سياسات الفاجعة
![](https://i0.wp.com/strategianews.net/wp-content/uploads/2025/02/a27ebf27-3bfa-422b-ad91-9e18c4306c6d-1.jpg?resize=780%2C470&ssl=1)
* كاتب سوري: قسم البحوث والدراسات الاستراتجسة والعلاقات الدولية 07-02-2025
![](https://i0.wp.com/strategianews.net/wp-content/uploads/2025/02/%D9%81%D8%A7%D8%AC%D8%B9%D8%A9-2-750x375-1.jpg?resize=708%2C354&ssl=1)
العالمُ العربي اليوم هو “عالم الفاجعة”، والكتابة عنه هي “كتابة الفاجعة”. لا يقف الأمر عند العنف والموت داخل المجتمعات والبلدان، وفي ما بينها، ومع الآخر، بل يتعدّاه إلى “الخروج من الفضاء التاريخي”، بتعبير موريس بلانشو، أو “خروج العرب (والمسلمين) من التاريخ”، بتعبير كتّاب ومثقفين في الإقليم والعالم. وسوف يظهر معنا أن الأمر أبعد من ذلك.
تَحدُث في الإقليم كل الأهوال المعروفة والممكنة أو المُتَصوَّرة وغير المُتصوّرة! للحرب من عنف وقتل وموت وتهجير وتدمير، بالإضافة إلى ما يشبه الموت الثقافي والقيمي والتاريخي.
يتحدّث أدونيس مثلاً عن “انقراض العرب”، بالمعنى الحضاري وليس بالمعنى البيولوجي! مع أن جانباً من الانتهاكات في عدد من بلدان الإقليم يدخل في باب الإبادة والتطهير العرقي والديني، وبالطبع الثقافي والقيمي والرمزي.
أخفقت كل مشروعات التغيير، وانتهت -غالباً، وبتأثير عوامل مختلفة- إلى كوارث أو فواجع، لا مبالغة في ذلك، ولا من أفق لتغيير الأحوال، ولا من يريد أن يفعل شيئاً مفيداً أو مناسباً لـ”احتواء” ما يحدث، ولا السير ببلدان الصراع والحرب في الإقليم لأن تكون قابلة للعيش فيها، بـ”الحد الأدنى” من عيش بالمعنى البيولوجي والفيزيولوجي!
انتقل العربُ من السرديات الكبرى والإيديولوجيات “وربما الأوهام” العريضة، إلى سياسات التسلط والتمزق والصراع، ثم إلى سياسات الكارثة، بمعنى الكراهية والتعصّب والتشرّد والجوع والخوف والهجرة واللجوء، وصولاً إلى “سياسات الفاجعة”، وهي -إلى كل ما سبق- “التدمير الذاتي” و”الانتحار”، وصولاً أيضاً إلى “الانقراض” أو “الخروج من التاريخ” بالمعنى الإنساني والحضاري، كما تتكرّر الإشارة، من دون الشعور بهول ما يحدث، وربما تقديره بأنه هو الاستجابة الصحيحة لأسئلة التاريخ والحاضر والمستقبل!
وتكاد الفاجعة -بهذا المعنى- أن تكون “المشترك الرئيسي” بين العرب اليوم. ولعل الظواهر الأكثر “حيوية” و”توالداً” لديهم هي ظواهر العنف والموت. وإن موقعهم في موازين المعنى والقوة في العالم هو مؤشر على ذلك، ولو أنهم ليسوا سواء.
قد يكون السوريون في المقدمة، باعتبار التحدّيات الوجودية التي شهدوها، وقد كانوا خلال سنوات عدة أبطال المشهد بلا منازع تقريباً، ويتبعهم السودانيون والليبيون واليمنيون، وبالطبع الفلسطينيون واللبنانيون، وإلى حد ما العراقيون. بهذا المعنى، يصحّ أنّ العرب “أمّة واحدة” بالفعل!
لكن، مرة أخرى، الأمور لا تقف هنا، إذ “الفاجع” فيما يحدث أنه يكاد يصبح “حدثاً عادياً”، يتكرر بشكل روتيني ويومي في حياة الناس، وفي وسائل الاتصال والتواصل، وتعتاد عليه النفوس، وتتطبّع به الأجيال تَطَبُّعَها بالاستبداد والتسلّط والطغيان، كما لو أنّ ما تعيشه وتشهده هو قدر لا فكاك منه! ويحدث في عدد من مجتمعات وبلدان الصراع أن ذهنية أو بالأحرى ذهان أو هستيريا الانتقام والتطييف والمذهبة تتجاوز كل بعد ممكن أو مُتخَيَّل لـ”وطن” أو “وطنية” أو “إنسانية”، ويرتفع إيقاع الكراهية والعنف بشكل لا مثيل له في التاريخ الحديث للإقليم.
فقدان المعنى والقوّة، وعدم امتلاك شيء يمكن تقديمه للعالم، بالمعنى القيمي والحضاري. استنفد العرب كل خطاب ممكن حول إسهامهم في الحضارة العالمية. وانتهت مقولات “الرسالة الخالدة” (!) إلى انقسامية حادة وتطييف ومذهبة وعنف لا حدود له.
ومهما كان من هول ما يحدث في الإقليم، إلا أنه لا يبرّر -بأي حال- عدم المعرفة به أو عدم الانهمام به، وعياً ومكابدةً وتفكيكاً… وإن أمكن تجاوزاً. ومع أن شعوب الإقليم وصلت إلى الفاجعة أو هي في الفاجعة، إلا أنها لم تدرك حدودها أو نهاياتها القصوى بعد، وذلك في معانٍ رئيسية هي الآتية:
- إنّ الإقليم لم يصل إلى ذروة الفاجعة أو بالأحرى قعرها، إذ لا يزال ثمّة إمكان للمزيد، على ما يظهر من اتجاهات الأحوال في عدد من البلدان العربية وفي الإقليم عامّة. ويدخل عدد كبير ومتزايد من البلدان العربية في قوائم “الدول الهشّة” أو “المهدّدة بالفشل” أو “الفاشلة”.
- لم تتوافق فواعل الإقليم على «تحديد» و«تعيين» ما هي فيه، لا شكّ أن ثمّة تقديرات أو دراسات وحتى استبصارات مهمّة، لكن ليس تعميمات يمكن التوافق عليها، ليس بما هي تعميمات ومعارف فحسب، وإنما بما هي «وعي جمعي». ولا يبدو أن مجتمعات الإقليم تفعل الشيء الكثير بهذا الخصوص، إلا أن تزداد تمزّقاً وعنفاً وهامشيةً.
- تبدو الفاجعة في أحوال الإقليم كما لو أنها “قانون تاريخي” أو نوع من “الحتمية التاريخية”، مسار طويل ومعقّد متفاوت الصعود والهبوط ولكنه في كل، أو معظم، الأحوال “مسار فاجعة”. حتى ما يسمّى عصر القوّة والإمبراطوريات لا يخرج عن الخطّ، ثمّة في الوعي واللاوعي ما يحيل إلى الفاجعة ومنطقها الحاكم للمجال والأمّة. أنظر أحاديث افتراق الأمّة أو ما يعرف بـ”حديث الفرقة الناجية”، وأحاديث ومقولات وسرديّات الانقسام والحرب والموت.
- إنّ الفاجعة لا تنتهي بالموت، الموت هو شكل من أشكالها، ولكنه أكثرها “حيوية” و”توالداً”، الموت “ينتجها” أيضاً. لا يموت مَن يموت وحسب، بل يؤسّس لموت آخر. والموت يجرّ الموت، والدم يجر الدم.
ثمّة نوع من محو الذكر والإبادة بالمعنى الحيوي والبيولوجي، وبالطبع بالمعنى الرمزي. وتدمير الأثر، وحتى تدمير المقابر وإزالة التسميات والرموز والألوان… إلخ، والمحو من الذاكرة الجمعية، وتعزيز صور ومدارك معينة في الذاكرة الجمعية. والدفع لتغيير الهوية الرمزية والبصرية.
لكن الفاجعة ليست معادلاً للموت، تحدث الأمور “بأثر رجعي”، كما يقول فقهاء القانون، على الأفراد والجماعات أن يعيدوا هندسة وتشكيل كل شيء كان في الماضي، ليتوافق مع اللحظة الراهنة. هذا أصعب أو أبعد من الموت، يحدث بشكل ذاتي وقهري في نوع من “الاستبطان” و”التمثّل” لما يريده الخصم أو يريده صاحب القوّة والسلطة.
ثمّة كارثة أو فاجعة لا تنتهي إلى الموت بالضرورة، كما سبقت الإشارة، بل إلى الاختلال في فهم ما يحدث في الواقع، والتشتّت والانقسام والصراع الداخلي في كيفية التعاطي معه. والتردّد حيال ما يجب القيام به. والأهم هو “التخلّي” عمّا كان من قيم ومدارك حول الأنا والآخر والوطن والعالم… إلخ، التي تغيّرت أو انقلبت معانيها بتغيّر أو انقلاب موازين القوّة في البلاد.
فقدان المعنى والقوّة، وعدم امتلاك شيء يمكن تقديمه للعالم، بالمعنى القيمي والحضاري. استنفد العرب كل خطاب ممكن حول إسهامهم في الحضارة العالمية. وانتهت مقولات “الرسالة الخالدة” (!) إلى انقسامية حادة وتطييف ومذهبة وعنف لا حدود له في المجال العربي، واندراج هامشي وذليل في نظام المعنى والقوة في العالم.
لا تقول شعوب وأمم الإقليم شيئاً للعالم. ليس ثمة سردية لديها يمكنها تقديمها إلى العالم. والصحيح أن ليس لديها ما تقوله لنفسها. كل الخطابات والسرديات تبدو كما لو أنها “منتهية الصلاحية”. ثمة سرديات لديها قابلية تلقٍّ كبيرة نسبياً، مثل السرديات الهووية: القبلية والطائفية والجهوية…، إلا أنها سرديات صدوع وانقسام وصراع، وقتل وقتال وموت، أكثر منها سرديات سلم وحياة وإنسانية وحضارة.
قد تجد بعضُ شعوب وأمم الإقليم نفسها خارج الفاجعة، ولا يقع عندها أو عليها شيء منها، لكن الخطر قريب، لا يترك أحداً، ولا يترك شيئاً، إن لم يطل الجميع مباشرة، فهو يطالهم بشكل غير مباشر. وفي ظل النفاذية العالية للحدود، والحركية والتفاعلية العالية بين الجماعات والمجتمعات والبلدان، لا منجاة من تأثير الفاجعة على الجميع.
الخلاصة:
تبدو الفاجعة أيضاً، كما لو أنها “شبح” يحوم فوق الجميع، من يعي ذلك ومن لا يعيه. هل يذكر ذلك بكلام ماركس وإنغلز في “المانيفستو” عن “الشبح” الذي يحوم فوق أوروبا؟
ربما، لكنه لا يشبهه بشيء! وتبدو الفاجعة، بالنسبة إلى الإقليم، كما لو أنها مصداق لقانون أو دينامية قاهرة و”غير عكوسة”، تقع على شعوب الإقليم أو تقع فيهم، وأحياناً ما تقع بأيديهم هم أنفسهم، بكثافة لا مثيل لها تقريباً، ولا أفق لتغيير ذلك، إلا أن يقدر اللهُ أمراً كان مفعولاً!