شريعة الغاب وجنون القوة*
بيروت-لبنان-09-11-2022
حرب بين دولتين، روسيا وأوكرانيا، دشّنت مرحلة قد تدعى الحرب بالواسطة.. الميدان أوكرانيا.. روسيا تحارب مباشرة، وأمريكا والناتو يحاربون بالواسطة. القوى المتنافسة تخندقت.. القتلى بعشرات الآلاف، الخسائر بمئات المليارات من الدولارات، والتداعيات أصابت الفقراء والطبقات الوسطى في العالم، إنهم خائفون على اللقمة. يحصل ذلك، وكرم التسلح يتدفق على أوكراني، من دول “معسكر الحرية والسلام”!. واشنطن تدير الحرب، ولا حل إلا معها، تريد أن تبقى مسيطرة وحدها على العالم، لا ترغب في مشاركة أحد، لا روسيا ولا الصين.. إنها حروب، وليست حرباً. الامبراطوريات القديمة، اليونانية والرومانية، أبادت شعوباً وأغرقت بلاداً وأحرقت أخرى، بعدها عاش المنتصرون سلاماً مريضاً وهشاً. الشعوب تدفع الأثمان والقادة يشربون نخب “حريق روما” بعد كل معركة.. الشعوب مجرد أرقام.
كم بدا الحق كذبة! كم كانت الحقائق مزيفة؟ كم كانت القيم حثالة؟ ولا غرابة في ما بعد بإقامة الاحتفالات فرحاً بقيم وحقائق مزيفة!.. ساحات الدول العظمى راهناً، تستضيف قادة عسكريين، تماثيلهم مبجلة، أسماؤهم موزعة على مؤسسات وشوارع ومشاريع، لا أحد ينظر ويرى أياديهم الغائرة بدم الذين أبادوهم، في القارات الخمس.
القوة والمال آلهان.. العالم محكوم بهذه الثنائية، لا قيمة لفكرة أو فلسفة أو عقيدة، إذا لم تتسلح بذكاء الوصولية، وفتنة الإخضاع.
المبادىء مساحيق تجميلية، هندام سياسي، احتفال لفظي، إنها خاتم مذهب، وكتب إشادة ومتاحف ذاكرة، وهي أيضاً مناسبة لتصنيف أبناء البشر والدول، وتأبيدهم في الخضوع والخوف، فالحقيقة الأقوى السائدة، منذ ما قبل الأزمنة، هي في أن الحق مع الأقوى، وليذهب الطيبون إلى النسيان.
الإنسانية مبدأ سام، أحذفه بسرعة.. الانسان ضحية الانسان.. الانسانية كذبة مغرية.. الانسانيون فعلاً قلة بريئة ونموذجية، ولكنهم عجزة، فضيلتهم أنهم يشكلون الضمير اليقظ في هذه المسيرة البائسة، إنهم الضوء الساطع الصغير في عتمة العولمة القديمة (الامبراطوريات) والعولمة الصاعدة والاجتياحية، ومن نتائج شموليتها في أنحاء القارات الخمس، أن ثلث البشرية يجوع ويمرض ويموت، والأحياء الغلابى يعيشون على الفتات.
الديمقراطيات(الغربية) لم توفر مناسبة لتدخلها السافر وخوض الحروب خارج حدودها. الشعوب الأخرى هي مرمى “الدول السوبر ديمقراطية” التي شغلت سنواتها في عقد تحالفات عسكرية وأمنية واقتصادية ومالية وثقافية، بحيث أصبح من “ليس معها” في مرمى العزل والحصار والعقاب والعنف، بهدف الاخضاع، على قاعدة “الأمر لي”، أنا الغرب المنتصر!
الدكتاتوريات الحديثة، في القرن العشرين، كانت أكثر رحمة من الديمقراطيات الاجتياحية بالسلاح والعقوبات. سابقاً، عرفت البشرية منافسة دائمة بين الدين والآخرين، وحروباً بين الدين والسلطة.. العقيدة المبطنة هي السيطرة على الثروات.. المال إله سياسي، له الامرة وقادر على تيسير البطش. فالحرب في هذا النسيان هي عملية تهدف إلى توسيع السيطرة، ومن يخرج عنها مطلوب أن يأتمر بما تقرره المنظمات الدولية، واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تنفرد بالقوة والسيطرة على “حلفائها” في حلف الأطلسي، والتفرد بغنائم النفط والمواد الأولية، ولكي نعدل قليلاً، لم يكن الاتحاد السوفياتي أرحم، لقد سوَّر حديقته الشيوعية بأنظمة مطيعة جداً، ومتهافتة جداً ومصغية دائماً “للأخ الأكبر”.. هذا الأخ كان أخا تسلط ودكتاتورية وطحن الانسان بدعوى تعميم ” الاشتراكية “. والغريب، أن السلام كان شعاراً مشتركاً بين أمريكا الاجتياحية والاتحاد السوفياتي المتحصن، والصين التي كانت تنمو بلا ضجيج.
الحرية اختصاص الأقوى. الأقوى هدف مستدام. السيطرة على الشعب بالقوة او بالإعلام أو بالمال.. في مسار العولمة تراجع الفكر الحر، تقدم عليه الفكر الملتزم بأهداف العولمة . الحقيقة هي مَنْ الأقوى ومع الأقوى. اقتضى هذا الاستهداف السيطرة الكاملة على المعرفة بواسطة الإعلام، الإعلام الذي كان حتى ثمانينيات القرن الفائت يصدق، انتهى. الإعلام صار أداة نقل، لا أداة تنوير وتعريف. قبض الرأسمال العالمي في الدول العظمى والوسطى والصغرى، على الاعلام كافة. ووسائل التواصل متاحة، بشروط المنتج والممول والشركات. النيوليبرالية هي إعطاء السلطة للمال وليس للشعب. لقد أفرغت النيوليبرالية السياسة من أي حقيقة مضرة بالدول العظمى. لا نتحدث عن وسائل الاعلام في الدول الدكتاتورية أينما كانت، لأنها ممسوكة بكاملها لمن بيدهم القبضة العسكرية ودفاتر الشيكات. الشعب طرد من المشاركة، يعيش على فيض من الأكاذيب، وفتات الصدق وكِسرة الأخلاق.
يرزح العالم اليوم، تحت نير دكتاتورية عدوانية ذات عقيدة خطيرة..
لا تعبدوا ربّين: الله والمال. الآية السائدة، لا تعبدوا إلا المال. وقد انتظم في هذا السياق، الدين بكل منابعه، وبات الفكر والدين وحتى الفن والإعلام، خدماً على مائدة السخاء الرأسمالي.
من الأكاذيب التي سادت بين الحربين الكونيتين: الحرية لكل الشعوب.. هذه خرافة دموية كاذبة، لم تعرف الشعوب قهراً يوازي أنماط الارتكاب.. النظام الاقتصادي والمالي والسياسي هو في صدد إخضاع الجميع وبالتدرج لسلطة “حكام الرأسمال..
العالم يسير دائما على حافة الهاوية.
في هذا الأفق المسدود، في ظل تبخر الآمال وفي توقع الأسوأ غداً أو بعد غد، نسأل عن الفكر وتأثيره وقدرته. الملاحظ أن معظم الكتَاب في الغرب ، هم كتبة النظام الرأسمالي المعولم. تضاءل تأثير المفكرين المستقلين.. نعوم تشومسكي مثلاً وأترابه في العالم، صاروا فاكهة لا يقربها أحد من الملتزمين بالفلسفة الرأسمالية المتنامية. لقد ألحق الفكر بالإعلام، وأعدم الفكر، وخصيت الأفكار. إعلامنا العربي برمته، هو إعلام يتقن فن الكذب، هو يعرف ذلك ويتمادى، إنه إعلام يخون الحقائق المادية.. يستطيع الاعلام في العالم أن يقنع المقتول أنه القاتل.. نعم وألف نعم، فلسطين نموذج.. الفلسطيني قاتل، والعفو الدائم لإسرائيل. تاريخ “إسرائيل” هو تاريخ ارتكاب، والإعلام العربي راهنا هو إلى جانب إسرائيل. لا يهم، إن كان الفلسطيني في العراء الانساني. ليس هناك كارثة أخلاقية توازي هذا المنحدر الساقط إلى أسفل السافلين.. لا قضايا عربية نبيلة، وحدها فلسطين المقاومة، تملك حقاً، وتصنع من الضعف قوة.
وعليه، هذا العالم اليوم يعيش لحظات “عولمة الرعب”.. أوكرانيا ظهَّرت صورة القوى العظمى. إنهم يلوحون بالنووي الصغير، وهو نووي بأذى كبير، ولكنه لم يصل إلى النووي الأصيل. هناك تصور أبوكاليبتي إذا حدثت المواجهة، أو إذا كبس أحدهم على الزر. إن ثورة الوسائل، وتكنولوجيات المديات البعيدة، وحجم القوى العسكرية السلاحية والمالية ، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، تهدد البشرية برمتها. العالم في خطر الإبادة، إذا تم الكبس على الأزرار.
هل هذا نتاج عصر النهضة؟.. لا، أبداً، هذا هو نتاج طبيعي لفلسفة الخيارات البشرية: كي تكون، يجب أن تتسلح بالقوة بكل أبعادها، يجب أن تعبد القوة، ولكي تكون قوياً، عليك أن تكون ذخيرتك المالية وافرة.. الرأسمالية عقيدة حرب، بالدولار ، أو بالدمار.. العدالة وهم.. السلام كذب.. التقدم فضيحة. “القرية العالمية” لا تحتضن إلا من هم على دين الرأسمالية في جموحها وانتشارها الدائم. لا أحد أقوى من المال.. إنه مال لا يشبع أبداً.
العدالة وَهْم، القوة هي القانون، وأمريكا الأقوى هي التي لا تستأذن أحداً لشن حروبها. علينا أن نتذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية تحاسِب ولا تحاسَب، لا تطيع أبداً ما يصدر عن مجلس الأمن إن كانت على وشك ارتكاب حرب.. أمريكا لا تستأذن أحداً.. حرب على العراق، حروب متفرقة، تغذية ثورات تخريبية…
العالم اليوم، صناعة أمريكية، ولم يكتمل المشهد بعد.
إنه قرن سيادة العنف، زمن هجرة المبادىء، ووداع الأخلاق، وطلاق القيم.. إنه زمن بلا قوانين، يحاسب الضعفاء إذا عاندوا، ولو لم يرتكبوا. يريدون الدول قطعانا في زرائبها. يحصل ذلك، والثورات التي كانت تقض مضجع الكثيرين، باتت أحلاماً ذات صيف(…)..على هذه المنطقة أن تسجد “لإسرائيل” ، ولقد بدأت قوافل عربية في امتطاء الحالة الاسرائيلية، والمضي معها إلى حيث تشاء، لا حيث يشاؤون. أمريكا وإسرائيل والغرب ، أعداء لكل من يعادي “إسرائيل”.
القرية العالمية فضيحة، هي دولة بلا قيم، وأهالي القرية هذه ليسوا مسؤولين إلا تجاه واشنطن. السلطات المالية التوتاليتارية، هي أشد اجتياحية من أي قوى فالتة..
ما هي الخيارات المتاحة؟ .. تقريبا منعدمة. روسيا تريد أن تكون نداً رأسمالياً