القطيعة مع فرنسا.. الحلّ الأخير؟
الجزائر-13-02-2023
عبد الحميد عثماني*
ما حدث في واقعة إجلاء فرنسا للرعيّة الجزائرية يتجاوز بكثير كونه تدخلا لحماية مواطنة فرنسية، كما تبرر باريس، إلى مستوى الفعل الاستفزازي الممنهج لانتهاك السيادة الوطنيّة، والإمعان المتجدد في اختبار الغضب الجزائري، ولا تهمّ باقي التفاصيل الشخصية في الملفّ.
وسواء تعلّقت المسؤولية بتآمر أعوان الدولة العميقة في فرنسا، ذات النفوذ بالأجهزة الدبلوماسية أو الأمنية أو الاستخباراتية، الحاقدة على الجزائر والكارهة لأي تقارب معها بصفتها دولة مستقلّة تقف الندّ للندّ مع المستعمر البائد، فإنّ سلطة القرار العليا في الإليزي تتحمل كلّ التبعات المترتّبة، ولا يمكن تبرئتها من المناورة، خاصّة أنّ موقفها الرسميّ يبدو حتى الآن متماهيًا مع المؤامرة.
بالنسبة لنا، ما جرى مؤخرا ليس صادمًا قطّ، بل هو التعبير الفعلي عن الأخلاق الدنيئة المتأصّلة في الفرنسيّين، فما عرفهم التاريخ في علاقتهم بالجزائريين منذ قرنين إلا خونة من سفلة الغدر والتنكّر، إذ لا عهودَ مؤتمَنة معهم ولا ميثاقا محفوظًا عندهم، ومن إعتقد فيهم سوى ذلك فما عرفهم حقّ المعرفة.
في كل المحطات المفصليّة مع الجزائريين، غدرت فرنسا بهم وسامتهم سوء العذاب، وقد حدث ذلك مع دخول الاحتلال الغاشم بلاد البواسل، يوم خدع الجنرال دي بورمون الداي حسين، منتهكًا كافة شروط الاستسلام وتسليم مدينة الجزائر التي عاث فيها نهبًا وفسادًا، فلم تسلم من خرابه الوحشي حتى قبور الموتى من النبش وتحويل عظامها إلى مصانع الصابون بمرسيليا، ناهيك عما أوقعه من أضرار بحرية السكان ودينهم وممتلكاتهم.
وتكرّرت الخديعة الشنيعة مع المقاوم المغوار، الأمير عبد القادر، فقد أرادت فرنسا البغيضة إذلالَ البطل الذي أرعب قادتها العسكريين، باقتياده إلى سجنها في تولون عام 1948، عوض تركه يهاجر وأتباعه أحرارا طلقاء نحو الإسكندرية أو إلى عكا بفلسطين، مثلما اشترط على الجنرال لاموريسير لإنهاء الحرب، ليقضي سنوات منفاه في ظروف سيئة قبل الرحيل إلى تركيا ثم دمشق.
أمّا مجازر 08 ماي 1945 فستبقى العلامةَ الفارقة على نذالة الفرنسيين، هؤلاء الجبناء الذين عجزوا عن صدّ ألمانيا النازية، فوعدوا الجزائريين بالحرية مقابل إسنادهم لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، لكن الجنرال ديغول واجههم بالرصاص يوم الاحتفالات بانتصار دول المحور، حتى سقط منهم 45 ألف شهيد.
إذا رُحنا نسرد خيانات الفرنسيين فلن نحصيها عدّا، لكن المتيقّن منه أنهم لم يتغيروا في طباعهم السيئة، ولا تزال نخبهم في الحكم والسياسة مسكونة بثقافة الاستعمار القديمة، ويؤرقها حنين “الفردوس المفقود”، ما يرسم الغشاوة على بصائرهم العمياء ويحُول دون إدراكهم لتحوُّلات العصر والجغرافيا، ولن يكون آخرهم إيمانويل ماكرون، ذاك الماكر الصغير، المتسائل حديثا عن “وجود أمة جزائرية قبل تدنيس أجداده الوسخين لأرضها الطاهرة؟”، والمراوِغ بأبناء الأقدام السوداء، وخامسهم يهودي، لإعادة صياغة الذاكرة المجروحة.
سيقول البعض: مع العمل الآن مع فرنسا إذا كانت لا تعتبر من دروس التاريخ؟ هل باتت القطيعة معها حتميّة؟ وكيف يستقيم هذا الأمر بينما تسعى السلطات الجزائرية إلى فتح صفحة جديدة معها إثر كل أزمة مستجدّة؟
إنه ليس من السهل تقدير القرار المناسب، بأقل التكاليف، في سياق متشابك من المصالح المشترَكة والتراكم التاريخي الموروث، ولا شكّ أن العاقل هو من يفكّر بهدوء، موازنًا بينها وبين الأضرار المتوقعة، غير أن التفكير البراغماتي لا ينسف أبدا عقيدة السيادة التي لا تقبل الدنيّة في الوطنيّة، لأنها صمامُ الأمان لحفظ المصالح العليا للوطن.
إننا نثقُ في حكمة وحنكة قيادة البلاد في التعاطي الكيّس مع مناورات “عدوّ تقليدي”، لكن أفق التعاون وبناء مستقبل أفضل مع فرنسا يبدو مسدودًا، وليس من مصلحة الجزائر تضييع مزيد من الوقت، بل عليها أن تتفرغ لاستكمال طريقها مع شركائها الآخرين ممن يبادلونها الإرادة والإخلاص.
*كاتب وصحفي جزائري