهات متعددة.
ثمة قناعة لدى أوساط كثيرة بينها بعض تلك التي حقنت بإبرة الثورات المسمومة، أن إسقاط نظام القذافي كان يتطلب بالضرورة إسقاط نظامي بن علي في تونس، ومبارك في مصر.. إنه الإسقاط الذي أضعف أجهزة الدولتين مركزيا وخصوصا في شرائطهما الحدودية.
إنها الشرائط التي مهّدت لإسقاط الدولة الليبية، ووفق فقه ثورات الربيع، فإن هزّ الشرائط الحدودية لمطلق دولة هو المقدمة الضرورية لإسقاط الدولة في مطلق دولة، إنها للمناسبة ثورات الشرائط في كل بلد أصيب بحقنة “الثورة”.
الذي قادنا إلى ما تقدم، هو أن قنابل قيس سعيد حول الخطر الذي يتهدّد تونس ويمهّد للفتنة فيها،والذي يستهدف الجيش التونسي والدولة التونسية حقيقي جدا. فما هي الأبعاد الإستراتيجية لكلام قيس سعيد، وما الذي يجعل تونس مهدّدة، وهل تونس وحدها المهدّدة أم أن التهديد يشمل الجزائر أيضا بوصفها هدف الثورات المسمومة منذ ما قبل العشرية السوداء؟.
إنها الأسئلة المعلنة، لكنها ليست كل الأسئلة التي لم يفجّر قيس سعيد كل صواعقها بعد، فبداية الحكاية انطلقت من تهنئة رئيس البرلمان التونسي ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي لرئيس حكومة الوفاق فايز السراج بتحرير قاعدة الوطية..إنها التهنئة التي أفصحت عن أدوار غير خفية لعبها ويلعبها غنوشيو النهضة في ليبيا وعبرها،والذين يعتبرون أنفسهم شركاء في “النصر” بالسيطرة على قاعدة الوطية الإستراتيجية.
إنها التهنئة التي أطلقت سجالا عنيفا داخل الوسط السياسي والشعبي التونسي، سواء داخل البرلمان، أو عبر تصريحات مناقضة أطلقها قيس سعيد الذي وصل معه حد التباين عن مواقف الغنوشي إلى درجة الطعن بشرعية حكومة الوفاق من باريس، وأيضا مبادرته لإطلاق حوار بين القبائل الليبية يمهّد لشرعية جديدة منبثقة عن مشروعية شعبية تمتلكها القبائل..
إنها المواقف المتطابقة مع مواقف نظيره الجزائري عبدالمجيد تبّون الذي اعتبر أن حكومة الوفاق تجاوزتها الأحداث،وكم كان لافتا إشارة تبّون إلى دور القبائل الليبية التي أخذت تسلح نفسها.إنهما الموقفان المتطابقان بدورهما مع موقف مصر ورئيسها عبدالفتاح السيسي.
لكن الذي أعاد قلب الأوضاع رأسا على عقب، هو الضربة الجوية التي دمرت منظومات الدفاع الجوي والتشويش الإلكتروني الراداري التركية في قاعدة الوطية التي سبق أن احتفل الغنوشي بالسيطرة عليها..
إنها الضربة التي يبدو أنها قد حيّدت الوطية عن الفعل والفاعلية الإستراتيجيين.. إنه التحييد الذي دفع أنقرة إلى الإعلان عن مناورة بحرية ضخمة، وهو الإعلان الذي دفع مصر إلى استباق المناورة التركية بمناورة “حسم 2020” الإستراتيجة التي لم يتمكن جنرالات أردوغان تركيا ووزير دفاعه خلوصي أكار من فك كامل شيفرتها بعد.
ما تقدّم خصوصا حول قاعدة الوطية، على علاقة رمزية وثيقة برتل السيارات الرباعية الليبية المشبوهة الذي حاول اختراق الحدود التونسية، وأيضا بالتطورات العنيفة في مدينتي رمادة وتطاوين التونسيتين المحاذيتين للشريط الحدودي مع ليبيا.
إنه الشريط الحدودي الذي تستدعي المخططات التركية القطرية الغنوشية هزّه وإحداث الفوضى على ضفته التونسية لأن الضفة الليبية مهتّزة أصلا، مع ما لهذا الإهتزاز من تداعيات خطيرة تتمثّل بخروج هذا الشريط التونسي عن السيطرة، سيما وأن ما جرى عام 2011 يعتبر بمثابة “بروفة” لما يرجح أن يجري في قادم الأيام.
إنه الشريط الذي سيهتز بالضرورة إذا ما ثبت أن تحييد قاعدة الوطية بات نهائيا، وهو التحييد الذي يقضي بسيطرة الفوضى التركية القطرية الغنوشية على مدن الشريط التونسي وخصوصا “قاعدة رمادة الجوية”بهدف استخدامها كبديل عن قاعدة الوطية تماما كما جرى في عام 2011.
إنها الفوضى التي لأجل إشعالها، وبحسب ما صرّح به لـ “إرم نيوز” ضابط الأمن الليبي في مصراتة، محمود الهواري “استقدمت تركيا من شمالي سوريا نحو 1400 مقاتل تونسي متشدد، نقلوا على متن طائرات مدنية ليبية وأخرى تركية الى مطار مصراتة ومنه توزعوا على عدة مناطق غربي ليبيا هي صبراتة، تلّيل، الوطية، ذهيبة ورأس اجدير” المحاذية للحدود التونسية، كما تحدث الهواري عن “تسريبات من وسط هذه الجماعات تفيد بأن هناك نية لنقلهم إلى تونس عبر مسالك صحراوية وتحديدا إلى مناطق الجنوب التونسي”.
إنها المناطق التي ارتفعت سخونتها الأمنية هذه الأيام، وهي المناطق التي تبدأ من رأس اجدير وتنتهي عند مدينة غدامس الليبية،ويبلغ طول شريطها الحدودي مع ليبيا نحو 450 كلم، ومن مدينة غدامس الليبية تستكمل الحدود مع الجزائر بطول يبلغ نحو ألف كلم.
إنها الحدود الليبية التونسية الجزائرية، التي ستتسرب عبرها الفوضى الأمنية الهادفة إلى تقويض الدولة في الجزائر قبل تونس، إلا إذا استدرك الأمر بموقف حاسم من الجزائر قبل تونس أيضا وقبل فوات الأوان.