ما هي دلالات تطوير القدرات الصاروخية الإيرانية وتغيير العقيدة النووية؟
قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 05-11-2024
برز الدكتور كمال خرازي، رئيس المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية في إيران، بتصريحات لافتة تضمنت إشارات صريحة حول إمكانية إعادة النظر في العقيدة النووية الإيرانية، طارحاً احتمالية تعديل المدى الإستراتيجي للمنظومة الصاروخية الإيرانية.
کما أكد خرازي في تصريح دبلوماسي محسوب: حينما يتجاهل الغرب الخطوط الحمراء الإيرانية، فلا مبرر لمراعاة الحساسيات الأوروبية.
وكشف مستشار قائد الثورة في إيران، في حوار خاص مع قناة الميادين، عن ثلاثة محددات رئيسية هي جاهزية إيران لتعديل عقيدتها النووية في حال مواجهة تهديدات وجودية، وأن الفتوى الشرعية لقائد الثورة هي العامل الوحيد المانع حالياً، وامتلاك إيران للقدرات التقنية والتكنولوجية المتقدمة في المجال التسليحي.
من الجدير بالملاحظة في هذا الحوار الدبلوماسي، أن السيد خرازي لم يستبعد احتمالية توسيع نطاق القدرات الصاروخية الإيرانية، حيث صرّح قائلاً: “لقد أقرَّ العالم أجمع بالقوة الصاروخية الإيرانية الفائقة.
إن القضية الوحيدة المطروحة على بساط البحث، هي مدى هذه الصواريخ، حيث كنا نُولي اعتباراً لحساسية القوى الغربية والأوروبية حتى هذه اللحظة، بيد أنه حينما يتجاهلون هم مخاوفنا المشروعة، فلا يبقى ثمة ما يُلزمنا بمراعاة حساسياتهم، وعليه، فإن احتمال تمديد المدى الصاروخي الإيراني، بات وارداً بقوة”.
إن هذا التصريح الخطير، يُعدّ المرة الثانية في غضون الأشهر القليلة الماضية التي يُطلق فيها كمال خرازي، المستشار المقرب للقائد الأعلى للثورة في إيران، تحذيراً جاداً بشأن إمكانية إعادة النظر في العقيدة النووية الإيرانية، وقد أضفى في لقائه الأخير مع قناة الميادين بُعداً إضافياً لتحذيره، متمثلاً في إمكانية زيادة المدى الإستراتيجي للترسانة الصاروخية الإيرانية.
وتجدر الإشارة إلى أن خرازي كان قد أطلق تحذيراً مماثلاً في أبريل 2024، إبان فترة التوتر غير المسبوقة التي استمرت 18 يوماً مع الكيان الصهيوني، حيث صرّح لقناة الجزيرة بأن إيران قد تضطر إلى تعديل “عقيدتها النووية” إذا ما أُرغمت على ذلك.
وفي ذلك الحين، نشرت صحيفة “أكسيوس”، المعروفة بتسريباتها حول الملف النووي الإيراني، تحليلاً عميقاً أشارت فيه إلى أن هذه الرسائل الصادرة عن كبار الدبلوماسيين في طهران، تنذر باحتمال تحول جذري في الاستراتيجية النووية الإيرانية، وذلك في ضوء تطورين بارزين: أولهما يتجلى في التهديدات المتبادلة بين إيران و”إسرائيل” بشأن استهداف المنشآت النووية الإيرانية، وثانيهما، على المدى البعيد، يرتبط بإمكانية فوز مرشح أكثر انسجاماً مع المصالح الإيرانية في انتخابات الرئاسة الأمريكية المرتقبة عام 2024.
كشف التقييم الاستخباراتي الوطني الأمريكي الأخير، المُقدَّم للكونغرس في يوليو 2024، عن تحوّل جذري في المشهد النووي الإيراني، هذا التقرير، الذي يأتي في أعقاب التحذيرات الصادرة عن خرازي بشأن إعادة صياغة العقيدة النووية الإيرانية، يُشير إلى تصدّع المحرَّمات النووية في الجمهورية الإسلامية.
ويُحذِّر التقرير، بلهجة حازمة، من أن طهران قد تتجه نحو تخصيب اليورانيوم بنسبة 90% – وهو المستوى اللازم للأسلحة النووية – إذا ما وجدت نفسها في مواجهة “عقوبات مشدَّدة”، أو “هجوم” محتمل، أو تعرضت “لإدانة دولية” بسبب طموحاتها النووية.
ويكشف هذا التحليل الاستخباراتي عن رصد الولايات المتحدة لـ”تصاعد ملحوظ في الخطاب الرسمي الإيراني حول الأسلحة النووية خلال عام 2024″، ما يُشير إلى انحسار القيود المعنوية والسياسية التي كانت تحيط بهذا الموضوع الحساس.
وقد خَلُص تقدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية، بعد تحليل معمَّق، إلى أن إيران، منذ عام 2020، قد اتخذت سلسلةً من الخطوات الاستراتيجية:
- أولاً، الإعلان المتكرر عن تحررها من قيود خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي)،
- ثانياً، توسيع نطاق برنامجها النووي بشكل ملحوظ،
- ثالثاً، تقليص صلاحيات الرقابة الممنوحة للوكالة الدولية للطاقة الذرية،
- وأخيراً، تنفيذ أنشطة نووية متقدمة تضعها في موقع متميز لإنتاج جهاز نووي (Nuclear Device)، إذا ما اتُخِذ قرار استراتيجي بهذا الشأن.
وفي سياق متصل، يأتي استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة “Iran Pol” في يونيو 2024 ليضيف بُعداً جديداً للمشهد، فقد كشف الاستطلاع أن 69% من الشعب الإيراني يؤيدون بقوة امتلاك بلادهم للقدرات النووية العسكرية، وهو ما يمثّل تحولاً جوهرياً في الرأي العام الإيراني مقارنةً بالاستطلاعات السابقة.
ما هي الاستراتيجية الجديدة للوكالة الدولية للطاقة الذرية لاحتواء طهران؟
في ظل التصعيد الإسرائيلي المتنامي إقليمياً، المدعوم بموافقة أمريكية ضمنية خلال الفترة الأخيرة، اتخذت طهران سلسلة قرارات استراتيجية تهدف إلى إحداث تحول جذري في معادلات الخصم، هذا التحول الاستراتيجي استقطب اهتمام المحور الغربي، ما أفضى إلى تكثيف المساعي لإعادة إحياء الملف النووي المجمّد.
وفي هذا السياق، أفصح المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، عبر منصة “إكس”، عن لقائه مع السيد “كاظم غريب آبادي”، نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون القانونية والدولية، في إطار التحضيرات لزيارته المرتقبة إلى طهران.
وقد أورد رافائيل غروسي في تغريدته، مرفقةً بصورة توثيقية للقاء: “عقدت مباحثات محورية مع نائب وزير الخارجية الإيراني، كاظم غريب آبادي، تمهيداً لزيارتي المقبلة إلى طهران”.
وكان غروسي قد أبدى في وقت سابق استعداده للانخراط في حوار بنّاء مع الحكومة الإيرانية الرابعة عشرة، لتسوية القضايا الضمانية العالقة، وخلال الاجتماع الأخير لمجلس محافظي الوكالة المنعقد أواخر سبتمبر، صرّح قائلاً: “في أعقاب الانتخابات الإيرانية، بادرت بمراسلة الرئيس بزشكيان، معرباً عن رغبتي في عقد لقاء في طهران لإعادة إحياء قنوات الحوار والتعاون بين الوكالة والجمهورية الإسلامية الإيرانية“.
يبدو جلياً أن التحول في المنهجية الإيرانية نحو تبني “استراتيجية الردع متعدد الأبعاد” قد دفع الوكالة، بوصفها ذراعاً للسياسة الأمريكية، إلى تكثيف مساعيها للحيلولة دون تغيير قواعد الاشتباك الراهنة، ومن المنظور الأمريكي، فإن المزج بين استراتيجيات الردع النووي والتطوير الصاروخي، قد أوصد تماماً أبواب المفاوضات التقليدية، ووضع المعسكر الغربي أمام تحدٍ جديد ومكلف في مواجهة إيران، وعليه، يسعى الغرب، متخذاً من الوكالة الدولية منصةً دبلوماسيةً، إلى استحداث مسار تفاوضي جديد مع طهران، في محاولة لاحتواء المشهد المتصاعد.
يكتنف انخراط الوكالة الدولية في المشهد الإقليمي المستجد، ثلاثة محددات استراتيجية تستدعي التحليل:
المحدد الأول: يستوقفنا إعلان غروسي عن إحياء المسار التفاوضي، في حين أن سجله الدبلوماسي يشهد على نقضه الصريح للتفاهمات مرتين (خلال عامي 2022 و2023)، حيث أجهض مساعي التنفيذ بإصراره على إجراءات تفتيشية تتجاوز الأطر المتعارف عليها في البروتوكولات الضمانية.
المحدد الثاني: من اللافت أن غروسي لم يبدِ أدنى اهتمام بإحياء المسار التفاوضي قبل اندلاع الأحداث في غزة والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وتحديداً قبل تنفيذ عملية “الوعد الصادق 2” النوعية، بل إن مداولاته غير الرسمية والمغلقة في أروقة مجلس محافظي الوكالة، كانت تؤكد على استحالة تطبيق هذه التفاهمات.
المحدد الثالث: شهدت لقاءاته السابقة مع القيادات النووية الإيرانية تركيزاً واضحاً على “استراتيجية احتواء البرنامج النووي الإيراني”، متجاوزاً مفهوم “التفاهم مع طهران”، معتمداً على آليات تصعيدية (كتفعيل الترويكا الأوروبية لآلية الزناد وتحويل الملف الإيراني إلى مجلس الأمن)، غير أن ظهور مؤشرات التحول في منظومة الردع المتعددة الأبعاد، دفعه نحو تبني خطاب التفاهم مع طهران.
وما لا ريب فيه أن المرحلة المقبلة ستشهد مساعٍ أمريكية محمومة لاحتواء النهج الإيراني، والحدّ من استراتيجيته الردعية المركبة (التطوير المتناغم للقدرات الصاروخية والنووية)، عبر طرح مبادرات تتمحور حول نموذج تعاوني مشترك (سواء عبر إعادة إحياء الاتفاق النووي، أو صياغة اتفاق تكميلي، أو بلورة تفاهمات غير معلنة)، بيد أن الخبرة المتراكمة تؤكد أن هذه الحزمة الجديدة، لن تخرج عن كونها امتداداً للوعود الجوفاء السابقة.
وبناءً على ذلك، ستتجاوز طهران مرحلة الانتظار والتأمل في المقترحات والشروط المسبقة الأمريكية والأوروبية الثلاثية، لتنتهج مساراً استراتيجياً يكفل لها احتفاظها بزمام المبادرة وحرية الحركة، وتجدر الإشارة إلى أن الرسائل النوعية الصادرة عن رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية في إيران، تحمل دلالات استراتيجية موجّهة لمن يهمّهم الأمر بشکل دقيق.