أخبار العالمأوروبابحوث ودراسات

مآزق وآفاق الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية في ظل الأزمات المتعددة

تحت تأثير الأزمة المالية الدولية وأزمة اللاجئين وأزمة الجائحة والأزمة الأوكرانية، تعرض الاقتصاد والمجتمع في أوروبا لأضرار جسيمة، وأدت تلك العوامل العديدة في وقت واحد إلى هزيمة معظم أحزاب يسار الوسط للدول الأوروبية في الانتخابات وتراجع التأييد الشعبي وتسرب الناخبين، ومن ثم شهدت الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا تراجعا ملحوظا ودخلت مرحلة التراجع الحاد والطويل الأمد. وكيفية التخلص من هذه الورطة هي قضية عاجلة في أمس الحاجة لحلها.

تراجع أحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا

يعتمد جوهر أيديولوجيا الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا على “الرأسمالية المروضة” و”التضامن والمساواة في المجتمع”، اللذين يدعوان إلى تحقيق إعادة توزيع الدخل عن طريق تدخل الحوكمة، وجعل التنمية الاقتصادية متفقة مع مصالح الجماهير العامة بالاستفادة من السيطرة الكلية، وجعل الرأسمالية أكثر ديمقراطية وعدالة وتضامنا وتحمل شعار “الناطق بلسان الجماعات المحرومة”.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى أوائل سبعينيات القرن العشرين، شهد الاقتصاد والمجتمع في أوروبا تطورا سريعا، وحققت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية تنمية مزدهرة.

 ووضعت أحزاب يسار الوسط بمبادرة ذاتية القيم الفكرية للديمقراطية الاجتماعية ودفعت الإصلاحات الاجتماعية وصححت عيوب الرأسمالية، ومع ذلك حددت أيضا موقعها السياسي كحزب إصلاحي تحت النظام الرأسمالي. وحتى منتصف سبعينيات القرن العشرين، تورطت الدول الأوروبية بشكل عام في أزمة الركود التضخمي، كما وقع نظام دولة الرفاهية التقليدي في المآزق خلفها.

ومع صعود النيوليبرالية، بدأ المناخ السياسي في دول أوروبا “يميل إلى اليمين”، حيث ركزت السياسات الاقتصادية على الكفاءة بدرجة أكبر، وبدأت أحزاب يسار الوسط التي واجهت ضغوط الانتخابات والتحديات من المنافسين تلتزم بالبراغماتية والاضطرار إلى قبول بعض المفاهيم والدعوات السياسية من جناح اليمين، مما انحرف تدريجيا عن التقاليد التاريخية والأهداف المنهجية للديمقراطية الاجتماعية.

وأظهرت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية التي تم إصلاحها اتجاها نهوضيا في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، ما أحدث “الموجة الوردية” لبعض الوقت. وفي الدول الأعضاء الخمسة عشر في الاتحاد الأوروبي، باستثناء إسبانيا وأيرلندا، كانت البقية في سلطة أحزاب يسار الوسط أو في سلطة الائتلاف.

رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين تعلن خلال مؤتمر صحفي في 5 أبريل 2023 عن قرارها بالتخلي عن رئاسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وفي الانتخابات البرلمانية المنعقد في 2 أبريل، خسر الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامتها أمام حزب الائتلاف الوطني الفنلندي وحزب الفنلنديين، فلم تتمكن من إعادة انتخابها رئيسة للوزراء

وأدت الأزمة المالية التي اجتاحت العالم في عام 2008 وعملية العولمة إلى انحطاط الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية بشكل مباشر. وفضلا عن ذلك، عكست جائحة كوفيدـ19 المتفشية في عام 2020 حدة ظاهرة عدم المساواة والتفاوت في الثروة داخل المجتمع الأوروبي، ما زاد استياء الفئات المهمشة من أحزاب يسار الوسط. ورغم أن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية في بعض الدول الأوروبية حققت “العودة” في عام 2021، إلا أن اتجاه نهوضها تلاشى مرة أخرى مع صعود الأزمة الأوكرانية وأزمة اللاجئين من خلفها.

وشهدت أحزاب يسار الوسط في ألمانيا وفرنسا الدولتين الرئيسيتين في الاتحاد الأوروبي، تراجعا ملحوظا. وبعد 16 عاما من سلطة أحزاب يمين الوسط، فاز الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في انتخابات مجلس النواب الألماني الاتحادي في عام 2021.

ولكن نظرا لنسبة التأييد المنخفضة، لم يمتلك خيارا سوى تشكيل حكومة ائتلاف مع “تحالف 90 / الخضر” و”الحزب الديمقراطي الحر”. ومنذ ذلك الحين، بدأ معدل تأييد الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني ينخفض بشكل مستمر، ووصل معدل التأييد في استطلاع الرأي في يناير 2024 إلى 15% فقط، ليحتل المرتبة خلف حزب يمين الوسط- حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني”، والحزب اليميني الشعبوي- حزب “البديل من أجل ألمانيا”.

وفي عام 2012، فاز فرانسوا أولاند، مرشح الحزب الاشتراكي الفرنسي، في الجولة الثانية من التصويت للانتخابات الرئاسية بمعدل تأييد بلغ 52%، ليصبح رئيسا لفرنسا، ولكن الحزب الاشتراكي الفرنسي لم يستطع كسب الانتخابات الرئاسية اللاحقة.

وفي الانتخابات التشريعية الفرنسية 2022، حظي الحزب الاشتراكي الفرنسي بمعدل التأييد الأقل من 10%، وبالتالي فلا مفر له من تشكيل تحالف مع الأحزاب اليسارية الأخرى لخوض الانتخابات. ويفتقر الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى التفكير الإبداعي في دعواته السياسية، ويرمز تراجعه في مختلف الجوانب إلى الافتقار إلى الأفكار اليسارية في عموم أوروبا.

وابتداءً من عام 2010، سقط حزب العمال البريطاني في الدورات الأربع من الانتخابات العامة على التوالي. ولكن في السنوات الثلاث الماضية، استمر معدل التأييد الشعبي لحزب العمال في الارتفاع وتجاوز حزب المحافظين ليصبح الحزب الذي حظي بأعلى معدل تأييد.

ويتخذ كير ستارمر، الزعيم الحالي لحزب العمال البريطاني، نهج الوسط نسبيا الذي يركز على سياسات الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة ليرسم جاهدا صورة الحزب السياسي المقنعة والمثيرة للصدى العاطفي، سعيا لتحقيق عودته للسلطة في الانتخابات العامة الجديدة.

وإن الهيمنة الطويلة الأمد لأحزاب يسار الوسط على الساحة السياسية في الدول الأربع شمالي أوروبا تتعرض للاهتزاز. ويعتبر حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي السويدي أكبر الأحزاب في السويد الذي تولى السلطة لـ72 عاما إجمالا. وبعد اندلاع أزمة الديون الأوروبية، تخلف هذا الحزب لأول مرة عن حزب التجمع المعتدل السويدي في الانتخابات العامة 2010، وانخفض معدل التأييد الشعبي من نحو 50% سابقا إلى أقل من 30%.

وفي الانتخابات البرلمانية السبعة من عام 1999 إلى عام 2023، فاز الحزب الاشتراكي الديمقراطي الفنلندي بالمركز الأول في التصويت لمرتين، وجاءت في المراكز الأربعة الأولى في البقية، ولكن تراجع نفوذ الحزب في القضايا الملحة. وفي عام 2006، فاز مرشح الحزب الاشتراكي الديمقراطي الفنلندي بالانتخابات، ولكن شهد الحزب انخفاضا مستمرا في نسبة التأييد في الانتخابات الرئاسية اللاحقة وفقد تفوقه.

