تصادم الامن القومي والديمقراطية
اعداد صبرين العجرودي: قسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية
أثارت قضية الامن القومي والدّيمقراطية عديد البحوث والدراسات المتعلّقة بالكثير من الأبعاد، خاصّة منها جانب العلاقة بين هاذين المفهومين في ظلّ الازمات التي شهدتها عديد البلدان والاشكالية القائمة بين إذا ما كانت الديمقراطية فعلا هي الطريق نحو الامن القومي وتعزيز استراتيجياته، وبين إمكانية وجود تصادم بين أمن الدول وأنظمتها الدّيمقراطيةأوقات الازمات والحاجة الى تجاوز ركائز هذا النّظام لصالح الامن القومي إذا ما تعرّض الى تهديد.
فيما تتمثّل العلاقة بين الامن القومي والديمقراطية ؟ خاصّة في أوقات الازمات؟
هل تشهد العلاقة بين الديمقراطية والامن القومي بعض التصادمات في أوقات الازمات ؟ أو أنّ العلاقة بينهما دائمة التصادم؟ وكيف يمكن أن يتجلّى هذا التصادم ؟
هل يمكن أن تقف مبادئ الديمقراطية كعائق أمام نجاح سياسات الامن القومي ؟
ما هو الامن القومي؟
لم تحظى علاقة الامن القومي والديمقراطية بالاهتمام الدولي الاّ في عقد السبعينات من القرن العشرين، بالتوازي مع الفترة التي شهدت فيها الدول النامية تحولا جوهريا في أنظمتها بالانتقال من الانظمة التي تمّ تعريفها على أنّها سلطوية مرورا الى الانظمة الديمقراطية.
ظهر مصطلح الامن القومي بالتوازي مع ظروف عالمية وسياسية، تمثّلت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ذلك على إثر تشكّل توازنات عالمية وقوى دولية وتحالفات جديدة، الى جانب تنامي التهديدات المحدقة بأمن الدول وانتشار الاسلحة بشكل كبير وتطورها.
جاء الاهتمام بالأمن القوميلكونه محدّدا للسياسات الخارجية للدول،ويجدر القول أنّ هذا المفهوم يعود للقرن السابع عشر، لكن الاهتمام به جاء مصحوبا مع دخول العالم في حروب غيرت المشهد الدولي، وتحديدا بعد الحرب الباردة، فتمّ الاتجاه نحو صياغة مقاربات نظرية لبلورة ما يطلق عليه “استراتيجيات الامن القومي” التي تمحورت حول مفاهيم ومصطلحات جديدة من قبيل التعايش السلمي والردع حتى لا يعود العالم الى النصف الاول من القرن العشرين متى شهدت الدّول موجة من الحروب المدمّرة.
وبذلك ظهرت موجة جديدة من المؤسسات المهتمة بمفهوم الامن القومي في شكل معاهد علمية ومراكز بحوث وجامعات ومؤسسات متخصصة في القرار السياسي، ومثال على ذلك مجلس الامن القومي في الولايات المتحدة الامريكية الذي شكّل أول مؤسسة مهتمة بهذا المفهوم، في هذا الاطار تناول المجلس تعريف الكاتب الامريكي “والتر ليبمان” (Walter Lippman) لمفهوم الامن القومي وهو “قدرة الدولة على تحقيق أمنها بحيث لا تضطر إلى التضحية بمصالحها المشروعة لتفادي الحرب، والقدرة على حماية تلك المصالح إذا ما اضطرت عن طريق الحرب”.
وقد أشار العلماء والخبراء في المجال الامني والسياسي الى أنّ هذا المفهوم شأنه شأن بقية المفاهيم لا يمكن حصره بتعريف ثابت في كلّ زمان ومكان، فالأمن القومي في دولة ما وفي فترة زمنية ما تختلف أبعاده عن الامن القومي في دولة اخرى وفي فترة زمنية اخرى، أي أنّه مصطلح غير قابل للتعريف خارج الاطار المكاني والزماني الذي يتحرك ضمنه، فهو يؤثر فيه ويتأثر به جرّاء جملة من المتغيرات والعوامل المختلفة.
يشير المعنى التقليدي للأمن القومي الى الدّفاع من أي هجوم عسكري مصدره خارجي، وبالتالي تتشكّل استراتيجيات الدفاع عن الامن القومي لأي دولة من القدرات العسكرية ، وقد تمّ التوصل فيما بعد الى أنّ هذا المعنى ضيق ولا يعبّر عن مفهوم الامن القومي متعدد العناصر، ذلك لانّ الدّول اذا ما اعتمدت عمليا على هذا المعنى فإنها ستعزّز من معداتها العسكرية ضمانا لأمنها، لكنّها في الحقيقة لن تتوصّل الى ذلك لأن الجانب العسكري لايشكّل إلاّ جزءا من مفهوم الامن القومي متعدد الابعاد الذي يشمل منها الجانب العسكري والغير عسكري، الدّاخلي والخارجي.
عرّف “تريجركرننبرج” (TrigerKernberg)الامن القومي بأنه “ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية”
أمّا بالنسبة لـ “هنري كيسنجر”(Henry Kissinger) فيعرّفه على أنّه “تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء”.
فيما تتمثّل أهمية الامن القومي؟
يعتبر الامن القومي ظاهرة مركّبة ومفهوما متشابكا وغير منعزل عن العنصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها من العناصر الاخرى المنصهرة داخل الدولة والمؤسسة لوجودها، وقد تزايد الاهتمام به لعدة أسباب وفقا لما أشار اليه الباحثون، كالسّعي لضمان الاستقرار وتوفّر الموارد التي تسمح باستمرار الدّولة، ازدياد موجات العنف والحروب الدامية التي لها أثار على المدى الطويل، تنامي الخوف لدى بعض الدول الصّغرى من التهديدات المحتملة التي يمكن ان تفرضها القوى الدولية الكبرى عليها جرّاء ارتفاع نسبة التداين وكذلك التّخوف من سوء توظيف المنظمات الدولية على غرار الامم المتحدة لصالح هذه القوىمقابل الضغط على الدول الاخرى، تزايد القلق لدى هذه الدول أدّى الى الاهتمام بالأمن القومي من جهة البحث عن استراتيجيات ناجعة لضمان الاستقرار السياسي ولاقتصادي والاجتماعي للتخلص من التبعية التي تهدّد أمنها..
أمّا الديمقراطية فقد عرَّفها الرئيس 16 عشر للولايات المتحدة الامريكية “أبراهام لينكون”( Abraham Lincoln) بأنّها “حكم الشعب، من قبل الشعب، ومن أجل الشعب”.
عرفها العالم الامريكي في الاقتصاد والعلوم السياسيةشومبيتر(Joseph Schumpeter)”التدابير المؤسسية التي تتخذ من أجل الوصول الى القرارات السياسية التي يكتسب من خلالها الافراد سلطة اتخاذ القرار عن طريق التنافس على الاصوات”، وبالتالي يمكن التوصل الى أنّ خصائص الديمقراطية وسماتها تركّز على مكانة الفرد داخل الدولة من حيث أنّ له حرية اختيار من يحكمه ويساهم بقدر فعّال في صنع القرار السياسي، لكن هل يمكن أن تستمر هذه الوظيفة أو المكانة التي يتسم بها الافراد داخل المجتمعات الديمقراطية إذا ما واجه الامن القومي تهديدات؟
التضارب بين الامن القومي والديمقراطية
فيما يتعلّق بالعلاقة القائمة بين مفهومي الديمقراطية والامن القومي، تختلف الرؤى والنظريات المحلّلة لهذه العلاقة، فهناك من يرى أنّهما يتكاملان فيما بينهما، بمعنى أنّه لا يمكن تحقيق الامن القومي بمفهومه الشامل داخل دولة ما دون ديمقراطية، ولا يمكن أن يكون هناك نظام ديمقراطي في دولة ينعدم فيها الامن والاستقرار (الديمقراطية تؤدي لتعزيز الأمن القومي).
في حين أنّ هناك من يرى بأنّ هناك خصائص للأمن القومي غيرر متوافقة مع خصائص الديمقراطية خاصة في وقت الازمات عندما تأتي الحاجة لوضع أمن الدول كأولوية على الديمقراطية التّي لا تعتبر دائما مخرجا للاستقرار.
هناك صعوبة في التوصل الى توافق بين اسس الديمقراطية المتجلي في سلطة القانون والتشريعات المصوّت عليها وبين القرارات الاستثنائية المتخذة لتأمين الامن القومي للدولة، ذلك لانّ الاجراءات الاستثنائية الصادرة من السلطة التنفيذية ليست مطلقة وهي خاضعة لرقابة السلطة التشريعية والقضائية التي لها القدرة على الرفض.
لماذا يعتقد البعض بفكرة التناقض بين الامن القومي والديمقراطية ؟
يعتبر بعض الدارسين لموضوع العلاقة بين الديمقراطية والامن القومي أنّ التناقض بين المفهومين أمر بديهي للغاية مدام هناك اختلاف وتعارض في جوهريهما، والمقصود بذلك أنّ الديمقراطية في طبيعتها نشأت من اجل الفرد وضمان كرامته وحقوقه ومشاركته في اتخاذ القرار وغيرها من الصفات التي توليه قيمته داخل الدولة، بينما الامن القومي يتمحور حول الدولة التّي تعتبر الاكثر شمولا، بالتالي فإنّ التصادم أمر بديهي في بعض الازمات بين الامن القومي الذي يمثل الدولة والديمقراطية المتمحورة حول الفرد، ويعتبر أمن الدولة الذي يشكّل أمن الافراد وسلامتهم ذو أولوية أبرز وأهم من الديمقراطية والحقوق والمساواة (لا تؤدي للأمن)، لذلك أوقات الازمات لا يهتم الحكام بمبادئ الديمقراطية إذا ما كان الامن القومي للدولة على حافة الهاوية، فدولة غير مستقرة وآمنة لا يمكن ان تستمر داخلها العملية الديمقراطية أو أن تنجح من الاساس، وذلك هو المنطق بالنسبة للقائلين بأولوية الامن القومي على الديمقراطية وتعارض مبادئهما.
وتمّ الاشارة في هذا السياق الى أنّ حتى البلدان المعروفة بأنظمتها الديمقراطية الصلبة لا تهتم في أوقات الازمات بحريات الافراد بقدر الاهتمام بالأمن القومي، وابسط مثال على ذلك القوانين الصارمة التي تعاقب مخالفي حضر التجوال في الجائحة العالمية.
فكرة التكامل بين الامن القومي والديمقراطية لماذا قد يعتبرها البعض مسلمّة ؟
على عكس الفكرة السابقة، يرى بعض الباحثين أنّ الامن القومي ضروري لقيام نظام ديمقراطي صلب، والاخير هو وسيلة لتعزيز الامن القومي، وذلك من خلال مبادئه الضامنة للتداول على السلطة ومبدأ المساواة بين كل الحركات السياسية والتيارات الفكرية ، احترام الدستور والقانون، حماية الحقوق والحريات.. ذلك يُعتقد بأنه طريق للاستقرار والامن حتى خلال الازمات.
لكن ماذا إذا تخالفت مبادئ الديمقراطية مع الامن القومي، هل يمكن القول في هذه الحالة بالتكامل المزعوم بين المفهومين ؟
إذا ما تطرقنا الى مثال البلدان العربية، يمكن فقط تأييد فكرة التصادم بين الديمقراطية والامن القومي، ذلك لأنّ الكثير من البلدان بعد الثورات التي شهدتها أثبتت من ناحية علاقة التنافر بين المفهومين التي فرضتها عديد الازمات، فقد اضطرت العديد من الدول العربية الى فرض قيود على مجتمعاتها وتقييد حرياتها (التي قد يبدو بعضها مزعوما) مقابل الحفاظ على الامن القومي خصوصا مع فشل الانظمة الديمقراطية المرتكزة على الاحزاب السياسية، والحقيقة أنّ هذا الفشل الذريع نابع بصفة رئيسية من طبيعة هذه الاحزاب واهدافها المبنية على تحقيق المصالح الخاصة وليست العامة، وبذلك فقد ساهمت بدرجة كبيرة في تفاقم الوضع الامني واهتزازه، سارع ذلك الى تجاوز هذا النوع من الديمقراطيات المزيفة سعيا لتكريس الاستقرار الدولي، فمع تواصل انعدام وجود نموذج ديمقراطي واقعي، فإن فكرة التعارض بين الديمقراطية المتداولة والامن القومي لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الاشكال.