الفضل شلق*: نحن أمام نظام رأسمالي قائم على المصادرة والاخضاع والسلب
بيروت-لبنان-16-3-2023
لا يتوقف الحديث عن العلم والمعرفة سبيلاً للسيطرة على الطبيعة.. ومع التقدم التقني، لا بد وأن يتضاءل التواضع.
حالما تقع الكارثة ترتفع الأصوات داعية إلى المساعدة والتعاون.. أمَا كان أجدر أن يكون التعاون البشري هو الأمر اليومي؟ نرى النمل ينتظم تلقائياً في العمل والجهد والتعاون.. هل النمل أكثر تفهّماً من الإنسان؟ أم أنها مجرد غريزة، وأي غريزة هي المتأصلة في الإنسان تدفع بني البشر إلى التنافس الدائم، بل الحرب بعد الأخرى، وصولاً إلى الإبادة؟!
يقال إنه كان يقف وراء القيصر الروماني رجل يهمس في أذنه بين الحين والآخر قائلاً: تذكر أيها القيصر أنك إنسان..
ألا يجب أن يكون هناك من يهمس في دماغ الإنسان بمدى حاجته إلى التواضع؟ هل تعوزنا دراسة التاريخ من أجل العبر أم من أجل التيقن من صغرنا؟
هنا لا بدّ من الاعتذار من ابن خلدون على عنوان كتابه في التاريخ: “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر.. في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، والاعتراض هنا على تعبير “العبر”.
لقد قال أحدهم عندما غزت الولايات المتحدة العراق تذكيراً بحرب فيتنام، “إن الدرس الوحيد الذي تعلمناه من التاريخ هو أننا لم نتعلم من التاريخ”. سيبقى الإنسان صغيراً وتافهاً وحقيراً ما لم يتعلّم من التاريخ ضرورة التعاون البشري، والتقدم المعرفي والتقني في سبيل سعادة الإنسانية، لا في سبيل السيطرة على الطبيعة أو الانتصار على البشر الآخرين. الانتصار على الطبيعة يعني في كثير من الأحيان تدمير البيئة وإبادتها، وإبادة تنوعها البيولوجي. والانتصار على الإنسان يعني حروب إبادة بمختلف أنواع السلاح، وهذا في الأصل ناتج عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ومصادرة نتاج عمله، وسلبه وقت راحته، وزرع القلق في دماغه، ومصادرة أرضه ومدخراته.
نظام رأسمالي ينتصر به بعضٌ من البشر على بقية الناس وعلى البيئة، ويتباهى أصحابه بنجاحاته.. نظام سواء أكان أحادي القطبية أو متعدد الأقطاب، هو دائماً يثير نعرات وعصبيات قومية ودينية ليشن الحرب بالوكالة عبر من ينوب عنه، وبتكليف منه وبدعم منه بالمال والسلاح.
للتأكد من إمكانية إبادة البشرية بواسطة التنافس والحرب، أدى التقدم إلى اختراع وتطوير أسلحة دمار شامل، من بيولوجية وكيماوية وغيرهما، وأهمها الأسلحة النووية.
ما من دولة تهدف إلى مركز مرموق في ميزان القوى الدولي إلا وتسعى إلى امتلاك السلاح النووي، فتصير من بين “قبضايات الحي”. ما يُنفق سنوياً على آلات القتل حول العالم يكفي لإزالة الفقر والجوع لو حلّ التعاون مكان التنافس والعدائية. حتى المال سلاح دمار شامل. أدركنا ذلك في لبنان، صار المال ورقاً تطبعه دول عظمى، وأهمها الولايات المتحدة، لكنه يستبدل بسلع تُنتج حول العالم، وهي نتاج عمل الفقراء، فتصير بالشراء ملك الأقوياء. لنا الورق ولهم السلع بحماية جيوش وأساطيل. الورق المطبوع مال لا قيمة له إلا أن مصدره القوة العسكرية، وأهمها أسلحة الدمار الشامل، وأهمها النووي.
سلاح آخر هو تدمير البيئة.. يتغنون بالطبيعة ويسعون إلى السيطرة عليها وإبادة ساكنيها. هذا الإنسان الذي يفخر بإنجازاته ويمنح الجوائز، وجائزة نوبل واحدة منها، لمن يبدع على طريق التقدم، وفي نفس الوقت تأتي جرثومة هي في حقيقتها أقل من خلية كائن حي (هي بروتين له كيانه ويسمونه فيروس) لتكمم الأفواه وتباعد بين الناس، وتحبس الناس في بيوتهم (إن كان حظهم يتيح لهم السكن) ثم تأتي الزلازل الكبرى لإبادة عشرات بل مئات الآلاف، والحبل على الجرار.
لا يفيق الإنسان على ضرورة المساعدة، وهو شكل من التعاون، إلا عند وقوع الكوارث الكبرى، أو لا يكون ذلك في العادة إلا مؤقتاً لتعود “حليمة إلى عادتها القديمة”، وتبقى العادة في معظم الأحيان هي القتل والدمار والإبادة. يكتشف الإنسان أن الطبيعة تتغلّب عليه بزلزالها أو بفيروسها، وما دام الإنسان لا يأخذ العبرة من ذلك فلا معنى لجميع العبر الأخرى. كل العبر الأخرى مضرة، إذ تدخل في باب التنافس والقتال، ما عدا هذه العبرة الأساسية والوحيدة المفيدة، لا بل الضرورية لبقاء الجنس البشري. هل يمكن لزلزال الكرة الأرضية أن يُنبّه الإنسان إلى زلزال الفقر الذي يحيل حياة مليارات البشر إلى البؤس والجوع والإبادة ولو بقي الفقراء أحياء لكنهم أحياء أموات؟.. زلزال الأرض يعمل بالصدمة أما زلزال الفقر فيعمل ببطء..
يشنون حملات يسمونها حروباً على الفساد وعلى الإرهاب، وهي حروب كاذبة تهدف إلى صرف وعي الناس عن المشكلة الحقيقية، والأولى شن حرب حقيقية على الجشع والطمع.
نحن أمام نظام رأسمالي قائم على المصادرة، وسلخ نتاج عمل الناس، والإخضاع والسلب، ولا يؤدي إلا إلى نهاية واحدة هي نهاية البشرية. يُقال وسيُقال إن كلامنا عن التعاون طوباوي وإن نظامهم الرأسمالي هو الواقعية. إذا كانت الواقعية تعني في النهاية إبادة البشرية، فمرحى لنا بالطوباوية.
زلزال شرق المتوسط (تركيا وسوريا) ليس ظاهرة شاذة، بل هي الأرض تتربص بالبشرية، وتنفجر بين الحين والآخر لتذكر الإنسان بصغره وتفاهته، وكلاهما يعبران عن حقارة أخلاقية لا يخفيها ما أحرزه الإنسان من تقدم.
استخلف الله الإنسان على الأرض فما أحسن (الإنسان) الصُنعَ.
- مفكر وباحث-لبنان