ومنذ القرن الحادي والعشرين، حافظ حزب العمال النرويجي دائما على مكانته كأكبر حزب في الانتخابات البرلمانية الستة واستمر في السلطة. ومع ذلك، منذ عام 2021، ارتفع معدل التأييد لحزب المحافظين النرويجي إلى أكثر من 30%، بينما انخفض معدل التأييد لحزب العمال إلى أقل من 20%. أما الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الدنمارك فيختلف عن الأحزاب الأخرى.

 فقد كان هذا الحزب في السلطة في أعوام 2011 و2019 و2022 منفردا أو في سلطة ائتلاف. واتخذ الحزب الاشتراكي الديمقراطي الدنماركي الموقف الأكثر وسطية بشأن سياساته الاقتصادية والاجتماعية، والتزم بالموقف الأكثر تحفظا فيما يتعلق بقضايا الهجرة والاندماج، لتخفيف مخاوف جماهير الشعب بشأن التمتع المفرط للمهاجرين بالرفاهية وظهور “المجتمع الموازي”.

ومن بين دول جنوب أوروبا، يعد تراجع أحزاب يسار الوسط في اليونان مثالا متطرفا نسبيا. فقد فازت الحركة الاشتراكية اليونانية في الانتخابات العامة عام 2009 بنسبة 43.92% من الأصوات، ثم أصبحت الحزب الحاكم.

وبعد اندلاع أزمة الديون الأوروبية، طبقت “الترويكا”، الدائن لليونان المكون من المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، إجراءات تقشفية قسرية على اليونان، ما أدى إلى تراجع سريع لهذا الحزب وفقدان سلطته الحاكمة. وفي إيطاليا، أظهر الحزب الديمقراطي الإيطالي تراجعا مطردا، الذي كان في السلطة خلال الفترة بين عامي 2006 و2008 وعامي 2013 و2018، ولكنه واجه تحديات من “حركة النجوم الخمسة”، المناهضة للمؤسسة في إيطاليا، في الانتخابات العامة في عام 2018، حيث استولت على أصوات الناخبين بجنوبي إيطاليا وجزيرة سردينيا وجزيرة صقلية بالكامل تقريبا.

ومنذ عام 2008، شهد الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني تراجعا ملحوظا، والذي كان يحتل المركز الأول في الانتخابات البرلمانية الإسبانية عام 2008 بمعدل تأييد 43.9%، ولكن هذا الرقم انخفض إلى 28.8% في انتخابات 2011. ورغم أنه عاد إلى مكانة أكبر حزب في البرلمان عام 2019، لكنه حصل على نسبة تأييد 28.7% فقط. ومن أجل الحفاظ على مكانته المتفوقة في البرلمان، تحالف الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني مع أحزاب أقصى اليسار لتشكيل سلطة ائتلاف.

وتعد البرتغال استثناء، حيث حافظ الحزب الاشتراكي البرتغالي على مكانته الرائدة في معدلات التأييد بشكل أساسي بعد عام 2012، وتولى زعيمه أنطونيو كوستا السلطة منذ عام 2015، وحقق إعادة انتخابه في عام 2019 وعام 2022. ويعد النمو الاقتصادي المطرد في مدة سلطة كوستا سببا رئيسيا لنجاحه في إعادة الانتخاب.

أسباب وقوع الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية في المآزق

أدت عوامل معقدة مثل التغيرات في البنية الاجتماعية وتفاقم التفاوت الاجتماعي والانحرافات في أيديولوجيا أحزاب يسار الوسط والعيوب في الهيكل التنظيمي داخل الأحزاب وغيرها إلى وقوع الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية في المآزق وجعلت من الصعب إحيائها.

1ـ التغيرات في البنية الاجتماعية تؤدي إلى تسرب الناخبين الأساسيين لأحزاب يسار الوسط

أولا، انخفض عدد أفراد الطبقة العاملة وتراجعت النقابات العمالية. منذ أواخر ستينيات القرن العشرين، انخفض عدد وظائف التصنيع ذات الياقات الزرقاء النموذجية في أوروبا تدريجيا. ومنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، شهد عدد أعضاء النقابات العمالية في أوروبا هبوطا حادا. وبعد انكماش الطبقة العاملة، تطلعت أحزاب يسار الوسط الأوروبية إلى اجتذاب ناخبي الطبقة المتوسطة، التي تتمتع بالصفات الأكثر تغايرا وتحركا طبقيا مقارنة بالطبقة العاملة، كما أن قيمها ومطالبها وأنواع عملها وأساليب حياتها أكثر تنوعا، ما جلب صعوبات لأحزاب يسار الوسط في تكامل المصالح والشواغل. وكان التنافس مع أحزاب اليمين على أصوات ناخبي الطبقة المتوسطة يضر بالأيديولوجيا التقليدية للديمقراطية الاجتماعية.

ثانيا، تعارض المصالح بين الفئات المختلفة يجعل من الصعب على أحزاب يسار الوسط توسيع قاعدة الناخبين. طبقت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية التي جذبت أفكار النيوليبرالية سياسات سوق العمل النشطة ورفع سن التقاعد وتعزيز توظيف النساء وخلق أشكال مختلفة من العمل المرن، وسببت هذه الموجة من الإصلاحات زيادة كبيرة في عدد العمال في القطاع غير الرسمي فيما جعلت داخل سوق العمل أكثر تذبذبا. وفي نفس الوقت، فإن التدفق الحر لرؤوس الأموال الناجم عن العولمة والتغيرات السريعة في أساليب الإنتاج للصناعات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والأتمتة جلبت تأثيرات مستمرة على “العاملين” في سوق العمل. إن تعارض مصالح “العاملين” وبين “العاملين” و”العاطلين” يجعل دائما أحزاب يسار الوسط عرضة للوقوع في ورطة اختيار السياسات.

2ـ تفاقم عدم المساواة والفقر يخفض جاذبية أحزاب يسار الوسط

إن دعوات الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية المتمثلة في العدالة والمساواة لم تتحقق بشكل حقيقي، كما لم تختف التفاوت في الثروة بين دول أوروبا. وجلبت الأزمات المتتالية تجلب تأثيرات كبيرة على الاقتصاد والمجتمع في أوروبا، كما تأثر دخل العمال في الدول الأوروبية.

 وأظهرت بيانات صادرة عن مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني أن مؤشر الدخل الحقيقي في ألمانيا بين عامي 2008 و2022 ارتفع بنسبة 6.9%، ولكن مؤشر أسعار المستهلك ارتفع بنسبة 26.8%، ما يعكس بشكل مباشر ارتفاع تكاليف معيشة الشعب وانخفاض جودة الحياة.

إضافة إلى ذلك، أدت الأزمة الأوكرانية إلى ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا، وسببت أسعار الطاقة المرتفعة ارتفاع التضخم الاقتصادي وتكاليف المعيشة، حيث بلغت معدلات التضخم للدول الـ27 التابعة للاتحاد الأوروبي 9.2% لعام 2022. وفضلا عن ذلك، تسببت جائحة كوفيد-19 في تفاقم حالات عدم المساواة في الدخل والرعاية الصحية والفرص التعليمية، ما جعل تصاعد التناقضات الاجتماعية والتحديات التي تواجه الأمن الاجتماعي ونظام توزيع الثروة موضوعات ساخنة للنقاش، واهتز أساس دول الرفاهية الأوروبية.

وطبقت أحزاب يسار الوسط سياسات الهجرة الأكثر تسامحا وسياسات الاندماج الأقل تدخلا، ولكن التدفقات المستمرة للمهاجرين واللاجئين إلى أوروبا منذ عام 2015 جعلت الفئات المهمشة تشعر بانتهاك مصالحهم والاستيلاء على الموارد العامة. أولا، تواجه الفئات المحرومة التي تكافح على حافة سوق العمل المزيد من الضغوط في الدخل والتوظيف. ثانيا، أصبحت الموارد العامة ضمن سوق الإسكان والتعليم المدرسي والإسكان العام والضمان الطبي أكثر ندرة. ثالثا، أصبحت المدفوعات التحويلية لدول الرفاهية تواجه ضغوطا كامنة. وباختصار فإن الفئات المهمشة تتعرض للإضرار بمصالحها، الأمر الذي يجعلهم يعتقدون أن أحزاب يسار الوسط لا يمكنها ضمان حقوقهم الاجتماعية وإزالة ظاهرات عدم المساواة، لذلك غيّر بعض الناخبين مواقفهم إلى دعم أحزاب الشعبوية اليسارية أو اليمينية.

3ـ الانحراف الأيديولوجي

انحرفت الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية عن أيديولوجيتها التقليدية بعد جذب الأفكار النيوليبرالية. ففي الفترة الذهبية لتنمية الديمقراطية الاجتماعية، نجحت معتمدة على تطبيق نظام الضريبة التصاعدية والسياسة المالية التوسعية.

وفي سبعينيات القرن العشرين، مرت دول غرب أوروبا بأزمة الركود التضخمي، حيث دُمر الأساس الاقتصادي للديمقراطية الاجتماعية بتراكم رأس المال المنخفض والأرباح المنخفضة.

ومن أجل الفوز في التنافس بين الأحزاب السياسية، اتخذ جناح يسار الوسط الأوروبي في أواخر القرن العشرين التكامل مع الأفكار النيوليبرالية لفتح ما يسمى بـ”الطرف الثالث”. ومع ذلك، فإن جوهر مفهوم النيوليبرالية يتمثل في أن المنافسة الفردية على أساس السوق تتفوق على المنافسات من الأشكال التنظيمية الأخرى، ما يختلف تماما عن مواقف معظم أفراد الطبقة العاملة الذين يميلون إلى تأييد الفكر الجماعي ونظام دولة الرفاهية.

وهذه السياسة المختارة جعلت أحزاب يسار الوسط تفقد بعض المؤيدين التقليديين والناخبين المحتملين. وإلى حد ما يمكن القول إن اتجاه النيوليبرالية الذي سببت انحطاط الديمقراطية الاجتماعية الحالي هو في حد ذاته انعكاس لأزمة أعمق تواجهها الرأسمالية، والديمقراطية الاجتماعية الأوروبية لم تحقق “تروض الرأسمالية” أو “إصلاحها وتحسينها”، بل اختارت الاندماج مع الرأسمالية. 

إن الأزمة المالية الدولية هي في الواقع أزمة نموذج النمو النيوليبرالي. وبالنسبة لأحزاب يسار الوسط، لن تحقق النمو وتجعل الناخبين يستفيدون منه من خلال تخفيف مراقبة السوق. وتشير هزيمة “الطرف الثالث” إلى أنه بعد اندلاع أزمة نموذج النمو النيوليبرالي أي الأزمة المالية الدولية، اتخذ اتجاه أحزاب يسار الوسط الأوروبية الميل إلى الأحزاب اليمنية التقليدية، حيث نفذت السياسات التقشفية المتمثلة في تخفيض الرعاية الاجتماعية وزيادة الضرائب، لترحيل الأزمة إلى الفئات المهمشة الأكثر ضعفا. وفي ظل هذه السياسات التقشفية، من المستحيل إجراء الاستثمارات الاجتماعية اللازمة والحفاظ على الضمان الاجتماعي الجيد، ما أدى إلى استياء شديد بين الفئات المهمشة وصعود الأحزاب الشعبوية في أوروبا. ومن نظرة موضوعية، رغم أن الأزمة الرأسمالية وفرت للأحزاب اليسارية فرصا ممتازة لـ”ترويض الرأسمالية”، فإنه من الصعب على الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية أن تقدم حلولا فعالة بديلا من النيوليبرالية.

