أخبار العالمإفريقيابحوث ودراسات

فزان الليبية: بؤرة الهجرة غير النظامية والتجارة غير المشروعة في منطقة متروكة لصراع القوى

تُعد منطقة الفزان الليبية منطقة استراتيجية بامتياز، ليس فقط لدورها المحوري في تدفق الهجرة غير النظامية والتجارة غير المشروعة، بل أيضًا لما تحتويه من موارد طبيعية غنية، مثل النفط والذهب واليورانيوم والمعادن النادرة، التي جعلتها ساحة للتنافس بين القوى المحلية الداخلية والإقليمية والدولية.

كما عزز موقعها، الذي يربط شمال إفريقيا بدول الساحل، من أهميتها كممر رئيسي للحركة التجارية والهجرة، في ظل غياب سلطة مركزية قادرة على فرض النظام لأن السلطة المحلية الليبية ترى في منطقة الفزان منطقة ثروة يجب إستعلالها وفي نفس الوقت يجب تهميشها لصالح قوى دولية وأجنية تتهافت عليها وهذا ما فتح المجال أمام تدخلات خارجية وصراعات داخلية على النفوذ.

إلى جانب موقعها الجغرافي، تسهم فزان في تعزيز تجارة التهريب بمختلف أشكالها، حيث تُعد نقطة عبور رئيسية للهجرة غير النظامية من دول إفريقيا جنوب الصحراء نحو السواحل الليبية، مرورًا بمدن مثل سبها ومرزق وغات.

ويواجه المهاجرون القادمون عبر هذه المسارات تحديات قاسية، نتيجة النزاعات المسلحة والفقر المدقع، ما يدفعهم إلى المخاطرة رغم المصاعب والمخاطر الجسيمة وسط غياب شبه كامل للسلطات الليبية.

كما تشهد المنطقة ازدهار تجارة غير قانونية تشمل تهريب البشر، الوقود، الذهب، الأسلحة، والمخدرات، حيث تفوق العوائد غير المشروعة أي حوافز اقتصادية قانونية، في ظل ركود الاقتصاد الرسمي وغياب سياسات تنموية فعالة.

المنطقة المهمشة في معادلة الصراع الليبي

من الناحية التاريخية، خضعت فزان لعدة إدارات استعمارية بداية من الاحتلال الفرنسي في عام 1943، حيث عملت فرنسا على إدارة المنطقة وفق نموذجها الاستعماري الذي كان يتسم بالاستغلال الاقتصادي والتنظيم الإداري المركزي، وهو ما أثر في تطور هذه المنطقة على المدى البعيد والى اليوم نلاحظ التواجد الفرنسي الذي يرى في منطقة الفزّان أحدى مستعمراته التاريخية ويريد السيطرة على ثرواتها الكبيرة.

وقد استمرت سيطرة فرنسا على فزان حتى عام 1955، عندما اضطرت للانسحاب بعد أن تم التوصل إلى اتفاقات اقتصادية مع الحكومة الليبية تقضي بتزويدها بالنفط الليبي، في مقابل منح فرنسا امتيازات تتعلق بتصدير النفط الجزائري عبر مسارات الجنوب.

وتعد منطقة فزان في جنوب ليبيا واحدة من أكثر المناطق التي تعرضت للإقصاء والتهميش على مدى عقود من الزمن والى اليوم بقيت الفزان خارج تغطية السلطة ولا تحضى ببرامج إنمائية ولا إستراتجية عمل.

فهي تُعد من المناطق التي تتمتع بثروات طبيعية هائلة، مثل النفط والغاز، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي الهام الذي يربط بين ليبيا والدول الإفريقية المجاورة. إلاّ أن هذا الوضع الثري لم يكن كافيًا لحمايتها من العزلة والتهميش من قبل الدولة المركزية.

تحليل هذا التهميش يبدأ من فهم واقع فزان السياسي والجغرافي، فإقليم فزان، الذي يشتهر بتنوعه العرقي والثقافي، يواجه تحديات تتعلق بالصراعات الداخلية بين القبائل، والتي غالبًا ما كانت تؤثر على الوحدة الإقليمية لهذه المنطقة.

