أخبار العالمبحوث ودراسات

الصور الإعلامية للإبادة الجماعية: كيف يساهم الإعلام الغربي في تشكيل الوعي العالمي؟

في العصر الحديث، أصبح الإعلام الغربي أحد القوى الفاعلة في تشكيل الرأي العام وصياغة الوعي الجماعي على مستوى عالمي. يلعب الإعلام دورًا مركزيًا في تحديد ما هو “أخلاقي” و”غير أخلاقي”، في كيفية فهم الأحداث الكبرى، ومنها الإبادة الجماعية. لكن، إذا تم تحليل كيفية تعامل الإعلام الغربي مع قضايا الإبادة الجماعية عبر التاريخ، يمكن ملاحظة نمطًا معينًا من “المأسسة”، حيث يتخذ الإعلام أدوارًا تتراوح بين عرض الحقائق وتقديم التفسير، إلى فرض الروايات التي تسهم في إعادة بناء التصورات العامة عن هذه الفظائع.

كيف يساهم الإعلام الغربي في مأسسة الإبادة الجماعية داخل المجال العام؟
ما هي الأطر النظرية التي يعتمد عليها الإعلام الغربي في صياغة ظواهر الإبادة الجماعية التاريخية؟
كيف يؤثر الإعلام الغربي على الذاكرة الجماعية للأحداث المتعلقة بالإبادة الجماعية؟
ما هو تأثير الإعلام الغربي على مفهوم العدالة الدولية في سياق الإبادة الجماعية؟

مفهوم “الإبادة الجماعية” والمأسسة الإعلامية

الإبادة الجماعية، بحسب تعريف الأمم المتحدة، هي “الأفعال التي ترتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية معينة، سواء عن طريق القتل، أو التسبب في أذى بدني أو عقلي خطير، أو تدمير شروط الحياة التي تضمن بقاء هذه الجماعة”. ومع ذلك، فإن الإعلام الغربي قد لا يعرض دائمًا هذا المفهوم بشكل دقيق أو شامل. قد يقتصر التغطية على إبراز بعض الجوانب الدرامية لأحداث الإبادة، متجاهلاً أبعادًا ثقافية واجتماعية وسياسية قد تساهم في فهم أعمق لسبب حدوثها.

تتراوح التغطية الإعلامية بين التقارير “المؤقتة” التي تركز على القصص الفردية للأشخاص المتضررين، إلى التغطية المتواصلة التي تسلط الضوء على السياقات التاريخية والسياسية لهذه الأحداث. إن مأسسة الإبادة الجماعية في المجال العام، من خلال الإعلام الغربي، تتضمن إعادة تعريف هذه الأحداث بطرق معينة تخدم أغراضًا سياسية أو اقتصادية أو حتى ثقافية.

دور الإعلام الغربي في التغطية الانتقائية للإبادة الجماعية

لا يعرض الإعلام الغربي الأحداث الكبرى المتعلقة بالإبادة الجماعية بالطريقة نفسها في كل مكان أو مع كل فئة مستهدفة. تُظهر الدراسات الإعلامية أنه تم التعامل مع إبادة جماعية بعينها بطريقة متحيزة، حيث يتم التركيز على بعضها وتهميش بعضها الآخر. على سبيل المثال، تلقى الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 تغطية إعلامية أقل بكثير من الإبادة الجماعية اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية، رغم أنها كانت معروفة لتأثيراتها المدمرّة التي أسفرت عن مقتل حوالي 800,000 شخص.

هذه التغطية الانتقائية تبرز ظاهرة من “المأسسة الإعلامية”، أي أن الإعلام يتبنى سردًا معينًا ويعززه، مما يساعد في تشكيل تصورات معينة عن ممارسات الإبادة الجماعية. وغالبًا ما تركز وسائل الإعلام الغربية على أيديولوجيات الجاني، مثل تقديمهم كـ “أعداء” من خلفيات عرقية أو دينية معينة، في حين يتم تقليل التغطية للأسباب السياسية والاقتصادية وراء الصراع. كما تميل وسائل الإعلام إلى استخدام لغة تهيئ الناس لفهم الأحداث كأنها مجرد “فعل شنيع”، دون أن تعطي تفاصيل كافية حول سياقات السلطة والصراع التاريخي التي تساهم في تكوين هذه الظاهرة.

المأسسة الإعلامية: من سرد الواقع إلى إنتاج الأساطير

في كثير من الأحيان، يساهم الإعلام الغربي في إعادة إنتاج أساطير حول الإبادة الجماعية. ويظهر هذا بشكل واضح في تصوير “الضحية” و”الجلاد”، حيث يتم غالبًا تجريد الجاني من سياقه الثقافي والسياسي، ليُصوّره ككيان شرير فقط. في الوقت ذاته، يُفترض أن الضحية دائمًا بريئة ومظلومّة. يساهم هذا النوع من السرد في تبسيط القضايا المعقدة وتحويل الإبادة الجماعية إلى حدث درامي يُستغل لتأجيج العواطف بدلاً من فهم الأسباب الجذرية لهذه الكوارث.

هذا النوع من السرد يخلق مسافة بين الحقائق الموضوعية والحقيقة التي يقدمها الإعلام، والتي تتحول أحيانًا إلى “أسطورة” تتلاءم مع الأجندات السياسية. وبالتالي، يساهم الإعلام الغربي في خلق صور نمطية للجماعات المعرّضة للإبادة والجماعات المرتكبة لها، وبالتالي يُضعف القدرة على اتخاذ مواقف نقدية أو علمية تجاه هذه الظواهر.

التأثير على العدالة الدولية وذاكرة الشعوب

بجانب الدور الإعلامي في إعادة تشكيل التصورات العامة، يسهم الإعلام الغربي أيضًا في التأثير على الذاكرة الجماعية والتاريخية للأمم والشعوب. فعندما يتم الحديث عن الإبادة الجماعية، يتم خلق سرد مهيمن غالبًا ما يتجاهل أو يُقلّل من روايات الضحايا الذين عانوا تحت أنظمة سلطوية. في بعض الأحيان، يتم تشكيل هذا السرد حول مفاهيم مثل “العدالة الدولية”، التي يديرها في كثير من الأحيان الفاعلون الغربيون، وبالتالي يتم خلق تصورات عن “العدالة” على طريقتهم.

أحد الأمثلة البارزة على ذلك هو محاكمات جرائم الحرب في محكمة الجزاء الدولية ليوغوسلافيا السابقة. في هذا السياق، كانت وسائل الإعلام الغربية تروج لسرد يُظهر بعض الأطراف في النزاع كـ “ضحايا” دائمين، بينما تُسهم هذه الرواية في تغييب مسؤوليات القوى الغربية نفسها عن التفجيرات العنيفة التي حدثت في المنطقة في وقت مبكر من التسعينات. بهذا الشكل، يمكن للإعلام الغربي أن يُساهم في تشكيل ذاكرة جماعية تتركز في فترة معينة، مما يحوّل الصراع إلى موضوع عدالة خارج إطار سياقه التاريخي والسياسي.

 

تحليل الإبادة الجماعية في غزة من منظور الإعلام الغربي

تعد الأحداث الأخيرة في قطاع غزة مثالاً حديثًا على كيفية تعامل الإعلام الغربي مع قضايا الإبادة الجماعية أو ما يُوصف بأعمال القتل الجماعي في السياقات السياسية المعقدة. في الوقت الذي يُعتبر فيه ما يحدث في غزة من خلال عدسة الإعلام الدولي بمثابة “حرب” أو “نزاع مسلح”، يمكن أن تُطرح أسئلة حول كيفية تأثير التغطية الإعلامية الغربية على فهم الجمهور لهذه الفظائع.

تتفاوت تغطية الإعلام الغربي لحرب غزة بشكل ملحوظ، حيث يزداد التركيز على الرواية العسكرية والسياسية من جانب واحد من أطراف النزاع، مع تهميش كبير للمعاناة الإنسانية المستمرة لشعب غزة. في بعض الحالات، يتم تصوير ما يحدث على أنه “عمل مشروع” من أجل “الدفاع عن النفس”، مما يقلل من حجم الإبادة الجماعية التي قد تحدث نتيجة الحصار المستمر والهجمات العنيفة على المدنيين.

في هذا السياق، يساهم الإعلام الغربي في تقديم سرد مختزل لأحداث غزة، حيث يتم التأكيد على “الشرعية” الدولية لتصرفات بعض الأطراف، بينما يُغفل التأكيد على المسؤولية عن التدمير المنهجي للبنية التحتية المدنية واستهداف المدنيين بشكل غير متناسب. يؤدي هذا إلى تقليل حجم الكارثة الإنسانية التي يواجهها الفلسطينيون في غزة، ويعيد تشكيل تصورات الناس في الغرب حول من هو الجاني ومن هو الضحية.

إن هذا التغطية الانتقائية تشبه إلى حد بعيد نمط المأسسة الإعلامية الذي تم ملاحظته في سياقات إبادة جماعية أخرى، حيث تُعطى الأولوية للرواية التي تتناسب مع الأجندات السياسية والاقتصادية للجهات المهيمنة في الغرب. في حالة غزة، يتعين على الإعلام الغربي أن يعيد النظر في كيفية تقديم هذه القضايا المعقدة، بحيث يتسم السرد الإعلامي بالمصداقية والشمولية، ويأخذ بعين الاعتبار تأثير العمليات العسكرية على المدنيين والمجتمعات بأكملها.

الخلاصة

إن الإعلام الغربي في سياق الإبادة الجماعية، من خلال مأسسته للموضوع، يساهم في تشكيل وإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية بشكل يخدم الأجندات السياسية والاجتماعية في بعض الأحيان. بينما يسلط الضوء على هذه الفظائع، إلا أنه في كثير من الحالات يغفل عن الأسباب الجوهرية التي تقف وراء هذه الكوارث، ويختزل القضايا في سرد درامي يميل إلى تبسيط المعقدات.

يجب على الإعلام الغربي أن يتبنى نهجًا أكثر شمولية وواقعية، يقدم السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي إلى الإبادة الجماعية، دون أن يقتصر على تقديم الأعراض فقط. كما يجب أن يدعم دور الإعلام في إشراك الجميع في خلق سرد جماعي يعكس التنوع الإنساني ويعيد تقييم مفاهيم العدالة والتاريخ في هذا السياق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق