شتّان ما بين المهنية والامتهان: ديماغوجية إعلام المستبد

الدكتور يحيى العريضي قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 15-08-2025
في أتون الاستبداد المتجدّد، لم يتبدّل إعلام الجوقة المحيطة بشخص القائد في جوهره؛ جهازٌ جديدٌ تجري صناعته كذراعٍ أمنيةٍ متأصّلةٍ في هيكل الطغيان، تُوظّف فيه ضمائر مغيّبة لإعادة صياغة الحقيقة وفق مصلحة الحاكم الجديد؛ آلةٌ ديماغوجيةٌ لا تعرف سوى لغة التشويه، يُطوّع فيها خطاب لا ينتمي للأخلاق بِصِلةٍ، لخدمة سردياتٍ من صنع السلطان، يُشيطن بها كل صوت مخالف؛ تُغتال بها حرية الفكر والتعبير، وتحكم على الوعي الجمعي بالسجن المؤبد في زنزانة التزييف والتضليل.
لم يعد يُخفى عن عاقلٍ أن هذا المشهد لا يختلف عن مشهد الزيف الإعلامي القديم. مشهدٌ عايشه السوريون لخمسين سنة، حين كان الإعلام أداةً رخيصةً في خدمة الطغيان، تُلمّع القبضة وتُجمّل القيود، وتغني للجلاد بينما يئنّ السجناء في العتمة. وها هو المشهد يعاد إنتاجه اليوم بأسماء جديدة، وأقنعة مستعارة، يُعيد بعناد مقيتٍ رسم ظلال النظام الساقط، ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن سقوط الأسد كان سقوطاً في الظاهر فقط. بينما لا زالت أدواته تتعايش بين السوريين، وتتسلق عذاباتهم وتضحياتهم كطفيلياتٍ ماهرة في تبديل الوجوه.
لكن، ورغم هذا السواد، وفي وسط ضجيج الإعلام الملوث هذا، لا يزال بعض الشرفاء قابضين على مهنيّتهم كما يُقبض على الجمر؛ لم يبدّلوا تبجيل الحقيقة بالولاء، ولم يبعثروا ضمائرهم على عتبات السلاطين؛ أولئك الذين لم تنكسر أقلامهم تحت سطوة الرعب، ولم تجفّ حناجرهم في حضرة النفاق، ظلّوا شهوداً على الزيف، لا شركاء فيه. هم البقية التي تنير العتمة بصمت، وتحرس القسم المهني من أن يُصبح مجرّد حبرٍ على ورق. فتحية إجلالٍ لكم أيها الثابتون على الضمير.
المخجلُ حقاً، أن معارضة الجوقة الجديدة لنظام الأسد لم تكن، في جوهرها، كفاحاً مكرّساً لخلاص الشعب من نير الاستبداد، بقدر ما كانت صراعاً على كرسيّ الاستبداد ذاته. معارضة اختزلت الخلاص في شخص، لا في مسارٍ ولا في مبدأ. هذا الانفصال بين جوهر الخلاص وشخص المستبد عرّى إمعاتٍ وأبواقاً جدد، يهلّلون للزعيم البديل، الذي ما لبث أن ارتدى عباءة سلفه، وسار على الدرب نفسه، وكأنهما من مدرسة طغيان واحدة، يتسابقان في سفك الدماء وتكريس الوهم.
في رحاب مشهد القتل اليومي؛ مشهد الإخضاع القسري؛ وامتهان كرامة الإنسان السوري، حيث لا تزال إرثيات الاستبداد تخيّم على إعلام وإعلاميين جدد تجمهروا حول الزعيم الجديد؛ تبرز أدوات متجددة تعكس استمرارية عقلية الهيمنة في خطاب السلطة. لغة التخوين والتكفير السياسي؛،لغة توظّف كأداة منهجية، تسمم الحياة السياسية، وتوصم كل من يعارض سرديات الذين يقررون باسم التحرير بالارتداد والخيانة. آلة بلاغية تصنع العدو الداخلي، وتشرّع العنف والقتل بحق من استفاقوا على مستبد وطاغية جديد. آلة شريرة تقتل الأفكار قبل ولادتها، وتحصر الفضيلة الثورية بمن يلهث خلف الكرسي، ويقتل ويحرق وينهب باسم الثورة. آلة تمتهن إطلاق أحكام القيمية على المعارضين للقائد الفاتح الجديد، فتارة تنعتهم بالخونة والمتآمرين، وتارة تسميهم فلول النظام البائد، تارة تقرر عدم انتمائهم للوطن، وتارة أخرى تحلل إبادتهم وقتلهم، وكأنها ورثت الوطن مزرعةً والمواطنين عبيد.
تضليل ممنهج، يعانق التكرار المبرمج والدعاية الرمادية الملوثة، حيث يُجمّل القتل والانتهاك باسم الوطن، وطنٌ يٌقتل فيه الشهيد محمد بحصاص على يد مجرمي العهد الجديد، وتسيل دماءه الطاهرة على مذبح الإنسانية. وطنٌ يدين فيه أبواق السلطة انتفاضة مدنيّ أعزل بوجه الإهانة والإذلال، ويبررون قتله بدم بارد. والسخرية… بتبريرهم لقتله بالقانون. فأيُّ قانونِ يعلو فوق قانون الإنسانية التي فقدتموها؟!
وطنٌ تزوّر الحقائق ليحل مكانها روايات رثة بالية مستوردة من صحف البعث وتشرين والثورة؛ روايات تضخّم إنجازات وهمية، وتقلل من حجم معاناة الشعب المكلوم؛ وطمن نشهد فيه خيوط دقيقة من التزييف الإعلامي، تحيك شبكة من الأوهام لتخدّر بها المقهورين، وتخفي عمق المآسي وأبعاد الانهيار الأخلاقي والاقتصادي الذي يعايشه السوريون يومياً؛ إنها البيئة التي تخفي موائد المنتفعين من صفقات الفساد الجديدة، وتلبس سرقة الوطن ثوبَ الإعمار والتطوير.
سردية الطغيان المنظومة الأسدية، تُستحضر كظل دائم لتبرير القمع الداخلي، وتفتيت المجتمع، وإبعاد الأنظار عن خراب ودمار يومي؛ إنه خطابٌ بالٍ كتبه أزلام الأسد، ونسوا أن يحرقوه قبل أن يهربوا، فعثر عليه الفاتحون الجدد، وأعادوا تدويره علّه يغطي جرائمهم في الجغرافيا السورية، أو ينفعهم في استجدائهم الرضى للبقاء في السلطة خارجياً. منظومة من العيب أن تسمّى بالإعلامية، تحضّر تبريراتها مسبقاً لكل جريمة يرتكبها القائد الجديد. روايات مفبركة تُسطّح وتسخّف معاناة الإنسان، وتُهوّن وقع المجازر الجماعية، فتبدو وكأنها ضرورة محقة، أو ثمن لبناء الدولة والتطوير.
إنه مشهد متشابك، تتضح فيه حقيقة جوقة إعلامية جديدة، حقيقة أدوات ليست تقنيات عابرة، بل امتداد لفكر استبدادي عميق الجذور، لا يزال يتحكم في وعي المجتمع، ويحول دون انبثاق رؤية جديدة حرة تتجاوز أنقاض الدكتاتورية.
لم تكن مبادئ الإعلام يوماً من قبيل الرفاهية، وليست تنتمي قطعاً إلى كتب نظرية. التحقق من المعلومة؛ النزاهة التي ترفض أي شكل من أشكال التزوير؛ توازن في عرض الأطراف المتعددة؛ واحترام المتلقي عقلاً وفكراً ووجوداً؛ كانت ولم تزل ضمانة لحرية الفكر، وركيزة لاستقرار المجتمع، ومعيار ضروري لبناء الوعي الجمعي المتين. ولكن في فضاء الطغيان الجديد، آثرت سلطة الاستبداد أن تبقيَ منهج الطاغية الأسد في إعلامه، فبدّلت شخصياته فقط، وأبقته آلةً للامتهان والتطبيل. إعلام يفترض أن يكون مرآة شفافة للواقع، تحوّل إلى بوتقة للتضليل والتحريض، يختزل الحقيقة لخدمة السلطة.
صورة عشاءٍ على أنقاض بلادٍ مدمرة، تنتشر كالنار في الهشيم، تمجيداً بشخص المستبد الجديد، ودعماً له لاستمراره في مجازره. خائنٌ هو من ينتقد، وأفّاكٌ هو من يعترض. لكنه وطنيٌ من يبجّل منجزات القيادة الحكيمة، حتى وإن كانت وهمية. كذب ممنهج يدين الضحية، ويعطي صكوك الغفران للجزارين. وخطاب كراهية يُغتال به جوهر مهنة الإعلام وأخلاقياتها.
لقد فقد السوريون إيمانهم بإعلام الأسد سابقاً، لدرجة أنهم كانوا يرتدون المعاطف الشتوية عندما ينبئهم مذيع النشرة الجوية بارتفاع درجات الحرارة. واليوم، يفقدون الإيمان بإعلام المستبد الجديد، عندما ينبئهم بمستقبل مشرق، في ظل قيادة حكيمة جديدة. مستقبل مشرقٌ لمن يؤمنون بضرورة الموت لكل شخص معارض، وضرورة القتل لكل شخص يرفض الذل والهوان. ما أشبه الأمس باليوم. واقع تُشّوه فيه أخلاقيات مهنة الإعلام، بأيادِ أشخاص تسلّقوا عدسات الكاميرات، ليرسموا مشهداً جديداً تٌغذى فيه دينامية الانقسام، وتُعزز فيه مشاعر الكراهية.
لم يكن الإعلام يوماً صانعاً للحقيقة، بل هو مرآتها. مرآة لما هو كائن، وليس لما يُراد له أن يكون. وحتى وإن طال ضجيج التزييف، حيث يعلو صدى الطبول على همس العقول، ويتم تدوير الكذبة، فالمصير هو السكون. سكونٌ تظهر فيه الحقيقة. ذلك الكائن العنيد الذي لا يموت. سيبقى حيّاً في الأرض والضمير، وفي وجدان السوريين. سيأتي ذلك اليوم الذي تنكسر فيه منابر الاستبداد، ويقلب التاريخ صفحة المارقين. عندها، لن يبقى لجوقة المطبلين سوى صدى خيبتهم، وسيندثرون في ماضٍ أسودٍ شاركوا فيه بتشويه التاريخ والحاضر والمستقبل. فالحقيقة وإن تعثّرت، لن تسقط. والمجد لا يبنى على الضجيج، بل على صمت نزيه يسبق العدالة.