4ـ العيوب على المستوى التنظيمي داخل الأحزاب السياسية

يتعلق انحطاط أحزاب يسار الوسط الأوروبية أيضا بالعيوب في المستوى التنظيمي داخل الأحزاب. أولا، لم تعد أحزاب يسار الوسط الحالية مرتبطة بالطبقة العاملة عضويا. ونشأ العديد من زعماء أحزاب يسار الوسط من بين القواعد الشعبية والنقابات العمالية  في التاريخ. أما اليوم، فإن كبار الأعضاء في الأحزاب من خريجي الجامعات أو من خلفية الطبقة المتوسطة في أغلب الأحيان، والذين لا يفهمون شواغل الناخبين واحتياجاتهم، كما أن سياساتهم لا تتفق مع ميول الناخبين.

وأدت “الخلفية المهنية” لأحزاب يسار الوسط إلى ظهور جفاء بين القيادة العليا للأحزاب والقواعد الشعبية الاجتماعية. ثانيا، تحولت أحزاب يسار الوسط من أحزاب جماهيرية إلى أحزاب الكارتل، التي تركز على التعاون مع أحزاب المؤسسات الأخرى.

إن صفة التكنوقراط في أحزاب الكارتل جعلت أحزاب يسار الوسط تتجاهل مزاياها التقليدية مع التركيز على فعالية إدارة السلطة السياسية بل إيلاء اهتمام أقل باختلافات السياسات مع الأحزاب الأخرى، وتتقارب سياساتها تدريجيا مع سياسات أحزاب يمين الوسط.

آفاق الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية

إن أحزاب يسار الوسط تظهر مكتوفة الأيدي في مواجهة المآزق الطويلة الأمد، حيث لم تتعرض لتسرب الناخبين التقليديين فحسب، بل فشلت أيضا في جذب دعم مجموعات الناخبين الجديدة. كما أن أحزاب يسار الوسط في أوروبا غير مستعدة على مستوى الأفكار، ولا تستطيع تقديم بدائل مقنعة في مواجهة هزيمة النيوليبرالية. ومن وجهة النظر الحالية، فإن أحزاب يسار الوسط الأوروبية أقل احتمالا لتحقيق النتائج مثلما في الانتخابية السابقة، والأسباب الرئيسية تشمل الجوانب التالية.

أولا، يحد الوضع الاقتصادي عن اختيار السياسات لأحزاب يسار الوسط. في ظل الأزمات المتعددة، من الصعب على الوضع الاقتصادي للدول الأوروبية أن يتعافى على المدى القصير، ومع صعود الحمائية التجارية العالمية وتفاقم المخاطر الجيوسياسية، نفذت دول الاتحاد الأوروبي التي تمثلها ألمانيا ما يسمى بإستراتيجية “إزالة المخاطر”، مما أدى إلى إضعاف تأثير التجارة الخارجية والاستثمار على النمو الاقتصادي. وجعل تباطؤ النمو الاقتصادي سياسات الرفاهية التي تدعو إليها أحزاب يسار الوسط في دول أوروبا غير قابلة للاستدامة. وسواء كانت أحزاب يسار الوسط في السلطة أم لا، فإن استياء الجماهير العامة من عدم المساواة وتفاقم الفقر سوف ينعكس في اختياراتهم في التصويت.

ثانيا، تمنع تجزئة هيكل الأحزاب السياسية نهوض أحزاب يسار الوسط. في الوقت الحالي، أصبحت متطلبات المصالح الاجتماعية في أوروبا معقدة، وفي المقابل، ظهور وتنمية بعض الأحزاب الناشئة التي تركز على القضايا الجديدة والملامح الجديدة والأشكال التنظيمية الجديدة تؤدي إلى تجزئة هيكل الأحزاب السياسية الأوروبية وتعدد أنساب الأحزاب السياسية.

 وفي ظل هذا الوضع، لا مفر لأحزاب يسار الوسط المتورطة في التراجع من مواجهة مخاطر تفرع الأصوات من قبل المنافسات التقليدية والأحزاب الناشئة، وبعض الأحزاب تتراجع حتى اضطرارها إلى تشكيل تحالفات مع أحزاب أخرى لخوض الانتخابات. وحتى لو فازت بالانتخابات، فسوف يضطر العديد من أحزاب يسار الوسط أن يتآلف مع أحزاب أخرى لتشكيل أغلبية برلمانية ثم تشكيل حكومة ائتلافية متعددة الأحزاب.

ثالثا، تفتقر أحزاب يسار الوسط إلى إجابات مقنعة لمواجهة تحديات السياسات الملحة الحالية. تأسست دولة الرفاهية منذ فترة طويلة، فما هو المشروع التالي للديمقراطية الاجتماعية؟ وفي مواجهة تراجع الديمقراطية الاجتماعية، اتخذت أحزاب يسار الوسط في مختلف البلدان إستراتيجيات مختلفة لتعديل برامجها السياسية، بما في ذلك عودة اليسار إلى خصائصه التقليدية، وتوصل اليمين إلى النيولبيرالية واتخاذ الإستراتيجية المختلطة بين اليسار واليمين، ولكن فعاليتها غير جيدة. وبصورة عامة، إذا لم تتمكن أحزاب يسار الوسط في أوروبا من إيجاد المزيد من مواطئ القدم في مجالي الاقتصاد والمجتمع خاصة في ناحية السياسات العامة، فسوف يكون من الصعب عليها جذب عامة الناس بشكل مستدام. وفي نفس الوقت، تفتقر أحزاب يسار الوسط أيضا إلى مقترحات سياسية فعالة في التعامل مع القضايا الجديدة مثل مناهضة العولمة وتغير المناخ والتنمية الخضراء والهجرة واللاجئين والجنس وغيرها.

الخاتمة

في الوقت الحاضر، يستمر اتجاه تجزئة سياسية الأحزاب في الدول الأوروبية، وتتعرض المساحة الأيديولوجية وحصة الأصوات لأحزاب يسار الوسط للمزيد من الضغوط. وفي بعض الدول تظهر الأحزاب الجديدة باستمرار، ما يعكس أنه من الصعب على الأحزاب التقليدية خاصة أحزاب الديمقراطية الاجتماعية مواجهة الوضع الجيوسياسي المضطرب ومن خلفها القضايا الاجتماعية والاحتياجات المتعددة للمصالح بشكل فعال، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم استياء جماهير الشعب ودفعهم إلى البحث عن ناطق بلسان جديد.

وفي نفس الوقت، فإن اتجاه “الانحراف إلى اليمين” في السياسة الأوروبية يجلب تهديدا مباشرا لأحزاب يسار الوسط. وفي مواجهة صعود أحزاب اليمين المتطرف، اختارت الأحزاب الرئيسية في أوروبا لبعض الوقت  مقاطعتها المشتركة في السياسة الانتخابية ورفض السلطة الائتلافية معها في جميع مستويات الحكومة.

 ولكن مع صعود الأحزاب اليمينية الشعبوية بشكل متتالٍ ومواصلة تجزئة الأحزاب السياسية واتجاه إزالة الاستقطاب السياسي للأحزاب الشعبوية، تم الاختراق لـ”الطوق الصحي” ضد اليمين المتطرف في بعض الدول، فاختارت أحزاب يمين الوسط التعاون مع الأحزاب اليمينية الشعبوية.

وفي يناير 2024، أصدر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) تقريرا ذكر فيه أنه من الممكن أن تؤدي نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية في يونيو إلى صعود حاد لنفوذ اليمين، ومن المحتمل أن يظهر الاتحاد المتكون من أحزاب المحافظين وأحزاب اليمين المتطرف لأول مرة. إن التحول السياسي إلى اليمين في الدول الأعضاء للاتحاد الأوروبي وعلى المستوى الأوروبي سيضر بنفوذ أحزاب يسار الوسط وصوتها في الشؤون الداخلية والخارجية، كما سيؤثر على اتجاهات السياسات في داخل الدول الأعضاء للاتحاد الأوروبي وعلى المستوى الأوروبي.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق