“الديمقراطية على المحك: كيف تتحدى الأزمات الأمن القومي وتعيد رسم الأولويات”

13/01/2025
إعداد صبرين العجرودي
أثارت قضية الأمن القومي والديمقراطية العديد من البحوث والدراسات المتعلقة بالكثير من الأبعاد، خاصّة منها جانب العلاقة بين هذين المفهومين في ظلّ الأزمات التي شهدتها العديد من البلدان، والإشكالية القائمة حول ما إذا كانت الديمقراطية فعلاً الطريق نحو الأمن القومي وتعزيز استراتيجياته، أم أنّ هناك إمكانية لتصادم بين أمن الدولة وأنظمتها الديمقراطية أوقات الأزمات والحاجة إلى تجاوز ركائز هذا النظام لصالح الأمن القومي إذا ما تعرّض إلى تهديد.
فيما تتمثّل العلاقة بين الأمن القومي والديمقراطية، خاصّة في أوقات الأزمات؟
هل تشهد العلاقة بين الديمقراطية والأمن القومي بعض التصادمات في أوقات الأزمات، أم أنّ العلاقة بينهما دائمة التصادم؟ وكيف يمكن أن يتجلّى هذا التصادم؟
هل يمكن أن تقف مبادئ الديمقراطية كعائق أمام نجاح سياسات الأمن القومي؟
ما هو الأمن القومي؟
لم تحظَ علاقة الأمن القومي والديمقراطية بالاهتمام الدولي إلاّ في عقد السبعينات من القرن العشرين، بالتوازي مع الفترة التي شهدت فيها الدول النامية تحوّلاً جوهريًا في أنظمتها بالانتقال من الأنظمة التي تمّ تعريفها على أنّها سلطوية مرورًا إلى الأنظمة الديمقراطية.
ظهر مصطلح الأمن القومي بالتوازي مع ظروف عالمية وسياسية تمثّلت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك على إثر تشكّل توازنات عالمية وقوى دولية وتحالفات جديدة، إلى جانب تنامي التهديدات المحدقة بأمن الدول وانتشار الأسلحة بشكل كبير وتطورها.
جاء الاهتمام بالأمن القومي لكونه محدّدًا للسياسات الخارجية للدول، ويجدر القول أنّ هذا المفهوم يعود للقرن السابع عشر، لكن الاهتمام به جاء مصحوبًا مع دخول العالم في حروب غيرت المشهد الدولي، وتحديدًا بعد الحرب الباردة، فتمّ الاتجاه نحو صياغة مقاربات نظرية لبلورة ما يُطلق عليه “استراتيجيات الأمن القومي” التي تمحورت حول مفاهيم ومصطلحات جديدة من قبيل التعايش السلمي والردع، حتى لا يعود العالم إلى النصف الأول من القرن العشرين، حيث شهدت الدول موجة من الحروب المدمّرة.
وبذلك ظهرت موجة جديدة من المؤسسات المهتمة بمفهوم الأمن القومي في شكل معاهد علمية ومراكز بحوث وجامعات ومؤسسات متخصصة في القرار السياسي، ومثال على ذلك مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية الذي شكّل أول مؤسسة مهتمة بهذا المفهوم. في هذا الإطار تناول المجلس تعريف الكاتب الأمريكي والتر ليبمان (Walter Lippman) لمفهوم الأمن القومي، وهو: “قدرة الدولة على تحقيق أمنها بحيث لا تضطر إلى التضحية بمصالحها المشروعة لتفادي الحرب، والقدرة على حماية تلك المصالح إذا ما اضطرت عن طريق الحرب”.
وقد أشار العلماء والخبراء في المجال الأمني والسياسي إلى أنّ هذا المفهوم، شأنه شأن بقية المفاهيم، لا يمكن حصره بتعريف ثابت في كل زمان ومكان. فالأمن القومي في دولة ما وفي فترة زمنية ما يختلف أبعاده عن الأمن القومي في دولة أخرى وفي فترة زمنية أخرى، أي أنّه مصطلح غير قابل للتعريف خارج الإطار المكاني والزمني الذي يتحرك ضمنه، فهو يؤثر فيه ويتأثر به جرّاء جملة من المتغيرات والعوامل المختلفة.
يشير المعنى التقليدي للأمن القومي إلى الدفاع من أي هجوم عسكري مصدره خارجي، وبالتالي تتشكّل استراتيجيات الدفاع عن الأمن القومي لأي دولة من القدرات العسكرية، وقد تبيّن فيما بعد أنّ هذا المعنى ضيق ولا يعبّر عن مفهوم الأمن القومي متعدد العناصر، ذلك لأنّ الدول إذا ما اعتمدت عمليًا على هذا المعنى، فإنها ستعزّز من معداتها العسكرية ضمانًا لأمنها، لكنها في الحقيقة لن تتوصّل إلى ذلك لأن الجانب العسكري يشكّل فقط جزءًا من مفهوم الأمن القومي متعدد الأبعاد الذي يشمل الجانب العسكري وغير العسكري، الداخلي والخارجي.
عرّف تريجر كيرنبرغ (Triger Kernberg) الأمن القومي بأنه: “ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية.”
أما بالنسبة إلى هنري كيسنجر (Henry Kissinger)، فيعرّفه على أنّه: “تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء.”
فيما تتمثّل أهمية الامن القومي؟
يُعتبر الأمن القومي ظاهرة مركّبة ومفهومًا متشابكًا وغير منعزل عن العنصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها من العناصر الأخرى المنصهرة داخل الدولة والمؤسسة لوجودها. وقد تزايد الاهتمام به لعدة أسباب وفقًا لما أشار إليه الباحثون، كالسّعي لضمان الاستقرار وتوفّر الموارد التي تسمح باستمرار الدولة، ازدياد موجات العنف والحروب الدامية التي لها آثار على المدى الطويل، تنامي الخوف لدى بعض الدول الصّغرى من التهديدات المحتملة التي قد تفرضها القوى الدولية الكبرى عليها جرّاء ارتفاع نسبة التداين، وكذلك التّخوف من سوء توظيف المنظمات الدولية على غرار الأمم المتحدة لصالح هذه القوى مقابل الضغط على الدول الأخرى. تزايد القلق لدى هذه الدول أدّى إلى الاهتمام بالأمن القومي من جهة البحث عن استراتيجيات ناجعة لضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتخلص من التبعية التي تهدّد أمنها.
أمّا الديمقراطية فقد عرّفها الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية، أبراهام لينكون (Abraham Lincoln)، بأنّها: “حكم الشعب، من قبل الشعب، ومن أجل الشعب”.
وعرّفها العالم الأمريكي في الاقتصاد والعلوم السياسية، شومبيتر (Joseph Schumpeter)، بأنّها: “التدابير المؤسسية التي تتخذ من أجل الوصول إلى القرارات السياسية التي يكتسب من خلالها الأفراد سلطة اتخاذ القرار عن طريق التنافس على الأصوات”. وبالتالي، يمكن التوصل إلى أنّ خصائص الديمقراطية وسماتها تركّز على مكانة الفرد داخل الدولة، حيث له حرية اختيار من يحكمه ويساهم بقدر فعّال في صنع القرار السياسي. لكن، هل يمكن أن تستمر هذه الوظيفة أو المكانة التي يتسم بها الأفراد داخل المجتمعات الديمقراطية إذا ما واجه الأمن القومي تهديدات؟
التضارب بين الأمن القومي والديمقراطية
فيما يتعلّق بالعلاقة القائمة بين مفهومي الديمقراطية والأمن القومي، تختلف الرؤى والنظريات المحلّلة لهذه العلاقة. فهناك من يرى أنّهما يتكاملان، بمعنى أنّه لا يمكن تحقيق الأمن القومي بمفهومه الشامل داخل دولة ما دون ديمقراطية، ولا يمكن أن يكون هناك نظام ديمقراطي في دولة ينعدم فيها الأمن والاستقرار (الديمقراطية تعزز الأمن القومي).
في حين يرى آخرون أنّ هناك خصائص للأمن القومي غير متوافقة مع خصائص الديمقراطية، خاصة في وقت الأزمات، عندما تأتي الحاجة لوضع أمن الدولة كأولوية على الديمقراطية التي لا تُعتبر دائمًا مخرجًا للاستقرار.
هناك صعوبة في التوصل إلى توافق بين أسس الديمقراطية المتجلّية في سلطة القانون والتشريعات المصوّت عليها، وبين القرارات الاستثنائية المتخذة لتأمين الأمن القومي للدولة، وذلك لأنّ الإجراءات الاستثنائية الصادرة عن السلطة التنفيذية ليست مطلقة، وهي خاضعة لرقابة السلطة التشريعية والقضائية التي لها القدرة على الرفض.
لماذا يعتقد البعض بفكرة التناقض بين الأمن القومي والديمقراطية؟
يعتبر بعض الدارسين أنّ التناقض بين المفهومين أمر بديهي للغاية، مدام هناك اختلاف وتعارض في جوهريهما. الديمقراطية في طبيعتها نشأت من أجل الفرد وضمان كرامته وحقوقه ومشاركته في اتخاذ القرار، بينما الأمن القومي يتمحور حول الدولة التي تُعتبر الأوسع شمولًا. بالتالي، فإنّ التصادم أمر بديهي في بعض الأزمات بين الأمن القومي الذي يمثل الدولة، والديمقراطية المتمحورة حول الفرد. ويعتبر أمن الدولة، الذي يشكّل أمن الأفراد وسلامتهم، ذا أولوية أكبر من الديمقراطية والحقوق والمساواة. لذلك، أوقات الأزمات لا يهتم الحكام بمبادئ الديمقراطية إذا ما كان الأمن القومي للدولة على حافة الهاوية. دولة غير مستقرة وآمنة لا يمكن أن تستمر داخلها العملية الديمقراطية أو أن تنجح من الأساس، وذلك هو المنطق بالنسبة للقائلين بأولوية الأمن القومي على الديمقراطية وتعارض مبادئهما.
وقد أُشير في هذا السياق إلى أنّ حتى البلدان المعروفة بأنظمتها الديمقراطية الصلبة لا تهتم في أوقات الأزمات بحريات الأفراد بقدر الاهتمام بالأمن القومي، وأبسط مثال على ذلك القوانين الصارمة التي تعاقب مخالفي حظر التجوال في الجائحة العالمية.
فكرة التكامل بين الأمن القومي والديمقراطية لماذا قد يعتبرها البعض مسلّمًا بها؟
على العكس من الفكرة السابقة، يرى بعض الباحثين أنّ الأمن القومي ضروري لقيام نظام ديمقراطي صلب، والأخير وسيلة لتعزيز الأمن القومي، وذلك من خلال مبادئه الضامنة للتداول على السلطة، ومبدأ المساواة بين كل الحركات السياسية والتيارات الفكرية، واحترام الدستور والقانون، وحماية الحقوق والحريات. يُعتقد أنّ هذا الطريق يحقق الاستقرار والأمن حتى خلال الأزمات.
لكن، ماذا إذا تخالفت مبادئ الديمقراطية مع الأمن القومي؟ هل يمكن القول في هذه الحالة بالتكامل المزعوم بين المفهومين؟
إذا ما تطرقنا إلى مثال البلدان العربية، يمكن فقط تأييد فكرة التصادم بين الديمقراطية والأمن القومي، ذلك لأنّ الكثير من البلدان بعد الثورات التي شهدتها أثبتت من ناحية العلاقة التنافر بين المفهومين، التي فرضتها العديد من الأزمات. فقد اضطرت العديد من الدول العربية إلى فرض قيود على مجتمعاتها وتقييد حرياتها (التي قد يبدو بعضها مزعومًا) مقابل الحفاظ على الأمن القومي، خصوصًا مع فشل الأنظمة الديمقراطية المرتكزة على الأحزاب السياسية. والحقيقة أنّ هذا الفشل الذريع نابع بصورة رئيسية من طبيعة هذه الأحزاب وأهدافها المبنية على تحقيق المصالح الخاصة وليس العامة، وبذلك فقد ساهمت بدرجة كبيرة في تفاقم الوضع الأمني واهتزازه. سارع ذلك إلى تجاوز هذا النوع من الديمقراطيات المزيفة سعياً لتكريس الاستقرار الدولي. ومع تواصل انعدام وجود نموذج ديمقراطي واقعي، فإن فكرة التعارض بين الديمقراطية المتداولة والأمن القومي لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال.


