بعد تصريحات ترمب: هل المواجهة بين روسيا والناتو حتمية؟

إعداد الدكتور سعد خلف: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 26-09-2025
تعكس أحداث الأسبوعين الأخيرين تصعيدًا واضحًا في لغة الخطابين السياسي والعسكري بين موسكو وحلف الناتو؛ فتصريحات ترمب الأخيرة والتصريحات الأوروبية والناتوية التي سبقتها بدت أكثر صرامة، بيد أن روسيا لا تزال تحافظ على خطاب الإنكار والتشكيك في الروايات الغربية.
هذا المشهد يطرح بدوره علينا -نحن المراقبين- سؤالًا مركزيًّا:
هل تقترب أوروبا فعلًا من مواجهة مسلحة مباشرة بين روسيا والناتو؟ أم أن القراءة الموضوعية تقول إن الأمر ما زال في حدود إدارة الأزمة؟
شدد ترمب، في الأمم المتحدة، الثلاثاء 23 سبتمبر على ضرورة أن تبادر دول الناتو إلى إسقاط أي طائرة روسية تنتهك مجالها الجوي. تصريح جديد بالطبع من الرئيس الأمريكي، لكنه يتسق مع أسلوبه، وقد يبدو التصريح وكأنه إعلان “خط أحمر” جديد، لكنه عمليًّا لا يضيف جديدًا في الواقع، والسبب طبعًا أنه لا يمكن أن يضيف شيئًا إلى حق سيادي قائم بالفعل لكل دولة، وفقًا للقانون الدولي؛ لذلك فالجديد في تصريح ترمب هو أسلوب إصدار هذا التصريح الذي بدا استعراضيًّا وكأنه يجهر علنًا بتوجيه تعليمات لدول الناتو، وبهذا يبدو تصريح ترمب -من وجهة نظري- رسالة ردع أكثر من كونها إجراءً عسكريًّا واقعيًّا سيحدث.
هذا التغير الخطابي، يقرؤه الكرملين وبوتين، والخبراء في موسكو -من واقع ما تابعته من ردود فعل روسية، رسمية وتحليلية غير رسمية حتى الآن- على أنه سعي ترمباوي أمريكي لرفع عتبة المخاطرة، واختبار حدود رد الفعل الروسي الممكن عن طريق تكثيف “الاحتكاكات الهوائية” على أطراف المجال الجوي، مع استمرار الكرملين في نفي أي خروقات من جانبه، ويصر على أن الأمر هو مجرد حملة سياسية غربية تصعيدية جديدة.
الولايات المتحدة وحلفاؤها -على لسان ترمب وروته وسفير الولايات المتحدة لدى الناتو، وغيرهم- كرروا خلال الأيام الأخيرة التزامهم بالدفاع عن “كل شبر” من أراضي الناتو. وهذه التصريحات -في رأيي- ليست دعوة إلى حرب شاملة، فهم بالتأكيد ليسوا مستعدين لها الآن على الأقل، ولا يرغبون في تحمل مسؤوليتها؛ بل كل ما في الأمر تأكيد للإرادة السياسية أمام شعوب بلدان الحلف لطمأنتها في ظل الشحن والتخويف الإعلامي الغربي من “البعبع” الروسي.
إذا تناولنا هذه التصريحات من الناحية العملية، سنرى أنها عمليًّا يمكن ترجمتها، من واقع صيغتها، في شكل خطوات متدرجة، تبدأ مثلًا بمشاورات وفق المادة الرابعة من ميثاق الحلف، ثم تعزيز الدفاع الجوي والصاروخي، خصوصًا في الجناح الشرقي، وفي ختام المطاف، ربما يلجؤون إلى استدعاء المادة الخامسة، التي تتطلب إجراءات روتينية، ولا تفعل تلقائيًّا، وذلك إذا وصلت التهديدات إلى مستوى أكبر.
وموسكو تدرك جيدًا -في رأيي- أن الناتو لا يسعى في اللحظة الحالية إلى تحويل كل حادثة إلى ذريعة أو سبب حرب، لكنها تفهم أيضًا أن الحلف يرفض التساهل مع الانتهاكات المتكررة.
وبعد حوادث الدنمارك، التي علقنا عليها قبل ذلك، وقبلها إستونيا، وقبلهما بولندا، ولجوء تالين إلى المادة الرابعة، ودعوتها إلى عقد مشاورات على مستوى سفراء الحلف (عُقدت بالفعل في 23 سبتمبر وهو ما قد يعكس جدية القلق، من الممكن أن يحدث نوع من التصعيد، لكن مع ذلك علينا ألا ننسى دروس التاريخ القريب؛ فتركيا، الدولة العضو القوي في الناتو، أسقطت مقاتلة سو- 24 الروسية عام 2015 في سوريا، ولم تؤدِّ هذه الحادثة إلى حرب مباشرة حينذاك، لكنها قادت إلى مواجهة سياسية واقتصادية حادة طبعًا، ثم تم احتواء المسألة تدريجيًّا.
الوضع الحالي -من واقع متابعتي الخاصة التي لا أسعى إلى فرضها كحقيقة- يرجح سيناريو مشابهًا. ما أقصده أن حلف الناتو -على خلفية مخاوف واتهامات دول جناحه الشرقي لروسيا باختراق أجوائها- سيعزز دفاعات البلطيق وبولندا، وسيكثف الطلعات الجوية المشتركة، في محاولة لإعادة ضبط قواعد الاشتباك، لكن مع إبقاء هذه الحوادث، وشبيهاتها التي ستحدث، في إطار سياسي ودبلوماسي يمكن للأطراف التحكم فيه.
والمنطق الروسي، الذي أفهمه في مثل هذه المواقف، هو تجنب الاعتراف بانتهاكات “صافية”، أي مقصودة، وترك المساحة دائمًا للإنكار، في حين يصر الناتو على تسجيل كل واقعة، ورفع كلفتها المحتملة.
وإذا انتقلنا إلى مسرح العمليات في أوكرانيا لنزنها بميزان القتال الفعلي، فسنرى على صعيد النيران أن روسيا كثفت خلال الفترة الأخيرة هجماتها بالصورايخ الدقيقة والمسيرات الكثيرة ضد العمق الأوكراني.
كييف هي أيضًا لا تتوانى عن استهداف البنية التحتية للطاقة الروسية بهجمات بعيدة المدى، ما يجعل الصراع الآن وكأنه يبدو متبادلًا على ضرب “اقتصاد الحرب” للطرفين، وتحوله إلى جزءٍ ثابت من المشهد العسكري اليومي.
أما على صعيد القتال المباشر على الأرض، فالواقع يقول لنا إن الجيش الروسي مستمر في التفوق النسبي الذي يحققه على مدى أشهر، خصوصًا في جبهة دونيتسك باتجاه محور بوكروفسك، إضافة إلى محوري كوبيانسك ونوفوبافوفسك.
نعم، التقدم الميداني يظل محدودًا جغرافيًّا، لكنه يراكم مكاسب تدريجية لصالح موسكو. وأنا أفهم سبب البطء الروسي في أن بوتين لا يرغب في أن يواجه معضلة سقوط أعداد كبيرة من الجنود قتلى، فالوضع الديمغرافي الحالي في روسيا لا يعطيه هذه الرفاهية، فضلًا عن أنه لا يتصرف بعقلية القادة السوفيت، الذين لم يكن يعنيهم كثيرًا أعداد القتلى مقابل تحقيق النصر؛ فمقاربة بوتين مختلفة.
في مقابل التقدم الروسي تحاول أوكرانيا تحقيق اختراقات، لكنها تظل تكتيكية وصغيرة، والصورة العامة، بقراءة موضوعية من التقارير الروسية والأوكرانية الغربية، لا تشير إلى تغير جذري، أو إمكانية حدوث تغير جذري في ميزان القوى على الأرض.
ومن هذا المنطق يبقى تصريح ترمب أمام زيلينسكي بأن أوكرانيا قادرة على استعادة كل الأراضي التي سيطرت عليها روسيا، ومنها القرم -هكذا يُفهم من سياق كلامه- يبقى غريبًا، بل مريبًا لأي متابع موضوعي، فالتقارير المستقلة توثق زيادة صافية في الأراضي الخاضعة للسيطرة الروسية خلال الشهر الماضي، فضلًا عن تحقيقها مزيدًا من السيطرة خلال هذه الأيام، وهذا -بلا شك- يعكس امتلاك موسكو زمام المبادرة، وإن كان ذلك -وأتحدث هنا بموضوعية بحتة- من دون قدرة على إنجاز اختراق عملياتي واسع خلال هذه الفترة.
إجمالًا أقول إن المواجهة المسلحة المباشرة بين روسيا والناتو ليست حتمية، على الأقل من واقع معطيات التحليل اليوم، لكن من الواضح كذلك أن “الممر الآمن” يضيق يومًا بعد يوم؛ فالخطاب يصبح أشد خشونة، والتكتيك أكثر توترًا.
ما أفهمه هو أن المعادلة الجوهرية لا تزال ثابتة؛ فالقوى الكبرى -دعك من البلطيق وأوكرانيا- تدير صراع ضغط متبادل، وهي حريصة على تجنب الانزلاق إلى مواجهة مباشرة تفهم جيدًا أن كلفتها لا يمكن رسمها بدقة؛ لذلك سوف تستمر حرب أوكرانيا كحرب استنزاف، وسيستمر حدوث تقدم روسي -وإن بالتدريج- على الأرض، وسوف تستمر الضربات المتبادلة على البنى التحتية المهمة للطاقة في المقام الأول، فيما لا تملك أي من الجبهتين -حتى الآن- القدرة على قلب هذا التوازن.