أخبار العالمإفريقيا

الجنوب الليبي المفتوح على سلة المخاطر

خالد عكاشة-كاتب ومحلل مصري


في ظل الأزمة الليبية التي اعتاد تناولها باعتبارها؛ حالة استقطابية ما بين الشرق والغرب كاختزال ظل مقصودا من أطراف عدة، ومنسيا من آخرين بالنظر للتحدي الجغرافي الشاسع الذي يصعب من الإلمام بجوهره. يحضر اليوم الجنوب بـ”سلة مخاطر” متنوعة تهدد معادلات الأمن التي ستطال الشمال لا محالة، إن بقي التجاهل الحاصل على حاله، وفيما لو ظلت الإرادة غائبة عن شمول هذا الجنوب لمفهوم الدولة الحقيقية ذات السيادة.

فقد تكبد الجنوب فاتورة باهظة، جراء ما وقع في مجمل المشهد الليبي طوال عقد كامل هو عمر الأزمة، اليوم هناك نذر لإمكانية صياغة توافق حقيقي، قد يشكل نقطة ضوء، سبقها ربما للمرة الأولى رؤية متوازنة ووافية للجنوب، جاءت في مشروع المستشار “عقيلة صالح” رئيس البرلمان التي اصطلح على تسميتها بالمبادرة المصرية، لكن تظل التحديات كبيرة ويلزمها عمل جاد ومتكامل، حتى لا يمثل الإقليم الثقب الذي يبتلع ما يجري العمل عليه الآن بجهد حقيقي.

تحدي التنظيمات الإرهابية المسلحة يمثل أبرز ما يواجهه الجنوب، ويأتي تنظيم “داعش” كأبرز التكوينات المهددة بصورة كبيرة، فالتنظيم حاضر في ليبيا منذ سنوات وان ظل يتنقل ما بين مناطقها، حتى استقر في الجنوب بعد هزيمته في مدينة “سرت”، التي كان يفضل استخدامها كمستقر ساحلي له في نقطة المنتصف الاستراتيجية.

لكنه دفع مع تنامي الأحداث في الشريط الساحلي الشمالي، إلى اقليم “فزان” الجنوبي كي ينضم بعناصره إلى مجموعات متنوعة من المليشيات وعصابات التهريب المنظم، تتنقل على امتداد يقارب (220 ألف ميل مربع) هي مساحة إقليم “فزان” التقريبية، الذي يقطنه أقل من نصف مليون نسمة، حيث تمثل تلك الندرة السكانية تحدي أمني اضافي في الوقت الذي تمثل ميزة نوعية هامة للعناصر المسلحة.

الجدير بالذكر أن الإقليم تمتد فيه شرايين التدفق الاستراتيجي لكلا من النفط والماء، الذي يغذي الشمال الشرقي والغربي على السواء، ليمثل عامل ضغط حقيقي في حال تعرض لأشكال تهديد محتملة من جانب العناصر المسلحة الخارجة عن السيطرة، أيا كان انتماء تلك المجموعات أو أهداف تواجدها وعملها بالمنطقة.

المصادر الليبية الجنوبية والمحققين التابعين لقوات “الأفريكوم” الذين تابعوا تحركات مقاتلي “داعش” بعد مغادرتهم مدينة سرت، يؤكدون أن التنظيم أسس لـ”جيش صحراوي” يتكون من ثلاثة ألوية، وأن مجموعات من تلك الألوية كانت هي المسؤلة عن الهجوم الواسع الذي شن على منشآت “النهر الصناعي العظيم” في العام 2017، واتبعتها بتدمير عدد كبير من أبراج الكهرباء المغذية لمدن وقرى الجنوب، على طول ما يقارب 100 كم تقريبا.

فضلا عن عديد من الكمائن وعمليات الإغارة التي يخرج مقاتلو تلك الألوية لشنها، بغرض الاحتفاظ بحالة السيولة الأمنية من خلال إرهاب أي مكون مسلح وطني، بغض النظر عن تبعيته للغرب أو الشرق أو الجيش الوطني على السواء.

اليوم وبعد أن استتبت أوضاع “الجيش الصغير” التابع لتنظيم داعش، بدأ يتسلل تحت نسيج النزاعات البينية لتلك المنطقة، التي شهدت تنافس حاد خلال أعوام الأزمة الليبية، فطرق التجارة والتهريب ما بين الجنوب الليبي ودول جوارها على خط الساحل والصحراء، ظلت لعقود هي عنوان التنازع القبلي والإثني لتلك الدول، التي لا تملك حدود حقيقية منضبطة ومؤمنة بين بعضها البعض.

تحدي امتدادات المكون البشري لهذه المنطقة، وانقسامه داخل عديد من الدول، يصعب الأمر الذي شهد مزيد من التفاقم، جراء تفكك سلطة الدولة الليبية التي كانت حاضرة ما قبل ثورة فبراير، فالاتفاقيات العرفية التي كان يجري احترامها، ومنحت “الطوارق” سيطرة على الممرات التي تربط الجنوب الليبي بدولة “النيجر”، في الوقت الذي يسيطر فيه “التبو” على ممرات آخرى تربط تشاد وجانب آخر من النيجر مع الجنوب الليبي.

هذا الاتفاقيات انهارت منذ العام 2014، وبدأت الصراعات تتوالى ما بين هاذين المكونين الكبيرين “التبو” و”الطوارق”، أصحاب النفوذ والسيطرة على مساحات هائلة من الأراضي، وعلى حجم معتبر من التجارة الشرعية وغير الشرعية، فضلا عن تواصل وتقاسم للمهام وتبادل للمصالح، مع فصائل ومجموعات مسلحة معارضة لأنظمة تلك الدول ولها توجه انفصالي تؤسسه وتمارسه على الأرض.

هذه المناطق وتلك الممرات بالخصوص؛ ظلت في السنوات الأولى للأزمة الليبية يجري مراقبتها من قبل القاعدة الفرنسية التي شيدت في “ماداما” بالنيجر، في المنطقة الحدودية القريبة من ليبيا وتشاد والتي كانت مسرحا حقيقيا لتحالف المسلحين المحليين، مع القادمين من التنظيمات الإرهابية الذين دخلوا فعليا على خط استثمار حالة السيولة المشار إليها.

اليوم وبعد منتصف العام 2018 شيدت قوات “الأفريكوم” الأمريكية، قاعدتها الكبيرة المطورة شمال “نيامي” عاصمة النيجر بالقرب من حدودها مع ليبيا ومالي، بعد ما لا يقل عن (10 عمليات) إرهابية تعرضت لها القوات الأمريكية بهذه المنطقة ما بين أعوام 2015 و2017، وباستخدام “الطائرات المسيرة” الحديثة من طراز (MQ – 9 Reaper) تقوم الأفريكوم بمهام رصد جوي شامل، للتمدد الإرهابي وللارتكازات المسلحة بالأخص التابعة لتنظيم “داعش”، حيث تدخلت في مرات عدة لتنفيذ هجمات جوية ضد قيادات أو مجموعات من “الجيش الصحراوي”، ساهمت في تقليص تمدده بداخل ليبيا وحدت كثيرا من حرية انتقاله عبر الحدود، وتواصله مع المكونات الأخرى المسلحة في تشاد ومالي على وجه التحديد.

لكن يظل التنظيم من خلف عيون وآذان المسيرات الأمريكية المحلقة على مدار الساعة، قادر على أن يعمل بالعناصر المحلية المساندة له والتي تتبادل وتتقاسم معه المصالح، كي يعزز ـ ولو بشكل مقيد قليلا ـ من نفوذه وإمكانيات تمدده.

تحديات الجنوب الليبي، كبيرة ومتنوعة ولا تقف عند حد الاختلال الأمني الواسع رغم فداحته، خاصة عندما يكون الوضع الإنساني شاهدا على قصور عميق في الخدمات والبنية التحتية، مما يجعل التحدي مركبا في ظل تنامي التحدي الأمني الذي يتغذى على هذا القصور، ويتمدد ليخلق أوضاع يصعب معالجتها دون حزمة متكاملة من الدعم، تشمل الأمن بالضرورة، لكنها لا تقف عنده وحده، فالجنوب الليبي يحتاج إلى صيغة جديدة تماما، وإلى إرادة فولاذية من الليبيين وحلفاءهم من دول الجوار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق