فرنسا تاريخ استعماري وكابوس لا يزال جاثما على قارة إفريقيا
اعداد عادل الحبلاني : قسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية
اشراف ومراجعة الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية
ليست فرنسا كما يراها الكثيرون، بمجرد ذكر اسمهاتفوح روائح عطرها الباريسي و تنير أنوارها قارة أوروبا ويشهد تمثال الحرية في نيويورك عن تقديسها للحرية ووقوفها إلى جانب قضايا التحرر ونصرة المظلومين في كل أصقاع العالم، ويظل ذكرها يبعث في الأذهان تاريخا من الفلسفة والفن والأدب والفكر والشعر والموسيقى ونضالات من أجل الحرية والحقوق والكرامة والديمقراطية، ليحولها إلى حلم ينشد الأفارقة بلوغه بحثا على الاستقرار المادي والمعنوي.
إذ أن باريس اليوم، وإن تزعم الريادة في ميدان الحقوق والحريات والازدهار الاقتصادي وتروج للتعايش السلمي بين الشعوب والأمم، فذلك ليس إلا ضربا من ضروب المغالطة الثقافية والسياسية، فهي لم تكن يوما كذلك ولن تكون أبدا لا في إفريقيا ولا في أي مكان تهدد فيها مصالحها المادية على وجه الخصوص، وإذ يذكر التاريخ ما اقترفته من جرائم في كل من السينغال والنيجر وموريتانيا وغينيا ومالي والبينين والجزائر وتونس وغيرها من دول إفريقيا، فسيظل يذكر دائما ما تقترفه إلى اليوم من جرائم طالما أنها لا تزال كابوسا جاثما ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا على أغلب دول القارة الإفريقية تقريبا.
على الرغم من تحرر أغلب دول القارة الإفريقية من الاستعمار الفرنسي المباشر إلا أن السياسات الفرنسية في القارة الإفريقية تعكس غير ذلك وتؤكد على أشكال جديدة من الاستعمار الثقافي والاقتصادي والسياسي المرفوق بالتدخلات العسكرية في الكثير من الأحيان.
الفرنكوفونية وتغييب ثقافات الشعوب الإفريقية
لم تنسحب فرنسا كليا من الدول الإفريقية التي استعمرتها طيلة عقود، فالفرنكوفونية والاستعمار الناعم هي أفضل دليل على عدم الاستقلال الكلي والفعلي الذي يحفظ سيادة الدول وامنها واستقرارها سياسا واقتصاديا واجتماعيا.
ذلك أنه وبالعودة إلى تاريخ الفرنكوفونية التي تزامنت نشأتها مع الانسحاب الفرنسي من مستعمراتها في إفريقيا نجد أنها إطارا سياسيا ومخططا فرنسيا لإحكام السيطرة على المؤسسات التعليمية وتذويب الثقافات المحلية وطمسها بما يسمح بضرب الهويات واللغات على اختلافها وصهرها داخل خطوط كبرى لإيديولوجيا أكبر تهدف إلى الحفاظ على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للمستعمر الفرنسي.
فمنذ انعقاد المؤتمر الأول للفرنكوفونية في قصر فرساي في 1986 تم تحديد الأسس التي تسمح بتنفيذ هذا المشروع، وقد كان التعليم هو الهدف الذي وجهت له سهام الفرنكوفونية من خلال نشر اللغة والثقافة الفرنسية وتقديمهما كدعامتين لتقدم الشعوب الإفريقية والتحاقها بركب الحضارة وشرطان أساسيان لاستقرارها وأمنها.
فالمناهج والتعاليم والكتب المدرسية كانت في أغلبها باللغة الفرنسية، باعتبارها لغة العلم والمعرفة والتقدم التكنولوجي في مقابل لغة محلية متخلفة غير قادرة على إنقاض إفريقيا من براثن الفقر والفاقة والجوع.
فإكساب اللغة الفرنسية المكانة المميزة داخل النظم التربوية للمستعمرات السابقة حولها إلى أداة تبسط بها فرنسا سلطانها وهيمنتها على العديد من البلدان، كيف لا وقد كانت ولا زالت اللغة التي يمتحن بها مشافهة وكتابة لتحديد القدرات والكفاءات، حيث تقولناتالي يامب، المستشارة لحزب “الحرية والديمقراطية لجمهورية ساحل العاج”: بعد ستين عاماً لم تنل الدول الإفريقية الفرنكوفونية استقلالاً حقيقياً ولا حرية، وتضيف أن الأمر يبدأ من المدارس التي تقرر مناهجها في فرنسا.
بهذا المعنى ليست الفرنكوفونية كما يتم الترويج لها منذ نشأتها إلى اليوم،إطارا يسمح بالتثاقف ويروج لقيم التسامح والانفتاح على الاخر ومحاولة لإعادة بناء ثقافة مشتركة بين المستعمر الفرنسي والمستعمر الإفريقي بما يتيح قيام علاقات جديدة تقوم على التحابب والتآخي والمساواة، بل على العكس من ذلك فإن ممارسات الفرنكوفونية لا تعكس عمليا هذا المنشود بقدر ما تؤسس لتواصل أشكال الهيمنة والاستغلال والاستعمار اللامباشر وما هذه المنظمة (الفرنكوفونية) إلا غطاء إيديولوجي لسياسات هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية قديمة متجددة تسمح بفرنسة الثقافات الأخرى وتستأصل كل نفس تحرري ووطني حتى لا يكون إلا لفرنسا ثقافة وسياسة واقتصادا، فما أنتجته الثقافة الفرنسية إلى اليوم عدى بعض القادة والزعماء الغيورين عن أوطانهم، ليسا إلا نسخا وقيادات تدافع عن فرنسا أكثر من دفاعها عن أوطانها وشعوبها ومقدراتهم وثرواتهم.
استنزاف ثروات إفريقيا
بدأت عملية النهب وسرقة الثروات الإفريقية منذ بدايات القرن الخامس عشر على يد البرتغاليين ثم تبعها الإسبان والفرنسيين والإنجليز، وفي ظل التكالب على خيراتها واحتدام الصراع بين القوى المستعمرة جرى التقسيم على قاعدة مخرجات مؤتمر روما لسنة 1884 والذي تقاسمت فيه الدول المتناحرة مناطق نفوذها في القارة الإفريقية.
وكان لفرنسا نصيب الأسد حيث تمكنت من غرب الصحراء ومحيط الصحراء الكبرى لتنفرد بكل الثروات من ألماس وغاز وبترول وذهب وأراضي زراعية ولم تكتفي بذلك فحسب بل تاجرت بالعبيد وحملت سفنها القادمة من ميناء “نانت” الاف البشر من نساء وأطفال ورجال، تم بيعهم في كل من مستعمراتها في أمريكا أو في الأسواق الفرنسية لبناء وإعمار فرنسا القراوسطيةأو لاستبدالهم بمنتوجات الكاريبي من غلال وقهوة ومتوجات تفتقر إليها فرنسا، حيث يناهز عدد الذين تم تهجيرهم من بلدانهم واقتيادهم مكبلين بالأغلال إلى أكثر من 11 مليون بشر بالإضافة إلى ما يقارب عن 3 ملايين رجل إفريقي زجوا في الصفوف الأمامية في الحرب العالمية الأولى والثانية، دمار نفسي ومادي وسرقة ونهب واستنزاف للثروات والمعادن النفيسة،رزح لأكثر من أربعة قرون، وكان سببا مباشرا في الفقر والجوع والمجاعة والجور والحيف ولا زال إلى اليوم كابوسا جاثما على قارة إفريقيا.
وما خروج المستعمر الفرنسي من دولها إلا خروجا شكليا فالاستعمار الفرنسي أخذ شكلا جديدا في الدول الافريقية، ذلك أن فرنسا لاتزال تنعم بنفس مزايا الثروات الإفريقية عن طريق شركاتها التي لا تزال تتوغل وتنهب من خيراتها، إما من خلال اتفاقيات أو من خلال تواجدها عنوة وقسرا في إفريقيا، فشركة “فراس أفريك” العصا الفرنسية التي حكمت إفريقيا في الخفاء والتي تختص في تبييض الأموال وتقوم بعمليات تسلل الأموال إلى الداخل الفرنسي ومن ثمة تمتيع الساسة من يسار ويمين بنصيبهم كل على حدى وفق المهمات التي إنجازها في إفريقيا.
حيث استفاق العالم على أكبر عملية تبييض أموال في القرن التاسع عشر والتي سميت بفضيحة “إلف” وهي عبارة عن عمليات مشبوهة من العلاقات التي تم بناءها بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، كانت خيوطها تتكون من ديبلوماسيين وعسكريين وعناصر من المخابرات ورجال اقتصاد ومرتزقة أوكلت إليهم مهمة أساسية الإبقاء على القارة السمراء تحت السيطرة الفرنسية سيما بعد موجة حركات التحرر الوطني التي عاشتها أغلب الدول الإفريقية والتي أنذرت بأفول الاستعمار، الأمر الذي دفع “ديغول” إلى التغيير في منظومة الاستعمار عبر إنشاء شبكة “فرنسا إفريقيا” بقيادة وزير المحروقات “بيير غيوما” و”جاك فوكار” أمين عام الإليزيه اللذان أوكل إليهما حقيبة من المهام التي لا تخضع للسياسة الفرنسية ولا إلى وزارة الخارجية بل تتم إدارتها مباشرة من الرئيس،حقيبة من المهام السرية كشفت عن أول مهامها في غينيا، التي تعنت رئيسها أحمد سيكوتوري المعادي لفرنسا وتدخلها في شأن بلاده، بأن تم إغراق اقتصادها بعملة مزيفة لضرب اقتصادها ودفع أكثر من 3 ألاف رجل أعمال فرنسي لمغادرة غينيا، بالإضافة إلى تدريب شركة ” فرانس أفريك” مجموعة من المعارضين وتوفير السلاح والدعم اللوجستي بهدف الإطاحة بسيكوتوري، لتتوالى مهماتها في الكاميرون حيث قتلت معارضها الأبرز فليكس مونيه بجرعة من التاليوم دعما لحليفها “أحمد أحجو”.
وفي نيجيريا دربت فرنسا عبر شبكة مهماتها الخاصة حركة تمرد تسببت في نشوب حروب أهلية راح ضحيتها أكثر من مليون إنسان، والهدف هو المحافظة على عائداتها من النفط.
وفي البينين وغيرها من الدول التي كانت تحت وطأة الاستعمار الفرنسي المباشر. ظلت هذه الشبكة تدفع نحو الاغتيالات والحروب الأهلية والانقلابات والتدخلات العسكرية وإثارة الفوضى من أجل الحفاظ على مصالحها في إفريقيا.
مصالح تستهدف النفط والغاز والأورانيوم والألماس والذهب وكل ما يتوفر من ثروات سطحية وباطنية داخل قارة إفريقيا، افترضت إحكام السيطرة السياسية والعسكرية المباشرة والغير مباشرة، كما افترضت أيضا وبالأساس سياسة نقدية تجعل من باريس تحكم السيطرة على كل المعاملات والمبادلات والسياسات النقدية لمستعمراتها القديمة، الأمر الذي جعل من الفرنك الفرنسي يبسط عصاه على اقتصادات دول القارة السمراء ويحول دون نموها.
سياسة التبعية النقدية
للمحافظة على نهب الثروات والتحكم في اقتصادات المستعمرات القديمة لفرنسا، كان لابد من نظام وسياسات مالية محكمة القبضة، لذلك قامت حكومة “شارل ديغول” بإنشاء نظام مالي للفرنك الفرنسي CFA والذي يمكن التعبير عنه بالوجه الجديد للاستعمار الفرنسي لإفريقيا وهو عبارة عن اتفاق يعطي إلى 14 مستعمرة إفريقية حديثة الاستقلال عملة قوية وثابتة، ويلزمها في الان نفسه وبالتساوي بإيداع 50 % من احتياطاتها من العملة بالخزانة الفرنسية بالإضافة إلى 20 % إلى الخصومات المالية، بما معناه أن الدول الأعضاء في منطقة عملة الفرنك ليس لها الحق إلا في 30 % من عملاتها النقدية، زيادة على ذلك فإن العملة تتم طباعتها تحت رقابة البنك الوطني الفرنسي.
والأدهى من ذلك أنه وفي صورة ما أرادت هذه الدول الحصول على أموالها الخاصة فإنه من الواجب عليها وفق بنود الاتفاق اقتراضها من البنوك الفرنسية بأسعار تجارية ثابتة، وهذا ما حصل بالتحديد في أعقاب الأزمة المالية في 2008 عندما لم يستطع أعضاء منطقة الفرنك الحصول على قرض لأن احتياطاتهم المالية كانت محفوظة باسم فرنسا.
انقسم نظام الفرنك الاستعماري الفرنسي لإفريقيا إلى عملتين خصصت العملة الأولى إلى دول إفريقيا الغربية وهي مالي والنيجر والسنيغال والتوغو والبينين وبوركينا فاسو و غينيا بيساو والكود ديفوار، وخصصت العملة الثانية إلى دول إفريقيا الوسطى وهي الكاميرون والتشاد وغينيا الاستوائية وجمهورية الكونغو وجمهورية إفريقيا الوسطى.
تسمح هذه العملة التي تشرف عليها وزارة المالية الفرنسية بتداولها في ما بين الدول التي تنضوي تحت نظام الفرنك الاستعماري الفرنسي، وإذ يضمن هذا الترتيب المالي لفرنسا وبنوكها منذ الستينات دفعا كبيرا في نماءها المالي والاقتصادي، فإنه في المقابل نظام يعوق ويحرم الدول المنتمية لهذا النظام المالي من تحقيق ثراءها ونموها.
نظام العبودية هذا الذي أحكم السيطرة على الثروات الإفريقية وعلى الاستقلالية المالية، تأكد في القول للرئيس الأسبق لفرنسا “جاك شيراك” عندما قال ” نحن ننسى شيئا مهما، أن جزءا كبيرا من الأموال التي في جيوبنا، تأتي بالتحديد من استغلالنا لإفريقيا.” مضيفا في 2008 قولا أنه ” بدون إفريقيا، فرنسا سوف تنزلق إلى الأسفل، في مرتبة دول العالم الثالث.”
إن ما يقدمه المشرعون والساسة الباريسيون من تنظيرات وأفكار حول إيجابية الوحدة المالية لمنطقة الفرنك الإفريقي وتماسكها وقوتها، ليس في الحقيقة وعمليا إلا ممارسة ينتهجها الاستعمار الجديد، طالما أن المستعمرات السابقة محرومة من المؤسسات السياسية الأساسية التي تسمح لها بمجاراة وإدارة شؤونها الاقتصادية والاجتماعية وسلطانها على سيادتها الوطنية وإراداتها السياسية، فعملة الفرنك ومنذ دخولها إلى 14 دولة إفريقية التي أتينا على ذكرها، كانت الترجمة العملية لسياسة الهيمنة والسيطرة الفرنسية على مستعمراتها القديمة.
ويتأكد ذلك في هذه المعادلة التي تقضي باعتماد تحديد قيمة الفرنك الفرنسي بالرجوع إلى قيمة اليورو، الأمر الذي يفيد بأن الحكومات التي تنضوي داخل هذا الاتفاق الاستعماري لا يمكن لها أن تحدد أسعار فائدتها من المبيعات وهو ما لا يمكنها من أن تكون عملتها ذات قيمة وهو بالنتيجة ضرب ممنهج لنمو هذه الدول بما أن اقتصاداتها تقوم أساسا على توريد المواد الاولية اللامحولة لفرنسا على وجه التحديد بقيمة مضافة ضعيفة جدا.
ليست فرنسا كما يراها دعاة الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان مثل أعلى تمثيلي لهذه القيم المنشودة، بل إن ما تزعمه باريس من نصرة لحقوق الشعوب في الكرامة والعيش الكريم ليس إلا غطاء إيديولوجي يخفي وراءه تاريخا من الجرائم في حق الشعوب ونهب وسرقة لمقدراتها وثرواتها وتاريخا من الانتهاكات للأعراف والمواثيق الدولية وجرائم الحرب التي اقترفتها في كل من تونس والجزائر ولا زالت تقترفها إلى اليوم في ليبيا.