السلطان أردوغان ووصية سلفه
القاهرة-مصر-04-03-2020
لمّا اطمأن السلطان أردوغان إلى تفكك العرب وسيادة الفرقة بين دولهم التي معظمها مصطنع ومصنع..وإلى استقطابه الدعم الروسي بالحاجة إلى أرضه للنفاذ إلى أوروبا، إضافة إلى “التحالف القديم” مع الغرب بعنوان الولايات المتحدة الأمريكية، لمحاصرة الإتحاد السوفياتي الذي اختفى ساحبا معه المعسكر الإشتراكي بل والشيوعية جميعا إلى “الماضى” الذي لن يعود..وإلى خفوت الثورة فى فلسطين بعد انزلاق قيادتها، هي الأخرى إلى الصلح مع العدو الإسرائيلي..
وإلى تفرق العرب على أيدى سبأ: أغنياؤهم في النعيم وفقراؤهم في الجحيم، وأمريكا في كل مكان، ومعها إسرائيل التي أسقط “النظام العربى” صورة “العدو”عنها..
فى ظل ذلك كله أمكن لأردوغان أن يباشر التصرف وكأنه- مع العرب تحديدا- السلطان الجديد، بينما هو في موقع التابع لسياسات الإمبراطورية الأمريكية، وفي موقع المناور الإنتهازي مع القيصر الروسى بوتين الذي يعرف التاريخ جيدا ولكنه يتميز بذكاء المناور الداهية.
وهكذا أمكنه توظيف أعداد من اللاجئين السوريين (وبينهم من كانوا في تنظيم القاعدة) إلى تركيا لإرسالهم إلى ليبيا البلا دولة ليقاتلوا (ويُقتلوا) فيها، طمعا في الحصول على حصة من النفط الليبي الذي يكاد يكون الآن، وفي ظل تمزق جماهيرية القذافى، بلا صاحب..
وهذا قد يجعل “السلطان” في مواجهة أخرى مع أوروبا عموما، والروس ضمنا، ومصر حتما، وإن كان قد حاول طمأنة تونس والجزائر بأن “أطماع السلطان” لا تشملهما بغض النظر عن تصديقهما هذا الإدعاء، أو الصمت عنه بالحرج.
لكن ذلك كله لم يشبع نهم أردوغان إلى وراثة السلطان بمد نفوذه إلى المحيط العربي المنقسم على نفسه، وافتراق الأغنياء بالنفط والغاز عن إخوتهم الفقراء.. وهكذا افترض “السلطان” أنه قد وجد، أخيرا الفرصة لاستعادة أمجاد أسلافه سلاطين الإمبراطورية العثمانية.
وهكذا قفز أردوغان إلى قطر، مستغلا عزلتها المفروضة عليها عربيا، ليحظى بجزء من قاعدة “العيديد” الكبرى، قرب الدوحة، بالشراكة مع الأساطيل الأمريكية فيها كما في نهر الذهب في شبه الجزيرة التى يحاصرها جيرانها في الدول الخليجية بسبب الطموح المفتوح لدى أميرها المذهب من أجل لعب دور عربي وإقليمي ودولي ولو بالثمن.. ولقد استخدمه الأمريكيون في ما ينفع مصالحهم، كما أفادت منه إيران المحاصرة.. والأهم أن الدول الكبرى بعنوان واشنطن وموسكو ولندن وباريس كانت تستثمر فى طموحاته وغروره لتحقيق مصالحها، تاركة له أن يتحمل التكاليف سعيدا بهذا الدور الذي يتجاوز به حجم دولته.
هكذا يمكن القول:”وافق شن طبقة”، فشيخ قطر الذي يملك من الثروة أكثر مما يحتاج، خصوصا مع تصاغر حجم بلاده، وهي شبه جزيرة في الخليج العربي، تواجهها عند الضفة الأخرى إيران التي تشاركها في استثمار الغاز، وتفيد من الحركة النشطة لأميرها لتلمس ما يُحاك لها في الخفاء، ولتبث عبرها “رسائل” إلى”الخصوم الكبار”، كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ولتتلقى كذلك الرسائل المشفرة من مختلف العواصم التي تقاطع إيران وتسعى إلى الضغط بالحصار الإقتصادي.
شيخ قطر، الطموح، فتح بالذهب الطريق إلى العواصم الكبرى، وتطوع لأن يكون وسيطا (بالثمن) في مختلف الأزمات الدولية، وبينها الحرب الأمريكية على أفغانستان المستمرة منذ العملية الهائلة التي استهدفت الأبراج في نيويورك في 11 سبتمبر2001، والتي كان أبطالها عربا (بينهم أكثر من شاب لبناني)، وهي قد هزت العالم أجمع لفرادتها، وفتحت صفحة جديدة في تاريخ الإبتكار في الوسائل للوصول إلى أهداف تبدو شديدة التحصين بحيث يفترض أنها “آمنة” فى كل عصر وأوان.
كذلك فتح هذا الشيخ الطموح وهائل الثراء، الأبواب للتوسط بين كل المختلفين في العالم، متابعا ما باشره أبوه الشيخ حمد بن خليفة الذي نال السباق في الإعتراف بالعدو الإسرائيلي وإقامة العلاقات الدبلوماسية وتبادل الزيارات مع أركان دولته.. وبعدما كان والده قد قدم قاعدة العيديد في الدوحة لسلاح الجو الأمريكي، تبرع تميم بن حمد بتقديم جزء منها إلى سلاح الجو التركي.. وها هو الآن يتوسط بين الولايات المتحدة وأفغانستان لإنهاء حرب مفتوحة منذ تلك العملية غير المسبوقة التي استهدفت أبراج نيويورك فى 11 سبتمبر 2001، ويستقبل الموفدين لهذه الغاية في العاصمة المذهبة – الدوحة.
تتمدد القوات التركية الآن، بأوامر من “السلطان أردوغان” في الشمال السورى.. وبرغم إجلائها عن حلب ومحيطها فإنها تتحصن فى إدلب، حيث ترعى مخلفات عصابات الإرهاب (القاعدة ومن معها)، وفي الشمال الشرقي حتى القامشلي مع محاولات للتقدم نحو دير الزور، حيث أفاد الأمريكيون من الفوضى المسلحة التي غيبت النظام عن تلك المناطق للتقدم إلى حيث آبار النفط والغاز شمال شرقي سوريا وباشرت الإفادة منها.
عادت تركيا، هنا، حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، بينما هي تواجه القوات الروسية الرسمية حليفة النظام السوري في الشمال السوري (إدلب وجوارها..) موفرة للعدو الإسرائيلي الفرصة لمهاجمة بعض كتائب الفدائيين الفلسطينيين (حماس والجهاد) الذين قدمت لهم سوريا بعض القواعد في ضواحي دمشق للتدريب، استعدادا للعودة إلى فلسطين بعنوان غزة لمواجهة العدو القومي في الأرض المحتلة.
وحين احتدمت المعارك على جبهة إدلب، وتمكنت القوات السورية من تدمير قافلة من الدبابات والمصفحات التركية التي كانت تحاول منعها من التقدم، بادرت الإدارة الأمريكية إلى الإعلان عن استعدادها لتقديم المساعدة محاولةً ضرب العلاقات بين أنقره وموسكو، ولكن “السلطان” أردوغان رفض هذا “الفخ”، مرجئا القرار إلى ما بعد اللقاء بالقيصر الروسى بوتين في قمة ستجمعهما قريبا.
فى زمن مضى، وقبيل انهيار “الإمبراطورية العثمانية”، واجه السلطان عبدالحميد الضغوط الدولية التي اشتدت عليه لإعطاء “وعد” للحركة الصهيونية التي جاءها وفد منها برئاسة “هيرتزل” بإعطاء فلسطين لليهود بمقولة لا تنسى: أخشى أن يصيبني في فلسطين ما أصابنى فى لبنان”.
وما أصابه في لبنان أن القوى الغربية قد فرضت عليه السماح بجعل لبنان متصرفية شبه مستقلة يحكمها “متصرف” تعينه الدول ويعتمده السلطان بشرط ألا يكون مسلما، وهكذا توالى على المتصرفية عدد من المتصرفين كانت غالبيتهم من الأمن… الذين كانوا يذوقون الأمريْن على أيدى السلطنة وقد هرب قسم كبير منهم إلى سوريا ولبنان حيث يستقرون حتى الآن.
والزمن دوار..
طلال سلمان – الشروق المصرية.