أخبار العالمبحوث ودراسات

البنك المركزي التونسي بين جدلية الاستقلالية والتأميم …

فاتن جباري: باحثة في المركز الدولي للدراسات الاسترايتجية الامنية والعسكرية بتونس

تقديم

عاد الجدل من جديد حول جدوى استقلالية البنك المركزي التونسي عن السلطة السياسية وما  صاحبه من ردود أفعال مستهجنة ورافضة لهذا القرار، وذلك  لتداعياته  المباشرة على الاقتصاد الوطني وخاصة منه الاستثمار حيث بدأت  فكرة استقلالية البنك المركزي عن السلطة السياسية منذ طرح قانون عدد 35 لسنة 2016 المتعلق  باستقلالية جهاز من أجهزة الدولة بعهدته الإشراف على جزء مهم من السياسة الاقتصادية العامة لبلاد هو البنك المركزي التونسي .

بدأت فكرة تحويل مسؤولية  السياسة النقدية من الحكومات إلى البنوك المركزية، استجابة للشروط المسبقة التي فرضتها معاهدة “ماستريخت “على الدول الأوروبية الراغبة في تحقيق الوحدة الاقتصادية والنقدية فقررت الهيئات التشريعية في معظم بلدان الإتحاد الأوروبي تفويض البنوك المركزية بعبء السياسة النقدية وشمل هذا الاتجاه فيما بعد كثير من بلدان العالم.

حيث تنشأ هذه الاستقلالية من خلال توفر جملة من الركائز الاساسية  وهي ضرورة وجود استقلال قانوني عن الدولة خاصة فيما يتعلق بتعيين ومدة ولاية محافظ البنك أو هيئته التنفيذية كذلك استقلال أدوات السياسة النقدية أي  معدل الفائدة السيولة وبالتالي لا يمكن الحديث عن استقلالية الا اذا تمتع البنك المركزي بصلاحيات كافية من اجل تحديد السياسة النقدية  بما في ذلك طباعة النقود دون تدخل السلطة العامة او ضغط الدولة …لقد ادى هذا الامر في عديد المرات الى ارتفاع نسبة التضخم في مقابل انخفاض قيمة الدينار. يبقى الهدف النظري من إعطاء البنوك المركزية المزيد من الاستقلالية عن السلطة السياسية هو ضمان استقرار الأسعار وضبط معدلات التضخم في حدود منخفضة او مستقرة.

لطالما طرحت قضية استقلالية البنوك المركزية على رواد الاقتصاد العالميين  “هل من الحكمة تكليف شخصأو مجموعة من الأشخاص  أو ما يعرف بالبيروقراطية المالية بالتصرف بآلية خطيرة كالسياسة النقدية ؟ وهنا أقتبست مقولة الاقتصادي المعروف ملتون فريدمان المتحصل  على جائزة نوبل لسنة 1976 حين يقول في خصوص البنوك المركزية ” النقد أخطر من أن نجعله بين أيدي موظفي البنوك المركزية “فهل أن البنك المركزي لا يمكن أن يكون مستقلاً إلا اذ تمرد على السلطة التنفيذية وهل ان عدم انضباط البنك يخدم الاقتصاد الوطني ؟

لو نلقي نظرة على التجارب الدولية الاخرى، فمثلا بنك اليابان الذي تأسس سنة 1882 أحد البنوك الثلاثة المركزية الرئيسية في العالم اكتسب استقلاله عن الحكومة اليابانية وفقا لقانون 1 أفريل 1998، و مثل جميع البنوك المركزية الكبرى فهو  المسؤول عن تنفيذ السياسة النقدية للبلاد وضمان استقرارها المالي والجدير بالذكر أنه  فيما يتعلق ب تسيير السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف يحتفظ بنك اليابان باتصال وثيق مع الحكومة اليابانية وذلك تمشيا مع السياسة الاقتصادية لهذه الأخيرة فالمثير للدهشة أن نرى تمكن هذا البلد من الحفاظ على معدلات تضخم منخفضة ومستقرة بالرغم من ضعف درجة استقلالية البنك عن الحكومة.

نفس النتائج التي حققها الاقتصاد الألماني الذي يعرف بنكه المركزي” Bundesbank”بأعلى درجات الاستقلالية عن الحكومة الألمانية فالبنك المركزي الألماني يعتبر النموذج للبنك المستقل عن السلطة السياسية  منذ سنة 1949، ونجاحه في إدارة السياسة النقدية يعتمد بالأساس على التنسيق التام مع الحكومة الألمانية…فقوة و تأثير هذان البنكان، بالرغم من تفاوت درجة الاستقلالية عن السلط السياسيةتكمن بالأساس في قدرة مسؤوليته على التواصل مع أجهزة الحكومة  التي لها الدور الاشرافي و الرقابي على مدى نزاهة وشفافية و قدرة  هذه البنوك فضلا على الكفاءة و المهنية لإدارة البنك .

إن السياسة النقدية هي جزء لا يتجزآ من السياسة الاقتصادية العامة للحكومة فلا يمكن لهذه الأخيرة إنجاح برنامجها الاقتصادي و الاجتماعي بدون التنسيق بين مكونات هذه السياسة، كسياسة الأجور و الأسعار والصرف  و سياسة القروض وسياسة النقد و سياسة ميزانية الدولة، … فلا يمكن للبنك المركزي رسم السياسة النقدية بمعزل عن الأجهزة الأخرى للدولة. ففي حال التضارب بين السياسية النقدية وسياسة الميزانية، وتمسك كل من البنك المركزي و الحكومة بموقفهما، فالنتيجة  الحتمية شلل اقتصادي يصيب البلاد

فنظرية البنك المركزي المستقل لا تؤدي بالأساس إلى التحكم بالتضخم و الأسعار ولكن تناغم البنك مع منظومة مؤسسات الدولة هي التي تسمح بالوصول لهذا الهدف. كما ان منظومة التشريع المالي الحالية لا تسمح حقيقة بمجارات واقع السياسة العامة بالبلاد .فهذا الواقع الذي يتحكم به ويتلاعب بأهم ركائزه و مقدراته “وحش الاقتصاد الموازي” الذي يلتهم كل شئ دون ان يكون للدولة نصيب من عائداته التي يصفها الخبراء بالعائدات الخرافية أي ما يضاهي نسبة 80 بالمائة فيما يشابه الاقتصاد الوطني و ناتج داخلي خام لدولة في حد ذاتها …

 فسوق الصرف الموازية هو نتيجة للاقتصاد الموازيالذي يتعامل بالنقد عند الاستيراد والبيع خارج المسالك القانونية وبالتالي فهو يحتاج لعملة يشتريها وعندما تتوفر العملة يمتهن بيعها وتصبح هي في حد ذاتها تجارة، فمن أسباب ظهور السوق الموازية للعملة في تونس هو قانون الصرف الذي يمنع العديد من التحويلات وهذا ما يخلق قانون صرف موازٍ، وكل ما هو موازٍ فيه إضرار كبير جدًا بالاقتصاد المنظم. 

كما ان  العامل الأساسي في تراجع تصنيف تونس الائتماني راجع الى عدم وجود منظومة اصلاحية واضحة وشاملة للمالية العمومية و رؤيا قانونية فعلية تتجاوب ومتطلبات الاوضاع الدولية الراهنة و التغيرات الحاصلة في السوق والاقتصاد العالمي  مما يزيد من مخاطر العجز المالي  وتراجع النمو الاقتصادي وهو ما يجعل نسب التضخم مرتفعة علاوة على ارتفاع حجم المديونية وبالتالي  تخلف الدولة عن سداد ديونها وبالتالي تراجع  رقم معاملاتها و تصنيفها العالمي مع صندوق النقد الدولي.

إن الاحتياطي من العملة الصعبة في خزينة البنك المركزي يتآكل  في المقابل تونس لديها ثلاثة أنواع من الالتزامات: أولًا ضرورة التزود بالمواد الأساسية من الغذاء وغيره بما فيها الأدوية  وضخها بالأسواق التونسية ، كذلك توريد الطاقة ومواد التجهيز والمواد الأولية اللازمة للإنتاج،  ثم تسديد الديون الخارجية.

كما ان الاقتصاد الموازي في العملة أو في أي مجال آخر لا يحترم القوانين ولا يساهم في منظومة الجباية و الاستثمار  والتضامن الاجتماعي وينافس بشكل غير قانوني   المنظم لأن السوق الموازية للعملة لها علاقة مباشرة بتسعيرة العملة أي أنه عندما يرتفع التضخم تتراجع قيمة الدينار وبالتالي ترتفع قيمة العملةوبذلك ترتفع قيمتها أيضًا في السوق الموازية. 

السوق الموازية أصبحت متواجدة في كل مكان وخاصة في تونس العاصمة والساحل وبن قردان  قابس والجم  وعلى الحدود و في المعابر ومن وجهة نظرنا ان انتشار سوق العملة السوداء ليس له علاقة بضعف القوانين أو غيابها لأن القوانين موجودة وتجرم هذه العمليات غير القانونية وتنص على عقوبات لكل مخالف بل ان  ترسانة هذه القوانين على كثرتها لا تتسم لا بالجدوى ولا بالفاعلية حيث تثبت التجارب اليوم في الانظمة المقارنة  وان الاقتصاد الموازي والذي يوجد في الكثير من دول العالم قد استفادت هذه الدول  من إعادة  تقنينه وارجاع عائداته المالية الضخمة وادخالها مباشرة في خزينتها الوطنية وذلك من خلال تغيير قاعدة التشريع الصرفي والمالي بهذه الدول حيث يصبح الاقتصاد الموازي شكلا من اشكال الاقتصاد الرسمي بعد اجتثاث كل عنصر غير مشروع في هذه الصيرورة او السلسلة الاقتصادية و تطويعها او اعادة هيكلتها ضمن الاقتصاد الرسمي على ان يتم إحداث لجنة تفقد محايدة لتفقد البنك المركزيوزارة المالية، مكاتب الصرف والادارات التابعةللديوانة والبنوك الاخرى …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق