أخبار العالمأنشطة المركزإفريقيابحوث ودراسات

السودان بين التفكك والحل الوطني: نحو ميثاق وطني ومقاربة إفريقية للحقيقة والمصالح

السودان يقف على حافة تفكك شامل. الحرب لم تعد صراعاً على السلطة فقط، بل تهديداً لبقاء الدولة نفسها.

كل يوم تتآكل مؤسسات الدولة ويزداد اعتماد الأطراف المتحاربة على شبكات التمويل الخارجي.

الفراغ السياسي سمح بانتشار مشاريع تقسيم مقنّعة في شكل مبادرات إنسانية أو تفاوضية

اولا-قراءة في الوضع القائم

الصراع في السودان خرج من يد الفاعلين المحليين، ولم يعد نزاعاً داخلياً قابلاً للاحتواء، بل تحول إلى حرب بالوكالة بين أطراف إقليمية تتصارع على النفوذ والموارد. انهيار مؤسسات الدولة، مدنية كانت أو عسكرية، جعل السلاح المرجعية الوحيدة في إدارة السلطة والقرار. المجتمع انقسم إلى مناطق نفوذ وولاءات قبلية وجهوية متصارعة، ما أفقد الدولة وحدتها السياسية والاجتماعية. غياب قيادة وطنية موحدة قادرة على فرض رؤية جامعة أجهض كل المبادرات المطروحة، سواء السياسية أو الإنسانية، وحوّل مساعي التسوية إلى مسارات متفرقة بلا مركز ولا شرعية وطنية

ثانيا-الاتجاهات المحتملة

أولاً. استمرار الحرب حتى 2030 سيحوّل السودان إلى نموذج فوضوي شبيه بالصومال في التسعينات.

الصراع الممتد سيقوّض قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية.

سوق الظلال والاقتصاد الحربي سيبسط قواعده.

شبكات تهريب واحتكار موارد ستتوسع.

سقوط مؤسسات الحكم سيجعل الترتيبات المؤقتة دائمة.

النتيجة ارتفاع معاناة المدنيين ونزوح طويل الأمد وتآكل المساحة للسياسة الوطنية.

ثانياً. احتمال تشكل كيانات إقليمية ذات حكم ذاتي في الغرب والشرق وارد وجدي.

المناطق التي تنفلت عن مركز القرار ستبحث عن حلول محلية لحماية نفسها.

قوى قبلية ومسلحة ومحلية ستبني هياكل إدارية بديلة.

هذا المسار ينتج حدود حكم فعلي تتقاطع مع خطوط عرقية وجهوية.

عواقب ذلك فقدان السيطرة على الموارد الطبيعية والحدود وظهور عدة مراكز للشرعية المتضاربة.

ثالثاً. تعمق الانقسام داخل المؤسسة العسكرية مع تزايد نفوذ الفصائل المسلحة سيبقى العامل الحاسم في مسار البلاد.

انقسام قيادات القوات يزيد احتمالات اصطدامات بين فصائل داخلية.

محاولات الدمج دون خطة واضحة وقواعد شاملة ستعمق الشرخ.

غياب محاسبة ومنظومة ولاء مؤسسية يقوّي ولاءات موازية مبنية على العلاقات القبلية والمناطقية.

إذا استمر هذا التشرذم ستصبح المؤسسة العسكرية أداة مصنع للنزاعات بدل كونها ركيزة للدولة.

محددات المدى والتحذيرات العملية

*مراقبة مؤشرات النزوح ونمط التمويل اللوجستي للفصائل.

*ملاحظة تشكيل هياكل مدنية بديلة ووثائق شرعية محلية.

*قراءة حركات القيادة داخل أروقة المؤسسة العسكرية.

السيناريو الأسوأ قائم إذا استمر الجمود السياسي وتفلت السلاح.

التدخل الوطني بقيادة توافقية ومقاربة إفريقية للسلام هما الطريق الوحيد لوقف التدهور

ثالثا-مقاربة الإنقاذ

ترتكز مقاربة الإنقاذ في السودان على ركيزتين أساسيتين.

الأولى ميثاق وطني مؤسس يضع قواعد الخروج من الحرب وبناء الدولة.

الثانية اعتماد نموذج إفريقي للحقيقة والمصالحة يعيد الثقة بين مكونات المجتمع ويهيئ لسلام مستدام.

1- الميثاق الوطني المؤسس

الميثاق يمثل نقطة البداية لإعادة تأسيس الدولة السودانية على أسس وطنية خالصة.

هو ليس اتفاقاً سياسياً ظرفياً، بل عقد وطني جامع يحدد ماهية الدولة وحدود سلطتها.

يضم القوى المدنية والعسكرية والاجتماعية التي ترفض استمرار الحرب، ويهدف إلى استعادة وحدة القرار الوطني.

يؤسس الميثاق لمبادئ واضحة هي:

*الدولة الواحدة ذات السيادة غير القابلة للتجزئة.

*الجيش الواحد الخاضع للقيادة الوطنية لا الولاءات الفصائلية.

* العدالة الواحدة التي لا تميّز بين الضحايا ولا بين الجناة.

الالتزامات التي يحملها الميثاق هي جوهرية وليست رمزية.

نبذ العنف كوسيلة للعمل السياسي شرط أولي للمشاركة في العملية الوطنية.

التمسك بالسيادة الوطنية ورفض أي وصاية خارجية يضمن استقلال القرار.

اعتماد العدالة الانتقالية والإصلاح المؤسسي الشامل يمهد لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.

يُشرف على تنفيذ الميثاق مجلس وطني للإنقاذ يتشكل من شخصيات وطنية ذات قبول واسع، يضطلع بمهمة إدارة المرحلة الانتقالية القصيرة، التحضير لسلام دائم، ووضع أسس الدولة الجديدة.

هذه المرحلة يجب أن تكون محددة زمنياً، تقتصر على وقف الحرب وإعادة بناء مؤسسات الدولة، لا على تقاسم السلطة.

2-النموذج الأفريقي للحقيقة و المصالحة

النزاع السوداني ترك جراحاً عميقة على المستويين الإنساني والمجتمعي.

أي تسوية سياسية دون معالجة هذه الجراح ستبقى هشة.

تجربة جنوب إفريقيا توفر نموذجاً عملياً يمكن تكييفه مع الواقع السوداني.

تُنشأ لجنة الحقيقة والمصالحة السودانية بمشاركة متوازنة تضم علماء دين، شيوخ قبائل، قضاة، وممثلين للضحايا.

مهمتها الأساسية كشف الحقيقة، لا تبرير الجرائم.

الاعتراف بالانتهاكات شرط للمصالحة.

جبر الضرر شرط لإغلاق الجراح.

هذه اللجنة لا تقوم على العفو المجاني، بل على الاعتراف والمساءلة وفق منطق العدالة التصالحية التي تضع السلم الأهلي فوق الانتقام، دون أن تعفي من المحاسبة.

اللجنة تعمل تحت إشراف الاتحاد الإفريقي والإيغاد، بما يمنحها غطاءً إفريقياً يمنع التدخلات الأجنبية ويضمن استقلالية المسار.

تفعيل هذا النموذج سيسمح بإعادة بناء الثقة داخل المجتمع، تفكيك دوائر الكراهية، وتهيئة بيئة حقيقية للمصالحة الوطنية.

النتيجة المتوقعة هي تحول العدالة من سلاح انتقام إلى أداة استقرار سياسي واجتماعي

الميثاق الوطني المؤسس يعالج البنية السياسية والمؤسساتية للدولة، بينما نموذج الحقيقة والمصالحة يعالج النسيج الاجتماعي والإنساني.

تكاملهما شرط لنجاح أي عملية إنقاذ.

من دونهما ستبقى كل المبادرات رهينة التوازنات العسكرية لا الإرادة الوطنية

رابعا-ما هو مطلوب الان

الوضع في السودان لم يعد يحتمل انتظار التسويات الطويلة أو الوساطات الشكلية.

أي تأخير إضافي يعني ترسيخ واقع الانقسام وفقدان ما تبقى من الدولة.

التحرك العاجل يجب أن يقوم على خطوات عملية متدرجة، يقودها السودانيون أنفسهم بإسناد إفريقي صادق.

1- وقف اطلاق نار بإشراف أفريقي لا دولي

وقف إطلاق النار هو المدخل الضروري لأي عملية سياسية أو إنقاذية.

لكن التجارب السابقة أثبتت أن الإشراف الدولي أنتج اتفاقات هشة، لأنها خضعت لحسابات خارجية.

الإشراف الإفريقي يضمن استقلال القرار ويعزز المصداقية، لأنه ينطلق من منطق حماية وحدة السودان لا إدارة الصراع فيه.

يتعين أن يكون وقف النار شاملاً ودائماً، يشمل مراقبة ميدانية من بعثة إفريقية مختلطة تضم عناصر من الاتحاد الإفريقي والإيغاد، مع تفويض واضح وصلاحيات فعلية لضبط الانتهاكات.

2-انشاء المجلس الأعلى للإنقاذ الوطني كمظلة تنفيذية للميثاق

هذا المجلس يمثل السلطة الوطنية المؤقتة التي تتولى إدارة مرحلة الانتقال.

يتشكل من شخصيات وطنية ذات كفاءة ومصداقية، بعيدة عن الولاءات الفصائلية والحزبية.

وظيفته ليست الحكم، بل تنفيذ الميثاق الوطني المؤسس، وإعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية على أسس جديدة.

يُعطى المجلس تفويضاً محدداً زمنياً لا يتجاوز ثمانية عشر شهراً، يركز خلالها على ثلاث أولويات

  • تثبيت الأمن وجمع السلاح.
  • إعادة تشغيل مؤسسات الدولة الخدمية.
  • التحضير لمؤتمر وطني شامل لتحديد شكل الحكم والدستور الجديد.

3- اطلاق الميثاق من داخل الأراضي السودانية لا من العواصم الاجنبية

أي مبادرة تُصاغ أو تُعلن خارج السودان تفقد مشروعيتها الوطنية.

إطلاق الميثاق من داخل الأرض السودانية يمنح العملية بعداً سيادياً ويعزز ثقة المواطنين فيها.

يجب أن يتم الإعلان في مدينة محايدة داخل البلاد، تحت حماية قوات وطنية مشتركة، وبحضور رموز من مختلف المكونات.

هذا الفعل الرمزي يعيد للسودانيين ملكيتهم للعملية السياسية ويقطع الطريق أمام أي وصاية خارجية.

4-تفعيل لجنة الحقيقة والمصالحة خلال الأشهر الأولى بعد وقف القتال

الانتظار الطويل في معالجة آثار الحرب سيعيد إنتاج دوائر الانتقام.

ينبغي الشروع مباشرة بعد وقف النار في تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة السودانية، وفق المعايير الإفريقية.

تبدأ اللجنة بفتح جلسات علنية للاستماع إلى الضحايا والمجتمعات المتضررة، وتضع برنامجاً زمنياً لجبر الضرر وتعويض المتضررين.

توصيات اللجنة تُدمج ضمن عمل المجلس الأعلى للإنقاذ، حتى تصبح المصالحة جزءاً من عملية بناء الدولة، لا مجرد إجراء اجتماعي.

5-دعم المسار إقليمياً من الجزائر ومصر وتشاد كدول ضمان

الدعم الإقليمي ضروري لتوفير الغطاء السياسي وضمان الالتزام بالتعهدات.

الجزائر، مصر، وتشاد تمتلك موقعاً جغرافياً ومصلحة مباشرة في استقرار السودان، كما تحظى بقبول نسبي من الأطراف السودانية.

يمكن أن تعمل هذه الدول كـ”دول ضمان” تقدم الدعم اللوجستي والسياسي، وتتابع تنفيذ المراحل الانتقالية بالتنسيق مع الاتحاد الإفريقي.

هذا الإسناد الإقليمي يجب أن يظل إطاراً مسانداً لا بديلاً عن القرار الوطني.

التحرك الفوري وفق هذه الخطوات سيحول المسار من حرب مفتوحة إلى مشروع وطني منظم.

وقف النار، الميثاق، المجلس، والمصالحة هي أعمدة المرحلة الجديدة.

الوقت أصبح عاملاً حاسماً، وكل تأخير إضافي يعني مزيداً من التفتت وصعوبة استعادة الدولة

الخلاصة:

السودان يقف أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانهيار الكامل أو التأسيس الجديد.

الميثاق الوطني المؤسس هو السبيل الوحيد لاستعادة الدولة من الفوضى وإعادة الشرعية إلى الداخل.

ونموذج الحقيقة والمصالحة هو الطريق الواقعي لإعادة بناء الثقة بين السودانيين وترميم النسيج الاجتماعي الذي دمرته الحرب.

من دون هذين المسارين سيظل السودان فضاءً مفتوحاً لحروب الوكالة وصراعات المصالح، وسيفقد ما تبقى من مقومات الدولة.

الإنقاذ لن يأتي من الخارج، بل من وعي وجرأة السودانيين على بناء دولتهم من جديد، بعقل بارد وإرادة وطنية صلبة.

اللحظة حاسمة، إما أن تُكتب بداية السودان الجديد، أو تُغلق صفحة الدولة السودانية إلى الأبد

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق