أخبار العالمالشرق الأوسطبحوث ودراسات

سوريا: سلطة فوق دستورية

لم تكن المراسيم الثلاثة التي صدرت عن الرئيس أحمد الشرع مجرد قرارات تنظيمية عابرة، بل كانت بمثابة إعلان رسمي عن انتقال مفاصل الاقتصاد السوري من يد الدولة إلى يد شبكة محددة، متماسكة، وذات تاريخ معروف في اقتصاد الحرب.

فإحداث “الهيئة العامة للمنافذ والجمارك” بمرسوم واحد، ومنحها استقلالاً مالياً وإدارياً وربطها مباشرة برئاسة الجمهورية، ثم إسناد صلاحيات الاستيراد والتصدير إلى لجنة يرأسها رئيس هذه الهيئة، يعني عملياً أن بوابات المال والتجارة والحدود باتت تحت مركز قرار واحد.

لم يعد هناك دور فعلي لوزارات المالية أو الاقتصاد أو الزراعة أو النقل؛ هذه المؤسسات تحوّلت إلى ديكور إداري، بينما القرار الحقيقي انتقل إلى مؤسسة فوق وزارية، لا تخضع لرقابة برلمانية ولا شفافية مالية ولا محاسبة عامة. المرسوم لم يبنِ هيئة، بل بنى سلطة.

لكن المعنى الأعمق يتجلى حين ننظر إلى الاسم الذي يدير اللعبة: قتيبة أحمد بدوي، المعروف سابقاً باسم “المغيرة” أو “أبو حمزة بنش”، أحد أبرز رجال اقتصاد المعابر خلال حقبة هيئة تحرير الشام.

الرجل الذي لم يكن يُعرَف في أي سياق اقتصادي رسمي، بل في سياق السيطرة على نقاط العبور، الرسوم، الجبايات، وإدارة واحد من أكثر ملفات اقتصاد الحرب حساسية وربحية. هذه ليست سيرة تكنوقراط، بل سيرة لاعب ميداني صعد نفوذه من بوابة المال غير الرسمي.

ويكفي أن نتذكر أن رواية متداولة عنه (موجودة مُسجلةً صوتياً) أثناء قتال الفصائل الثورية تحدثت عن إرسال سيارة مفخخة لنسف حواجز الثوار ولو سقط المدنيون، مع تعليق ساخر عن تحميل العملية لداعش.

حتى لو بقيت الرواية دون توثيق رسمي، فإنها تعبّر عن ذهنية ترى العنف أداة مباحة، والاختلاق الإعلامي وسيلة مشروعة، والغاية مبرراً للوسيلة ولكل شيء آخر. واليوم تنتقل هذه الذهنية إلى موقع دولة يحتكر القرار التجاري للبلاد بأكملها.

غير أن “قتيبة” ليس فرداً معزولاً، بل رأس شبكة عائلية صاعدة في اقتصاد المحاسيب الجديد. فإلى جانبه يقف شقيقه حذيفة بدوي، “أبو حفص بنش”، الذي كان قبل الثورة بائع عطورات محدود الدخل، ثم تحول خلال سنوات سيطرة هيئة تحرير الشام إلى شخصية أمنية واقتصادية نافذة، قبل أن يصبح من أصحاب الأملاك والعقارات في تركيا والمناطق المحررة سابقاً. هذه القفزة المادية ليست قصة نجاح أسرية، بل مرآة لنموذج اقتصاد الحرب الذي حوّل أشخاصاً عاديين إلى أمراء ثروة عبر السيطرة على الموارد والجباية والمعابر.

واليوم، بينما يتولى قتيبة بوابة الاقتصاد الخارجي، تشير المعطيات إلى أن شقيقه يشغل موقعاً متقدماً في منظومة الإمداد والتموين العسكري، ما يعني أن الأخوين يمسكان بجانبي الاقتصاد: المال المدني والمال العسكري. وحين يُنشأ في الدولة جهاز يحتكر الحدود، ويُعهد به لشخص يملك تاريخاً في إدارة المعابر، بينما يمسك شقيقه بجهاز الإمداد العسكري، فإننا أمام منظومة متكاملة لا مجرد تعيينات منفردة.

ثم يظهر الشقيق الثالث، الدكتور معد بدوي، الذي لم يُعرف خلال سنوات الحرب بصفة عسكرية أو سياسية، لكنه خرج فجأة كصاحب مولات ووكلات تجارية ضخمة، بشراكة مع محمد قره علي.

هذا الامتداد التجاري الخارجي يكمل الحلقة: رأس يدير المنافذ والبوابات الجمركية، شقيق يملك النفوذ الأمني والتجاري، وشقيق ثالث يتمدد في الخارج. إنها ليست صدفة عائلية، بل شبكة اقتصادية تأخذ شكل طبقة حاكمة جديدة تتغذى على موقع القرار وعلى تدفق البضائع ورؤوس الأموال.

وإذا كانت دولة ما بعد الحرب يفترض أن تُبنى على كفاءة مؤسسية، فإن ما يتشكل الآن هو بنية قائمة على الجماعة، القرابة، الارتباط، واقتصاد المحاسيب. والأخطر من ذلك أن المرسوم الثالث، الخاص باللجنة الوطنية للاستيراد والتصدير، أظهر أن حتى من يفترض أنهم ممثلو الوزارات ليسوا من خارج هذه الشبكة.

 فمعاون وزير الاقتصاد باسل عبد الحنان ومعاون وزير المالية محمد أبازيد، كلاهما من هيئة تحرير الشام. هذا يعني أن اللجنة التي تقرر ما يدخل إلى البلاد وما يخرج منها ليست مجرد أداة تنظيمية، بل غرفة قرار محاطة برجالات نفس التنظيم السابق الذي بنى نفوذه على اقتصاد المعابر. وبذلك لا يعود قتيبة مجرد رئيس هيئة، بل يصبح رئيس منظومة كاملة تتوزع داخلها الأدوار بين مقاعد الدولة ومقاعد الثروة.

ولا يمكن تجاهل الخلفية القريبة لهذه المراسيم، فقد وقع خلاف بين أبو حمزة بنش ووزير الاقتصاد نضال الشعار حول قرار منع استيراد بعض الخضروات. ورغم القرار الحكومي الرسمي بالمنع لدعم الإنتاج المحلي، دخلت الشحنات عبر المنافذ رغماً عن الوزارة، ما تسبب بخسائر بمليارات الليرات لمزارعي وتجار درعا. لم يُحاسَب المسؤول عن كسر القرار، بل تمت مكافأته بترقية إلى رأس الهيئة الجديدة بمرتبة وزير. الرسالة واضحة: هيئة تحرير الشام هي هيئة فوق دستورية تقود الدولة والمجتمع والاقتصاد.

المراسيم الثلاثة لم تُنقذ الدولة من اقتصاد الحرب، بل نقلت اقتصاد الحرب إلى الدولة. لم تفكك شبكات المعابر، بل شرعنتها. لم تنشئ هيئة تنظيمية، بل منحت سلطة شبه مطلقة لشبكة يعرف الجميع تاريخها ومسار ثروتها.

السؤال لم يعد: كيف ستدار الدولة؟ بل: لمن أصبحت الدولة؟ هل نحن أمام مشروع تعافٍ اقتصادي، أم أمام ولادة طبقة أوليغارشية جديدة، تستكمل مشروعها بأختام رسمية؟

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق