أخبار العالمأوروبابحوث ودراسات

من قازان إلى موسكو… رحلة نحو قلعة القياصرة و”الصقيع الدافئ”

الثامنة ليلا تتحرك العجلات الحديدية على إيقاع الليل البارد، والقطار رقم “001 غ بريميوم” يشق طريقه الطويل من كازان، عاصمة تتارستان، نحو موسكو قلب وعاصمة روسيا.
إحدى عشرة ساعة من السفر عبر السهول والغابات ومدن صغيرة غارقة في ظلامها وصقيعها. من نافذة القطار، تتبدّى القباب الذهبية والأنهار التي تستعد لأيام الصقيع والتجمد، وكأن موسكو تستعد لاستقبال زوارها وضيوفها بوقار إمبراطوري.

في جناح الطاقة الذرية… حيث تُصنع قوة روسيا العلمية

الوصول إلى محطة قازانسكي في موسكو صباحا (7.00) كان لحظة انتقال من عالم إلى آخر، من دفء القطار إلى صقيع العاصمة، ومن السفر إلى الغوص في عمق الدولة الروسية وعاصمتها، سياستها، علمها، وتاريخها النووي.

القمة الروسية-العربية التي جئنا من أجلها تأجّلت الى وقت لاحق، لكن المغامرة بدأت عبر برنامج مكثف ومتنوعّ. فبعد استراحة قصيرة من “تعب” القطار الليلي، انطلقت الرحلة نحو مركز المعارض الروسي VDNH، أحد أضخم الفضاءات في العاصمة.

هناك، كان جناح الطاقة الذرية يختصر حكاية أمة صنعت من الذرّة مجدها. مبنى مهيب لا يرتكز على أي أعمدة، يجمع بين الحداثة والعظمة السوفياتية القديمة، يستقبل زائريه بعروض تفاعلية نابضة بالحياة، تروي قصة الصناعة النووية الروسية منذ خمسينيات القرن الماضي إلى ابتكارات “روساتوم” الحديثة في مجال الطاقة النظيفة.

في المتحف العلمي التفاعلي، كان الضوء والصوت يخلقان إيقاعا يوحي بأن الذرّة تتنفّس. أمام شاشات وأجهزة عرض ذكية ومجسّمات لألات وطائرات وغواصات وقنابل بينها القنبلة الذرية، تتقاطع مسارات العلماء والجنرالات، من سباق التسلح النووي إلى أحلام الفضاء. في كل زاوية من زوايا المتحف، كان الإبداع يروي حكاية الإنسان الروسي مع العلم، وعلاقته المعقدة مع القوة والمعرفة وعالم القنبلة النووية والغواصات والسباق الروسي الأمريكي نحو التسلح في اطار الحرب الباردة التي انهاها آخر رئيس سوفياتي الا وهو ميخائيل غورباتشوف الذي لعب بين السنوات 1985 و1991 دورا محوريا في إنهاء تلك الحرب من خلال سياساته الإصلاحية، مثل “البيريسترويكا” (إعادة الهيكلة) و”الغلاسنوست” (الشفافية)، التي أدت إلى تطبيع العلاقات مع الغرب، وتخفيف التوترات، وانسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان، وسقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي نفسه. “انجازات”، حصل بمقتضاها غورباتشوف على جائزة نوبل للسلام عام 1990، لكنه واجه انتقادات في روسيا باعتباره مسؤولاً عن انهيار الاتحاد. .

من عالم الذرّة إلى حلبة الفروسية…

من المختبرات وعالم الذرة والنووي والحروب الحارة والباردة وسباق التسلح، كان التحول 180 درجة نحو مساحة أخرى من العالم الروسي و التراث الوطني وبالتحديد نحو ميادين الفروسية. وعروض تحاكي روح الشجاعة والانضباط التي ميّزت الفرسان الروس منذ العصور القيصرية فدولة روسيا، رغم صورتها كقوة صناعية وعسكرية، تحمل في عمقها تقاليد عميقة ومنها الفروسية التي ارتبطت قديما بالكرامة  هنا روسيا أخرى… بلد يعتز بتراثه بقدر ما يفخر بقوته.

لقاء لافروف… الدبلوماسية في زمن العواصف

بعد تأجيل القمة العربية الروسية، لم يبق للمجال السياسي سوى إمكانية لقاء والالتقاء بالرجل الثاني في الدولة الروسية الا وهو وزير الخارجية سيرغي لافروف.. وهوما تحقق في اليوم الموالي حيث كان للوفد الإعلامي موعدا مع السياسة والديبلوماسية في أعلى مستوياتها.
إجراءات أمنية صارمة سبقت الدخول، فالرجل هو الشخصية الثانية في الدولة بعد الرئيس فلاديمير بوتين. إجراءات أمنية تفسر كذلك بالحرب المفتوحة مع أوكرانيا.
داخل القاعة، جلس لافروف بهدوئه المعتاد، ينظر في وجوه الصحفيين العرب المتحمّسين في تنافس واضح وصريح على من يتمكن من فرصة طرح سؤال، وابتسم الحظ للبعض، بينما اكتفى الآخرون بالإنصات لإجابات الوزير الذي كعادته أتقن في بعض اجاباته فنّ الغموض. كيف لا وهو أقدم وزير خارجية في العالم حاليا، و”قيصر الدبلوماسية الروسية” كما يحلو للبعض وصفه.

“روسيا اليوم”… حيث تكتب الرواية الروسية

من القاعة السياسية-الديبلوماسية إلى أروقة الإعلام وحرب المعلومة والسبق الصحفي، حطّت الرحلة في مقرّ قناة روسيا اليوم (RT).

هناك، بدا كل شيء محسوبا بدقة: تخطيط، تقنيات، واستراتيجيا إعلامية واضحة تهدف إلى تقديم “الرواية الروسية” للعالم بلغات مختلفة ومنها العربية.

غرف أخبار عصرية، مذيعون من مختلف الجنسيات، وشاشات عملاقة تروي كيف أصبحت RT اليوم من أبرز القنوات الإخبارية الناطقة بالعربية التي تنافس في المشهد الدولي والذي أصبح بعضها يتحكم في العالم .

“راديسون رويال”… صورة موسكو من النهر

في المساء، وبينما كانت درجات الحرارة تقترب من الصفر، كان للوفد فرصة استكشاف معالم موسكو من على متن اليخت المطعم “راديسون رويال” في رحلة عشاء نهرية عبر نهر موسكفا  الذي اعطى اسمه للعاصمة موسكو.

أنوار المدينة تنعكس على صفحة الماء، وموسكو تظهر كلوحة زيتية حيّة.
من السفينة، مرّت أمامنا معالم العاصمة، الكرملين، القلب السياسي والتاريخي لروسيا،

كاتدرائية القديس فاسيلي بقببها الملوّنة التي تحاكي الحكايات القديمة. وحديقة زارياديه، حيث تمتزج الطبيعة بالعمارة الحديثة. وكاتدرائية المسيح المخلّص، رمز الإيمان الروسي بعد الانهيار السوفياتي. وكذلك جسر موسكفوريتسكي وجسر كريمسكي في مشهدٍ ضوئي ساحر. وفي الأفق، أبراج موسكو سيتي الزجاجية تلمع، يقابلها ملعب لوجنيكي الذي احتضن نهائي المونديال عام 2018.

الحافلة الزرقاء M53  وصورة موسكو برّاً

بعد الجولة الاستكشافية البحرية، كان لا بد من رحلة برية. وفي ظل غياب تطبيقات استقدام التاكسي لدينا، كان لا بد من اللجوء الى النقل العمومي وكان موعدنا مع الحافلة الزرقاء رقم  M53 في جولة عبر شوارع العاصمة الواسعة التي قادتنا الى جولة استكشاف وتسوق شاهدنا خلالها  مترو موسكو العريق بفخامته السوفياتية، الأسواق الشعبية، المقاهي الدافئة بما تحتويه من مشروبات، المولات وكذلك سوق إسماعيلوف الشهير الذي يغري كل زائر باحث عن هدايا وتذكارات روسية حاملة للبصمة الروسية العتيقة.

وفي المنتزهات، يختلط عبق الزهور والأشجار الكثيفة بتحركات أهالي موسكو المصحوبين في الغالب بكلابهم من مختلف الاشكال والانواع  في نزهات يومية تشبه طقوسا من الطمأنينة وسط صخب المدينة العملاقة.

الختام… وداع موسكو نحو إسطنبول ثم إلى العالم

وكان لا بد للرحلة التي انطلقت من قازان ثم موسكو ان تنتهي في مطار شيريميتيفو الدولي بالعاصمة الروسية.غادر الوفد في رحلات مختلفة اغلبها باتجاه إسطنبول، ومنها إلى العواصم العربية التي ينتمي اليها افراد الوفد.

غادرت الطائرة أرض موسكو ثم سماءها، لكن بقيت في الذاكرة صور مدينة تجمع بين قوة الحاضر العلمية والبحثية، وعظمة الماضي القيصري الذي ما زال يفرض هيبته على تفاصيل الحياة الروسية.

مدينة تتحرك بين الحرب والسلام، بين التقاليد والحداثة، بين الانضباط العسكري والدفئ الإنساني.
وفي عمق كل ذلك، تظل موسكو وروسيا كلها  واقفة بين الشرق والغرب: بوجهٍ ينظر إلى أوروبا، وروحٍ تنبض بالشرق؛ بعقل علمي حديث، وقلبٍ مفعم بالإيمان وعبق التاريخ.
هناك، في تلك المسافة الرمزية بين القارتين، تولد هوية روسيا الفريدة، هوية تجمع بين الصرامة والدفء، بين الحرب والسلام بين صورة ورمزية القيصر المتشدد وصورة الديمقراطية وبناء وتطوير الدولة، بين الماضي بتاريخه العريق والمستقبل المشرق..

انتهت الرحلة، وربما لنا عودة ان كتب للقمة الروسية-العربية أن تعقد في بداية السنة القادمة…

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق