وضباب ما بعد البيانات !
*خالد عكاشه: كاتب وباحث مصري
البيانان اللذان صدرا الجمعة الماضية، من المجلس الرئاسي والبرلمان الليبي يعلنان فيه وقف العمليات العسكرية في كافة الأراضي الليبية، حظيا بترحيب واسع من كافة الأطراف المعنية، ربما للمرة الأولى التي يتوافق فيه رد الفعل على هذا النحو تجاه خطوة ما تخص الأزمة الليبية.
وهو يمثل ملمح ايجابي دون شك، لكنه في ذات الوقت يثير تساؤلات عدة، لن تقف عند حد الدهشة من هذا الاحتفال بـ”خطوة” طال انتظارها، رغم وضوح المسببات التي ظلت تحول دون الوصول إليها، فضلا عن معرفة الأطراف التي مثلت الجانب المعطل لتلك الخطوة التأسيسية، حيث يبدو الحديث عن توافق سياسي دون تحققها عبثيا، ويبدو كحالة دوران في المكان.
لذلك بالرغم كون المقال، معني بـ”ما بعد” مثلما جاء عنوانه، لكن الاشارة إلى ضرورة المكاشفة في تحديد الطرف، الذي حال ويحول دون الوصول إلى معادلة أمن يمكن الانطلاق المبدئي في ظلها، للتباحث حول نظام الحكم والانتخابات والدستور وعديد من هياكل العمل المؤسسي الذي يجتهد فيه الكثيرون الآن.
هناك نص واضح في بيان حكومة الوفاق يتحدث عن خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، وهنا يبدأ الضباب الكثيف يلف سطور “ما بعد” اعتراف من هذا النوع، ففي حال ظن فايز السراج أن الآخرين يمكنهم قبول أي معنى لهذا الطرح، سوى أن القوات التركية هي المقصود الواقعي بالقوات الأجنبية، وأن المرتزقة الذين تم جلبهم من سوريا ومؤخرا من الصومال بمعرفة تركيا وقطر، هم القابعين في أكثر من موقع بالغرب الليبي منها العاصمة طرابلس، التي شهدت قبيل ساعات من بيان الوفاق المشار إليه تظاهرات شبابية بالسترات الصفراء، تعبر عن احتجاجها وضيقها من تغول العناصر الأجنبية التي تنامت لحد ابتلاع العاصمة من أبنائها الليبين.
حينها سيكون هناك اصطناع لـ”حالة عبثية”، لو بدا الأمر مستقبلا بعد بيان الوفاق إعادة انتاج لاتهاماته للطرف الآخر بذات التهمة، التي انكشف تهافتها ولم يظهر لها دلالة واحدة.
في الوقت الذي تنقل فيه وكالات الأنباء العالمية زيارات وزير الحرب التركي داخل المعسكرات والقواعد العسكرية التي كبلت الوفاق نفسها بالسماح بها، بل ومع اصطحاب الوزير التركي لنظيره القطري في زيارته الأخيرة، انتقل الأمر لخطط تطوير هذا التواجد وترتيب آلية جديدة لتغطية نفقاته، لاسيما مع البدء في التباحث والمعاينة لتوسعة الاستحواذ على “الارتكازات الساحلية” بالخصوص.
تلك التفاصيل لم يقف أثرها عند حد الغضبة الشعبية الداخلية فقط، انما تحدث بشأنها الوزير الألماني “هايكو ماس” في زيارته الأخيرة لطرابلس، مشيرا إلى أن الوضع على هذا النحو يبدو خطيرا، ومدمرا لأي جهود دولية لمسارات الحل المستقبلي. هنا يعود الضباب ليتكثف حول أبعاد الخطة التركية القطرية الكبرى، التي تجرى على قدم وساق في نطاق الغرب الليبي غير آبهة بهذه المتغيرات، ليثور تساؤل منطقي عن المغزى والدافع الحقيقي لصدور بيان الوفاق، بعد أيام من مغادرة وزير الخارجية الألماني، هل جاء اطلاق البيان كنوع من تسكين الضغوط التي بدأ الوفاق يستشعر جديتها، من أطراف دولية لا يملك مساحات كبيرة للمناورة أمامها.
فهناك ضغوط أمريكية أيضا وصلت لطرابلس بأنه لا مفر من الانخراط في العملية السياسية، وأن المبادرة المصرية هي الأقرب والأنضج للتفاعل معها، فضلا أن الخطوط المصرية الحمراء التي جرى الإعلان عنها، خضعت لتقدير أمريكي مفاده أن صداما مسلحا بين مصر وتركيا في ليبيا، كفيلا باجهاض وارباك المعادلة الأمنية الهشة بالشمال الأفريقي ومياة المتوسط، مما دفع الولايات المتحدة لإنفاذ بعض من مبعوثيها المؤثرين عشية صدور هذه البيانات، لإجراء مجموعة من المقابلات، المؤكد أنها ساهمت في انتزاع هذا البيان من الوفاق بقبول وقف اطلاق النار.
المتفاؤلون ينظرون لما جاء في بيان الوفاق، باعتباره طرحا يمثل وجهة نظر يتلاقى في جانب منه مع رؤية أمريكية جرى اختبارها قبل أسابيع، فيما يخص مدينة “سرت” منزوعة السلاح كخطوة تمهيدية. في الوقت الذي يرى الواقعيون وكثيرون من داخل ليبيا قرأوا ما جاء بالبيان باعتباره شروط، تسهل للوفاق نقض التزامها بوقف العمليات العسكرية، أو خروج المرتزقة، بمجرد رفض الطرف الآخر وضع “سرت” وفق تلك الصيغة.
على امتداد خط تلك القراءة يبدو البيان فعليا في هذا التوقيت، يمثل للوفاق “وقفة تعبوية” تسمح للحليف التركي بالاحتفاظ بمكاسبه التي حققها في الغرب، وتعطي له فسحة زمنية ـ حتى مارس القادم ـ لاستكمال مشروع قواعد الساحل الليبي، والاستحواذ على الموانئ الذي بدأ منذ سنوات ويرغب في شرعنته باتفاقات تبدو قانونية، تمكنه من الاحتفاظ بها في ظل التسويات القادمة.
خيارات وبدائل من هذا النوع، ليست بخافية على الكثيرين منهم القاهرة على الأقل، التي تدرك حجم المطامع والمخططات التركية، واطلاقها لخطوطها الحمراء الممتدة حتى الآن كان تصديا وجاهزية، أمام هذا المشروع العثماني المدمر لمستقبل ليبيا، والذي يراهن اليوم على امكانية دفع الأمر مرة أخرى للتقسيم، والاحتفاظ بمكاسبه في الغرب حيث يستثمر الوقت في احكام قبضته الناعمة عليه تباعا. لكن قيادات الوفاق على هذا النحو؛ يكونوا في ظل التنافس الذي يجري الآن فيما بينهم، قد أدخلوا الغرب برمته، في مغامرة غير مأمونة العواقب تعيد المشهد إلى المربع الأول.
ضباب كثيف يلف المشهد الليبي، ربما أصعب من مراحل عديدة مر بها قبلا، فاليوم هناك من يظن أن القادم هو محطة الأمتار الأخيرة، التي يستلزم استثمارها لحصد المكاسب ومساحات النفوذ، دون النظر لمكامن الخطر والتهديد وللألغام الكامنة في جنبات وتفاصيل، مشهد إقليمي شديد التعقيد.
فحتى اللحظة؛ لم يختبر أحد جمع عوائد النفط وكيفية توزيعها، فيما لم تتشكل الإجابة بعد عن عشرات الآلاف من المسلحين أين سيذهبون ومن سيحملهم، كما تبقى المعادلة الرئيسية للتوازن الإقليمي التي لن يقبل أحد، بأن تكون تركيا على الجنب الآخر منها وقد ابتلعت نصف ليبيا الموعودة.