على مر السنين، استفادت بعض القوى السياسية من هذه الانقسامات لإبقاء فزان ضعيفة من الناحية السياسية والاقتصادية، مما ساهم في إبعادها عن دائرة اهتمام الحكومات المركزية. وفي المقابل بقيت المنطقة تحت سيطرة وهيمنة القوى الأجنبية وخاصة “الإستعمار الفرنسي” الناهب للثروات.

علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال أثر العوامل الاقتصادية في هذا التهميش. على الرغم من أن فزان تمتلك ثروات هائلة من النفط والغاز، إلا أن معظم هذه الموارد كانت تُستغل لصالح مناطق الشمال الليبي، بينما تُركت فزان بدون استفادة كبيرة من هذه الثروات.

تم تحويل معظم الإيرادات إلى مشاريع في الشمال، ما أضعف القدرة الاقتصادية للجنوب وأدى إلى تدهور مستوى المعيشة هناك. نقص البنية التحتية والخدمات الأساسية من تعليم وصحة، وكذلك ضعف الاستثمارات الحكومية في مشاريع التنمية، ساهمت بشكل كبير في تفاقم الوضع في فزان.

علاوة على ذلك، كانت حكومات ما بعد 2011 في ليبيا، وخاصة في فترات الفوضى السياسية، تفتقر إلى استراتيجية واضحة للتعامل مع التعددية الجغرافية والثقافية في البلاد. بينما كانت السلطة تتصارع على تقسيم الكعكة السياسية والاقتصادية، تم إهمال مناطق جنوبية مثل فزان، التي أصبحت ضحية لصراع النفوذ بين الفصائل المختلفة. وهذا ساهم في خلق هوة أعمق بين الشمال والجنوب، وأدى إلى ازدياد مشاعر الإقصاء لدى سكان المنطقة.

وفي السياق الأمني، يعتبر انعدام الاستقرار في فزان سببًا آخر للتهميش المتعمد. فالجماعات المسلحة المتواجدة في هذه المنطقة استغلت هذا الفراغ الأمني لتوسع نفوذها، مما جعل فزان أرضًا خصبة للصراعات المحلية والإقليمية. ولم تسهم الدولة الليبية في استقرار الوضع الأمني في المنطقة، بل غالبًا ما كانت تتجاهل الحاجة الماسة إلى تدخلات حقيقية في تعزيز الأمن وحماية المواطنين.

لماذا استمر تهميش فزان؟

 الجواب يكمن في لعبة النفوذ السياسي والاقتصادي التي تعكس عجز الحكومات المتعاقبة عن إدارة التنوع الجغرافي والعرقي في ليبيا. فبينما تُركت فزان تعاني من الإهمال، تمركزت القوى السياسية والاقتصادية في المناطق الأكثر قوة، ما جعل تهميش الجنوب استراتيجية مقصودة من أجل الحفاظ على الاستقرار السياسي في مراكز القوة الرئيسية.

فزان نقطة العبور من جنوب الصحراء إلى أوروبا

تعد الدوافع الاقتصادية والبيئية من أهم العوامل التي تؤثر على قرار المهاجرين في العبور عبر فزان. يعتبر الكثيرون أن الظروف التي يعيشون فيها في بلدانهم الأصلية لا توفر لهم الفرص التي يحتاجونها لتحقيق حياة أفضل. النزاعات المسلحة المستمرة، الوضع الاقتصادي المتدهور، وارتفاع معدلات البطالة، بالإضافة إلى التأثيرات الكبيرة للتغيرات المناخية على الأراضي الزراعية، أدت إلى خلق بيئة غير مستقرة في العديد من دول جنوب الصحراء. لذا، فإن الشباب الذين يواجهون صعوبات اقتصادية مدمرة في بلادهم يسعون إلى الفرار نحو أوروبا عبر فزان، على أمل العثور على مستقبل أفضل.

علاوة على ذلك، يعزز التحويلات المالية من المغتربين في أوروبا من هذا الدافع، حيث يعتمد العديد من الأسر في دول مثل النيجر ومالي وتشاد على الدعم المالي من أفرادها الذين وصلوا إلى أوروبا. هذه التحويلات تشجع على استمرار الهجرة رغم المخاطر المرتبطة بها، مما يزيد من أعداد المهاجرين عبر فزان ويجعل هذه المنطقة أكثر تعقيدًا في تنظيم حركة الهجرة بشكل قانوني وآمن.

منطقة معقدة تحت سيطرة شبكات التهريب

لا تزال فزان تحت سيطرة شبكات تهريب قوية تستغل الوضع الأمني الهش في ليبيا. على الرغم من الجهود الأمنية المحلية والدولية لمكافحة هذه الظاهرة، إلا أن شبكات التهريب لا تزال تحظى بحماية كبيرة من بعض الجماعات المسلحة والسلطات المحلية مقابل أموال طائلة. تتعامل هذه الشبكات مع مجموعة متنوعة من الفاعلين، بما في ذلك العصابات المحلية والجماعات المسلحة التي تساعدهم في التنقل والتخفي، الأمر الذي يعزز وجودها في هذه المناطق النائية.

وتستفيد هذه الشبكات من الفراغ الأمني وضعف الرقابة في مدن مثل سبها ومرزق وغات، حيث يتم تجميع المهاجرين في مراكز احتجاز غير رسمية قبل أن يتم نقلهم عبر صحراء فزان إلى الشواطئ الليبية. في هذه النقاط، يواجه المهاجرون معاملة قاسية وظروفًا غير إنسانية، لكنهم غالبًا ما يفضلون التعايش مع هذه الظروف على العودة إلى بلدانهم الأصلية التي تعاني من صراعات مستمرة وحرمان اقتصادي.

التشبث الفرنسي بالهيمنة على المنطقة

فرنسا لا تزال تحتفظ بنفوذ قوي في منطقة فزان، على الرغم من التحديات التي فرضتها التحولات السياسية والاقتصادية في السنوات الأخيرة. يُعتبر هذا النفوذ امتدادًا للوجود الفرنسي التاريخي في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، حيث تمتلك فرنسا مصالح استراتيجية في هذه المنطقة ذات الأهمية الجيوسياسية العالية.

أولًا، تعد منطقة فزان بموقعها الجغرافي الفريد في قلب الصحراء الكبرى نقطة مفصلية للتأثير الفرنسي في المنطقة. رغم وجود منافسة متزايدة من دول مثل روسيا والصين، التي تسعى لتعزيز نفوذها في بعض دول الساحل، فإن فرنسا لا تزال اللاعب الأقوى في مجال الطاقة في فزان عبر شركات مثل “توتال”، التي تسيطر على جزء كبير من عمليات استخراج النفط والغاز. هذه الموارد تظل حيوية للاقتصاد الفرنسي، حيث يظل أمن الطاقة في أوروبا جزءًا من أولويات باريس.

ثانيًا، استمرارية الهيمنة الفرنسية في فزان مرتبطة بمساعي باريس لمكافحة الإرهاب والجماعات المتشددة. رغم أن العمليات العسكرية الفرنسية في المنطقة، مثل “عملية برخان”، قد شهدت بعض التراجع في السنوات الأخيرة نتيجة التحديات الداخلية، تظل مكافحة التهديدات الإرهابية والحد من التوسع المتزايد للتنظيمات المتشددة من أولويات السياسة الفرنسية، مع التركيز على تأمين المناطق الحدودية مثل فزان.

ثالثًا، على الرغم من ضغوطات التنافس الدولي، لا تزال فرنسا تمسك بوجود سياسي قوي في المنطقة. علاقتها التاريخية مع الحكومات في فزان ودول الساحل تمنحها أوراق ضغط في الأزمات الإقليمية، ما يتيح لها التأثير في صنع القرارات السياسية على المستويين المحلي والدولي.

وفي سياق التغيرات في عام 2025، بدأت فرنسا بمواجهة تحديات جديدة، بما في ذلك التوسع الصيني في مجال البنية التحتية في بعض دول المنطقة، وتأثير روسيا المتزايد في ليبيا. لكن باريس لا تزال تعتبر نفسها اللاعب المحوري في استقرار المنطقة وتؤكد أهمية وجودها العسكري والسياسي لضمان مصالحها الأمنية والاقتصادية.

الخلاصة:

باختصار، رغم التحديات الجديدة والمتغيرات في المشهد الإقليمي، تظل فرنسا في موقع الهيمنة على فزان من خلال تحالفاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، مما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في المنطقة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق