كأننا منذورون للتخلف والضياع ! *
بيروت-لبنان-08-9-2022
إنها لعقوبة فادحة أن نعيش في هذا الزمن، وفي هذا الربع العربي الخالي كأننا منذورون للتخلف والضياع.. هل نستحق هذه العقوبة؟ الأوبئة السياسية متفشية والبحث عن مستقبل مستحيل.
منذ مئة عام أو أكثر قليلاً، كانت الخريطة العربية، من المحيط إلى الخليج على موعد مع الحرية والعدالة والتقدم والعلم. كُتَّاب ورُوَّاد تلك البدايات، سلسلة من المفكرين، هؤلاء جميعاً، رسموا الطريق إلى الحرية والعدالة والمساواة، ودعوا بحرارة وإيمان إلى تغيير المجتمع بالمعرفة. لكن ذلك انطفأ. فالتغيير السياسي لا يتم بالمعارف فقط. كان التخلف أقوى من العقلانية وأشرس من الرجعية وأشد فتكاً من الاستعمار. والتخلف في بلاد تعيش ماضيها، وتتوغل فيه، وتستدعيه ليكون الركيزة، يمهد الطريق للنكوص والتعصب والتخلف.
“أبناء الماضي”، يؤلهون السلف.. يتحول الدين الى صنم ،يصير تقليد الماضي هو المستقبل، ولا يتم ذلك بالتبشير والتبصير، بل بالقوة والعنف. أنتج أبناء الماضي، جماعات متناسلة دينياً ومذهبياً وتيارات رسّخت في العقول والنفوس ثقافة النسخ والتدجين والقبول والاجترار، وفرضت ذلك بالقوة عبر إشهار سيف التكفير، فيصبح النص سيفاً وقمعاً وتشنيعاً. وهكذا تتسيد ثقافة النفي والقمع، وتتحول الجماعات المتخلفة إلى ممارسة القمع علنا، وأشد أنواع القمع “إقناع” الأتباع بالعنف. وهكذا بدل ثقافة المجتمع، تسود ثقافة تأييد البدع الدينية.
العدو ليس خارجياً دائماً. الاستعمار ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بامتياز، هذا ليس جديداً، تاريخه ملوث.. الاجرام والقتل والابادة والتحقير، هي مرتكزات وجوده. الاستعمار فوقي، آمر، لا يقيم وزناً للقيم. وليس غريباً أن نكتشف أن الغرب، عندما استقبل الحداثة وأقلع عنها إلى تأسيس عالم جديد تسود فيه الحرية والديمقراطية والعدالة، في مطلع القرن التاسع عشر، هذا الغرب “الحديث”، حسَّن شروطه الاجتماعية، وأفلت جيوشه لغزو إفريقيا وتدميرها، ولغزو الهند، ولاحتلال كل أرض رخوة.. الغرب، يكذب دائماً، لا يصدق إلا مع نفسه.. نحن ضحايا غرب كاذب، شرس، مدعٍ، متعالٍ، إنه يمثل أحقر مرحلة في تاريخ البشرية. حروبه تبرهن على ذلك، ولقد أصابنا من هذا الغرب الكثير: كيانات على قياس طوائف، ممالك، إمارات وعائلات.. الغرب ضد الشعوب كان ولا يزال، هو مع “دول” مُطيعة، والطاعة تعني أن تتسلط القوى المحلية الرجعية والسخيفة على الشعوب.. الغرب يكره الشعوب، هو لا يريد تحديثاً في العمق، في البنية، في الثقافة، هو يريد مخلفات حاكمة. كل الرجعيات والامارات والكيانات الحاكمة، تحظى برعاية الغرب، وكل من يتجرأ على غير ذلك، مصيره الحصار والحروب الأهلية.
مئة عام من نفوذ الغرب، أدت إلى احتلال العقل العربي الذي تمذهب “بالواقعية”، وتعلق بذيل الغرب، وهو الآن يبرر الاحتلال والعنف، ويحاول أن يصطف إلى جانب “إسرائيل” جريمة الغرب ضدنا.
لولا الغرب الاستعماري لم تنشأ “إسرائيل”: “إسرائيل” هذه مشروع غربي استعماري، وكل من يقول غير ذلك يعفي الغرب من أفدح جرائمه.
رسخ الغرب “إسرائيل” يهودية، وإسرائيليات عربية، وهي كلها تسير بهدى أوامر ومصالح الغرب. الثقافة المصاحبة، هي ثقافة الاستهلاك، ثقافة الحرمان الإنساني، ثقافة السلعة.. كل القيم والأحداث، تتحول إلى سلع.. يترافق ذلك مع أعضاء هذه الأنظمة المغلقة والطاعنة والمستدامة، حرية المنع.. معظم “دولنا”، من زمان التأسيس إلى يومنا هذا، رجعية، بوليسية، ضد الحرية على طول، ضد التفكير دائماً، ضد المواطن أبداً. إنها في معظمها دول ثرية، ليس بإنتاجها، بل بما في بواطنها. الغرب يغض الطرف عن العنف السلطوي.. القمع المذهبي مسموح، تحريم الكلام فضيلة ونعمة، تحريم الفكر ضروري. إنها فلسفة قتل الانسان وإحياء الانسان المستهلك، بشروط الاخضاع والتبعية. وهكذا، النظام المثالي للغرب، والانسان المثالي، هو “الانسان الببغاء”.
والبديل عن ثقافة التغيير والابداع والأنسنة والقيم، هو الانسان المستهلك أو الانسان الفاقد لإنسانيته، وعليه، الانسان العربي، في بلاده (وهي ليست بلاده) إنسان يشتري، لا يصنع ولا يزرع.. يستورد، يتباهى بالماركات العالمية. إنهم أولاد سوق ومن الفحول كذلك.. الفحولة العربية تنام في فراش الرأسمالية الاحتكارية القاتلة، وتنجب جيوشاً من المستهلكين، وبهذا يتحول العربي إلى إنسان يعقد حذاءه وربطة عنقه ويداوم على التبجح بآخر موضة.. هذه كائنات مدعوسة.
التدين السياسي، عربياً، أنجب كوارث والتغرب العربي أعاد العربي إلى قوانين الغاب. لقد سماها المفكر كارليل “فلسفة الخنازير”، وعليه، فإن وجود الفقراء يصير ضرورياً في كل مجتمع… تباً لهذا العصر.
فشلت الحركات الدينية، بكل وجوهها وتنظيماتها، أن تؤسس مجتمعاً لا إكراه فيه ولا إكراه في الدين.. تحولت إلى عملية إكراه وبالقوة.. الارهاب المتعدد والمتناحر والقاتل والمقتول كذلك، دمر المجتمع. الغرب جمَّد تغيير المجتمع، أراده سلعة. تم له ذلك.. الفِرَق الدينية، في معظم فروعها، أغرقت المجتمع بالأحقاد والفتن والقتل ومعظم ضحايا التدين السياسي هم دينيون أساساً.
منذ مئة عام، كانت الجغرافيا العربية، على وعد الحرية (التحرر) وعلى وعد الدولة – الوطن، وعلى مفترق أن ترسم شخصيتها وتدعم مصالحها وتوفر للإنسان العربي منصة عقلانية، ترسخ مفهوم المواطنة، والوطن، والنظام، والانتاج، والمعرفة، وكل ما يحتاجه المجتمع، ليصير معبراً عن روح الجماعة ومصالحها المادية والنفسية.. لم يحصل ذلك، لم توفق الأحزاب العقائدية والعلمانية واليسارية في مسيرتها، إذ سبقتها القوى العسكرية الانقلابية، بادعاء تحرير فلسطين، وتحرير المواطن، وتأصيل الانتاج، وتعميم العدالة الخ…
يتم تحريم الابداع والمحاسبة والنقاش… الإملاء أفضل، الإملاء أشد وقعاً من الوحي. لم يتحقق أي إنجاز من مغامرات العسكر في السلطة.. وداعاً فلسطين. وداعاً للحرية وداعاً للدولة. إن العالم العربي، قديماً وحديثاً، هو سجن كبير، بل هو قبر، يشبه قبور دول الممالك والامارات.
صمت غريب يلف العالم العربي. كلامه لا يخصه.. هو مشغول بالقضايا الأممية الكبرى. نيويورك، واشنطن، باريس، لندن، أوكرانيا، تايوان، الصين، روسيا… إنه عالم يسترشد بالدولار والتدين كزينة المفلسين أخلاقياً، لكن ذلك كله لا يخفي أن العالم العربي مأزوم، مخنوق، يعيش على بركة الدول العظمى، الناظمة للشعوب الأخرى، مصائرها.
في هذا المدى العربي – اللاعربي، العنصرية تتفشى، حروب الأقليات تتنازع الساحات والطائفية والمذهبية تجسيد فظ للعنصرية.
في هذا المدى، الدين ليس بخير أبداً، إنه دين مأزوم، لأن المذهبية والطائفية والتسيس، أصبحت العقيدة الغالبة للأكثريات والأقليات، الشعوب العربية تعاني أبشع اضطهاد، ولا فسحة ديمقراطية تتسلل إلى جسد هذه الجثة العربية… انتهى زمن عظمة الدين عندما أسس حضارات ومقامات فكرية.. الدين اليوم، في أقصى درجات الرجعية، يتقلب وفق أهواء ومصالح دعاته، وهؤلاء “يحلفون بالله ومرجعهم الله ودليلهم الله”.. تبا، هذا كذب ونفاق”
مئة عام وأكثر، أنفقناها، الاهتراء هو السائد، لا قناعة أبداً بأن أمن ممالك النفط هو دليل عافية. الأمن الذي يقوم على إسكات الناس، هو نتاج جبن وكذب.. هذه الكيانات هي التي روجت الشعار التالي:
“الانسان المثالي، هو الانسان الببغاء”.
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.
* الكاتب والصحافي العربي اللبناني، نصري الصايغ