فرنسا تترنّح: جمهوريّة مُتعبة ونظام مأزوم

إعداد فادي الأحمر: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 12-10-2025

فرنسا تنازع”، “فرنسا على شفير السقوط”، “فوضى غير مسبوقة في الجمهوريّة الخامسة الفرنسيّة”، “انسداد الأفق السياسيّ”. هذه عيّنة من عناوين الصحف الفرنسيّة والأجنبيّة عقب استقالة رئيس الحكومة سيباستيان لوكورنو، استقالة فاجأت الفرنسيّين والأوروبيّين والعالم، وأكّدت أنّ الأزمة في فرنسا لم تعُد أزمة حكم، إنّها أزمة نظام.
بعد ساعات على تقديم فرانسوا بايرو سبتمبر الفائت استقالة حكومته بعد خسارتها التصويت في الجمعيّة الوطنيّة على الميزانيّة، قام الرئيس الفرنسيّ ايمانويل ماكرون بتعيين وزير الجيوش سيباستيان لوكورنو رئيساً للحكومة، وكلّفه إجراء مشاورات مع القوى السياسيّة لإقرار الميزانيّة.
بيد أنّ الرجل القليل الكلام والآتي من اليمين الجمهوريّ لا يملك عصا سحريّة لحلّ أزمة مستفحلة في البلاد، هذا ما أظهرته استقالته قبل أن يكتمل تشكيل الحكومة وقبل أن يتسلّم وزراؤها حقائبهم.
المشهد الفرنسيّ خطير، أوروبا قلقة، فرنسا تترنّح بين جمهوريّة خامسة مُتعبة وجمهوريّة سادسة مُنتظَرة
أكّد تعيين لوكورنو أنّ ماكرون يصرّ على الاستمرار في المُكابرَة، فهو يرفض المساومة مع اليسار الاشتراكي أو مع “التجمّع الوطنيّ” بزعامة مارين لوبان لتشكيل حكومة ائتلافيّة تكون لها الغالبيّة في الجمعيّة الوطنيّة.
ويرفض بشكل مطلق مشاركة تيّار “فرنسا الأبيّة” في الحكم، بالتالي بدا للمراقبين منذ لحظة تعيين لوكورنو أنّ مصير حكومته سيكون مثل مصير سابقتَيها، ولن يمكنها الحكم ومعالجة الأزمة المستفحلة في البلاد منذ سنوات.
وبالفعل أطلق اليسار الاشتراكيّ والتجمّع الوطنيّ التهديد بطرح الثقة بها في الجمعيّة الوطنيّة، أمّا “فرنسا الأبيّة” فكانت حتماً ستطرح الثقة بالحكومة الجديدة لإسقاطها. فاستبق لوكورنو التهديدات وقدّم استقالته للرئيس ماكرون. استمهله هذا الأخير 48 ساعة قبل قبول الاستقالة، وطلب منه إجراء مشاورات جديدة علّه ينجح، لكنّ الأمل ضعيف.
رجل التّبذير
الحدث المباشر لاستقالة لوكورنو هو رفض اليمين تعيين برونو لومير وزيراً للجيوش. شغل لومير منصب وزير الماليّة لسنوات في الحكومات السابقة في ولايتَيْ ماكرون الأولى والثانية. ويُعتبر رجل التبذير، خلال وجوده في “بيرسي” (مقرّ الوزارة) وصل الدين العامّ إلى نسبة غير مسبوقة (116% من الدخل القوميّ)، وارتفع العجز في الميزانيّة الفرنسيّة إلى 5.8% في 2024، وهو رقم غير مسبوق أيضاً، وتراجع تصنيف الاقتصاد الفرنسيّ لدى المؤسّسات الدوليّة.
ما فاقم الأزمة هو إخفاء هذا التعيين حتّى صدوره، فبدا وكأنّه تهريبة، فغضب برونو روتاليو اليمينيّ، وزير الداخليّة، وهدّد بالخروج من الحكومة، وبالتالي خروج الحزب الجمهوريّ منها، الشريك الأساسيّ لحزب النهضة.
تعكس استقالة لوكورنو عمق الأزمة السياسيّة التي يتخبّط فيها إيمانويل ماكرون منذ انتخابه لولاية ثانية (2022). وهي أزمة صنعها هو بنفسه حين حلّ الجمعيّة الوطنيّة في حزيران 2024 عقب صدور نتائج الانتخابات البرلمانيّة الأوروبيّة التي تقدّم فيها التجمّع الوطنيّ.
حينها اتّخذ ماكرون القرار بنفسه، قيل إنّه استشار فقط معاونيه في الإليزيه، حتّى إن رئيس الحكومة حينذاك غبريال أتال لم يُستشَر، وهو من فريق ماكرون، تمّ إبلاغه بالقرار قبل دقائق من صدوره، كان قرار ماكرون الخطيئة الكبرى التي ستولّد أزمة سياسيّة غير مسبوقة في الجمهوريّة الخامسة.
ثلاث حكومات في سنة
صُدم ماكرون بنتائج الانتخابات، كما صُدم بها جميع الفرنسيّين، وأظهرت نتائجها أنّ فرنسا مُقبلة على أزمة سياسيّة عميقة، إذ لم يحصل أيّ طرف على الغالبيّة، بدل أن يعمد ماكرون إلى تسويات سياسيّة لجأ إلى “البهلوانيّة السياسيّة”.
بداية نجح في إعادة يائيل براون – بيفيه إلى رئاسة الجمعيّة الوطنيّة، ولكنّه فشل في تشكيل حكومة قادرة على الحُكم. بداية عيّن اليمينيّ “العتيق” ميشال بارنييه، ولكنّ حكومته سقطت بعد حوالي ثلاثة أشهر بسحب الثقة منها في الجمعيّة الوطنيّة، وكانت تلك سابقة في الجمهوريّة الخامسة في فرنسا.
بعدها اختار السياسيّ المخضرم فرانسوا بايرو (من تيّار الوسط) لرئاسة الحكومة، نجح بايرو في تشكيل حكومته، ولكنّها سقطت في الجمعيّة الوطنيّة بعد خسارتها التصويت على الميزانيّة التي تهدف إلى تخفيض العجز إلى 3%.
على الرغم من علم كلّ الأحزاب والتيّارات السياسيّة بأنّه لا بدّ من اعتماد سياسة تقشّف وتخفيض العجز لتخفيض الدين العامّ الذي بات يهدّد الاقتصاد الوطنيّ، تمّ رفض الميزانيّة وسقطت الحكومة، والسبب الرئيس أنّ الانتخابات الرئاسيّة المقبلة (2027) تحكم سياسات كلّ الأحزاب كلّ منها يتطلّع إلى الفوز بها.
شعبية ماكرون: 17 بالمئة..
توالي سقوط الحكومات الفرنسيّة وتفاقم الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة ورفض الفرنسيّين لأيّ مبادرة حلّ تُؤكّد أنّ الأزمة في فرنسا لم تعد أزمة حُكم، إنّها أزمة نظام. وهو ما دفع ببعض المراقبين والمتخصّصين في الشأن الفرنسيّ إلى طرح مسائل أساسيّة في الدستور مثل مركزيّة النظام وصلاحيّات الرئيس، إضافة طبعاً إلى نظام الرعاية والخدمات الاجتماعيّة الذي يقدّمه النظام الفرنسيّ. وما يدفع إلى طرح هذه المسائل هو عمق الأزمة! ولكن ما الحلّ؟
غالبيّة التيّارات والأحزاب السياسيّة اليوم تُطالب بحلّ الجمعيّة الوطنيّة وإجراء انتخابات تشريعيّة جديدة ليقول الشعب الفرنسيّ كلمته ويكون الحَكَم في حلّ هذه الأزمة. ولكنّه طلب دونه معوّقان:
- الأوّل يتمثّل في أنّ حلّ الجمعيّة هو من صلاحيّات الرئيس، ولا يبدو أنّ ماكرون سيُقدم عليه لإدراكه أنّه سيكون الخاسر الأكبر فيها.
- والثاني يتّصل بانتخابات تشريعيّة جديدة لن تأتي بجمعيّة وطنيّة فيها غالبيّة لأيّ طرف.
أمام هذا الحائط المسدود تزداد المطالبات باستقالة الرئيس نفسه، خاصّة أنّ شعبيّته تراجعت إلى 17% بحسب آخر استطلاعات الرأي. حتّى إدوار فيليب، رئيس أوّل حكومة في الولاية الأولى لماكرون، طالب بالأمس بانتخابات رئاسيّة مبكّرة.