أخبار العالمأوروباالشرق الأوسطبحوث ودراسات

اتفاق ليفياثان-القاهرة: ترسيخ المصالح الغربية في شرق المتوسط

أعد الدكتور الإسرائيلي في العلاقات الدولية إيمانويل نافون، ورقة بحثية نشرها معهد القدس للاستراتيجية والأمن JISS يناقش فيها أبعاد توقيع مصر لاتفاق العار التجاري مع الكيان الصهيوني، بقيمة 34.7 مليار دولار.

ووصف بانون هذا الاتفاق، بأنه نقطة تحوّل كبرى في التشكيل الاستراتيجي لشرق البحر المتوسط، لأنه يحوّل ما وصفه بالتعاون في مجال الطاقة إلى “أداةٍ استراتيجية، بما يعزّز الترابط الإقليمي، ويدعم تنويع الإمدادات الأوروبية، ويُرسّخ دور إسرائيل – التي لم تعد مجرّد مستهلكٍ لضمانات الأمن الغربية – كمزوّدٍ للاستقرار ضمن البنية الاستراتيجية الغربية”.

تمثّل موافقة ديسمبر 2025 على اتفاق للغاز الطبيعي بقيمة 34.7 مليار دولار بين إسرائيل ومصر نقطة تحوّل كبرى في التشكيل الاستراتيجي لشرق البحر المتوسط. فمن خلال الالتزام بتوريد نحو 130 مليار متر مكعّب (bcm) من الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى السوق المصرية حتى عام 2040، تكون إسرائيل قد فعّلت عقيدة الاندماج الاستراتيجي القائم على الطاقة.

وتجادل هذه الورقة بأن الاتفاق يعزّز بشكل ملموس موقع إسرائيل كمرتكزٍ إقليمي للاستقرار، ويرفع قيمتها كأصلٍ جيوسياسي لكلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وفي عصرٍ يتّسم بتفتّت منظومات الطاقة عالميًا، وهشاشة سلاسل الإمداد، وتنامي التحدّيات “التنقيحية”، لم تعد إسرائيل مجرّد مستهلكٍ لضمانات الأمن الغربية، بل تبرز بوصفها مزوّدًا لسلعٍ عامة استراتيجية: موثوقية الطاقة، والاستقرار الإقليمي، وخيارات التنويع لشركائها الغربيين.

اتفاق ليفياثان-القاهرة: ترسيخ المصالح الغربية في شرق المتوسط

السياق الاستراتيجي: الطاقة كقوّة وطنية

لا يُعدّ اتفاق ليفياثان–القاهرة إنجازًا تجاريًا فحسب، بل يمثّل أصلًا استراتيجيًا ذا تداعيات مباشرة على الأمن القومي. فعلى الرغم من ارتفاع منسوب التقلب الإقليمي في السنوات الأخيرة، دفعت الضرورات البنيوية لأمن الطاقة كُلًّا من مصر وإسرائيل إلى مستوى من الاندماج كان يبدو غير مرجّح قبل عقدٍ فقط.

بالنسبة إلى مصر، يعالج الاتفاق تحدّيًا بنيويًا متفاقمًا: تراجع الإنتاج المحلي من حقل “ظُهر”، وارتفاع الطلب على الكهرباء، والضغوط المتكرّرة على المالية العامة المرتبطة بواردات الطاقة. ويوفّر الغاز الإسرائيلي المنقول عبر الأنابيب عنصرَي التوقّع والكلفة المقبولة، وبحجمٍ كافٍ لدعم الاستقرارين الاقتصادي والاجتماعي في مصر.

أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فيدفع الاتفاق بعدّة أهداف استراتيجية أساسية إلى الأمام:

اعتماد متبادل طويل الأمد

من خلال إدماج التعاون الطاقوي طويل الأجل في البنى التحتية الحيوية والتخطيط الوطني، يرفع الاتفاق الكلفة السياسية والاقتصادية لأي تعطيل على الطرفين. ويعزّز هذا الاعتماد المتبادل الأسس العملية للسلام، ويقوّي حوافز ضبط النفس في فترات التوتّر.

البنية التحتية بوصفها مرونة استراتيجية

يشكّل التطوير المخطّط لمسار خط أنابيب نيتسانا عنصرًا محوريًا في الاتفاق، وهو ممرّ بري بطول 65 كيلومترًا يربط “رامات حوفاف” بالحدود المصرية. ويوفّر هذا المسار عامل تكرار/احتياط، ويتجاوز نقاط الاختناق البحرية، وصُمّم لتمكين صادرات تصل إلى 12 مليار متر مكعّب سنويًا، بما يعزّز الموثوقية في الظروف المعاكسة.

تمويل أمني مستدام

من المتوقّع أن تعزّز تدفّقات الإتاوات والضرائب، المقدّرة بنحو 18 مليار دولار طوال مدة الاتفاق، “صندوق الثروة السيادي” الإسرائيلي، بما يساهم في متانة مالية طويلة الأجل ويدعم التفوّق العسكري النوعي لإسرائيل ومنظومة دفاعها عالية التكنولوجيا.

إسرائيل كأصل جيوسياسي للغرب

من منظور واشنطن وبروكسل، تكمن القيمة الاستراتيجية لاتفاق “ليفياثان–القاهرة” في ترسيخ بنية طاقة تعاونية موالية للغرب في شرق البحر المتوسط. ففي وقت تُستخدم فيه الطاقة بصورة متزايدة كأداة للضغط السياسي من قبل قوى مراجِعة للنظام الدولي، تبرز إسرائيل كمورّد موثوق يستند إلى شفافية تنظيمية، واصطفاف سياسي، ومشاركة تجارية أمريكية.

ركيزة لصمود الطاقة الأوروبية

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، شرع الاتحاد الأوروبي في مسعى متسارع لتنويع مصادره بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الهيدروكربونات الروسية. ورغم أن واردات الغاز الطبيعي المسال الطارئة خففت من المخاطر الآنية، فإن التحدي طويل الأمد أمام أوروبا يتمثل في بناء محفظة طاقة مرنة ومتنوعة، تتجنب التعرض المفرط لعدد محدود من المورّدين المهيمنين.

في هذا السياق، يشكّل الغاز الإسرائيلي مصدرًا ذا قيمة استراتيجية، وإن لم يكن بديلًا كاملًا. ومن خلال “منتدى غاز شرق المتوسط – EMGF ” تسهم إسرائيل في إطار تعاوني يربط الإنتاج بالبنية التحتية ومسارات التصدير عبر المنطقة.

المنطق التشغيلي واضح: إسرائيل توفّر الغاز؛ ومصر توفّر قدرات التسييل عبر منشآتها للغاز الطبيعي المسال في إدكو ودمياط. وبذلك يتحول الغاز الإسرائيلي إلى مدخل رئيسي في استراتيجية التنويع الأوروبية، بما يتيح صادرات مستقرة من الغاز المسال إلى محطات أوروبية، بما في ذلك في ألمانيا وإيطاليا واليونان.

يدعم هذا الترتيب مسار الانتقال الطاقي الأوروبي من خلال توفير موثوقية الحمل الأساسي، والحد من التعرض لتقلبات السوق الفورية، وتخفيف المخاطر السياسية المرتبطة بندرة الطاقة.

التنويع بعيدًا عن الإمدادات الروسية والقطرية

أدت استراتيجية التنويع الأوروبية أيضًا إلى زيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال القطري. ورغم أن قطر مورّد مستقر وقادر، فإن التركّز المفرط يخلق نفوذًا هيكليًا وصلابة تعاقدية.

يوفّر الغاز الإسرائيلي بديلًا تكميليًا عبر:

  • القرب الجغرافي، بما يقلّص تكاليف النقل ويحد من التعرض للاضطرابات البحرية؛
  • مرونة “خط أنابيب–إلى–غاز مسال” عبر مصر، ما يسمح بتوزيع الكميات بين الاستهلاك الإقليمي والتصدير إلى أوروبا؛
  • اصطفاف سياسي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ما يقلّل المخاطر الجيوسياسية؛
  • ضغط تنافسي يعزّز موقف أوروبا التفاوضي تجاه كبار المصدّرين.

لا تحلّ إسرائيل محل قطر، ولا يُراد لها ذلك. فإسهامها يتمثل في “التخفيف” لا “الاستبدال”، وهو مبدأ راسخ في أمن الطاقة يعزّز الصمود عبر التعددية.

كبح الطموحات المراجِعة في المتوسط

يحمل الاتفاق أيضًا دلالات جيوسياسية أوسع. فقد سعت روسيا إلى توظيف حضورها العسكري والسياسي في سوريا وليبيا للتأثير في مسارات طاقة المتوسط، فيما تتحدى عقيدة “الوطن الأزرق” التركية الحدود البحرية القائمة التي تشمل اليونان وقبرص وإسرائيل.

من خلال تعزيز محور إسرائيل–مصر–اليونان–قبرص وإدماجه في هياكل تجارية موالية للغرب، يحدّ الاتفاق من نطاق الإكراه الأحادي. ويكتسب هذا أهمية إضافية مع الانخراط الكبير لشركة “شيفرون” في حقل ليفياثان، ما يربط المصالح التجارية الأمريكية بأمن بنية طاقة شرق المتوسط، ويعزّز المبررات الاستراتيجية لاستدامة الانخراط الأمريكي في المنطقة.

استقرار “المعسكر البراغماتي” الإقليمي

بالنسبة للولايات المتحدة، يظل استقرار مصر مصلحة استراتيجية أساسية. فالعجز الطاقي يترجم ضغوطًا مالية، وجمودًا صناعيًا، وارتفاعًا في المخاطر الاجتماعية—وهي ظروف تفتح المجال لتأثيرات خارجية من روسيا أو الصين.

من خلال الإسهام في أمن الطاقة المصري، تدعم إسرائيل بصورة غير مباشرة الأهداف الأمريكية ضمن نطاق مسؤولية القيادة المركزية (CENTCOM) ويتحقق هذا الأثر الاستقراري دون التزامات عسكرية أو مالية أمريكية إضافية، ما يبرز قيمة التعاون الإقليمي القائم على السوق.

الاعتماد المتبادل كأداة ردع استراتيجية

إحدى النتائج اللافتة للاتفاق هي أثره الردعي عبر الاعتماد المتبادل. فرغم صمود معاهدة السلام لعام 1979 لعقود، فإنها غالبًا ما افتقرت إلى تكامل اقتصادي عميق. يضيف اتفاق الغاز طبقة مادية للعلاقات الثنائية، ويرفع كلفة القطيعة السياسية أو التصعيد لدى الطرفين.

وهذا ليس إكراهًا طاقيًا على الطريقة الروسية، بل آلية استقرار قائمة على المصالح المشتركة، والحوافز البيروقراطية، وأفق التخطيط طويل الأمد—وهي عوامل تميل إلى ضبط السلوك داخل الأنظمة الدولتية المعقّدة.

دلالات السياسات: ديناميات غزة–مصر–تركيا، وأمن الطاقة الإسرائيلي

من الضروري أيضًا تناول الانعكاسات المحتملة للاتفاق على السياسات المصرية والتركية في سياق غزة. ورغم تأكيد القيادة المصرية علنًا عدم وجود ربط بين اتفاق الغاز ومواقفها السياسية إزاء إسرائيل وصراع غزة، فإن الفصل التام بين مصالح الطاقة طويلة الأمد والاعتبارات الاستراتيجية الأوسع يظل صعبًا عمليًا. فالاعتماد المتبادل العميق في قطاع حيوي كقطاع الطاقة لا يلغي الخلافات السياسية، لكنه يميل إلى تشجيع سلوك أكثر حذرًا، ويعزّز حوافز مصر للاضطلاع بدور مُثبّت ووسيط بدلًا من دور تصعيدي.

وفي هذا الإطار، يلفت الانتباه النظر إلى أن الاتفاق فُسِّر أيضًا على أنه يسهّل استئناف انخراط سياسي رفيع المستوى، بما في ذلك احتمال عقد لقاء بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو—وهو تطور ذو دلالة إقليمية، لا سيما في ظل مساعي مصر للحد من النفوذ التركي والقطري في ساحة غزة.

أما على صعيد تركيا، فإن تعزيز محور إسرائيل–مصر–اليونان–قبرص عبر التكامل الطاقي يعمّق عزلة أنقرة النسبية في شرق المتوسط، ويقيّد قدرتها على توظيف قضية غزة كمدخل لاختراق استراتيجي إقليمي.

أخيرًا، تستحق المخاوف من أن يقوّض الاتفاق قدرة إسرائيل على تلبية احتياجاتها المستقبلية من الغاز دراسة دقيقة. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن أحجام التصدير المتفق عليها تستند إلى تقديرات محافظة للطلب المحلي، والاحتياطيات المثبتة، ومراحل التوسعة المخطط لها في حقل ليفياثان.

فضلًا عن ذلك، يُخصّص جزء كبير من الغاز للاستهلاك المحلي في مصر لتوليد الكهرباء والاستخدامات الصناعية، فيما تُوجَّه الكميات المتبقية—وفق ظروف السوق—للتسييل والتصدير إلى أوروبا. وعليه، لا يأتي الاتفاق على حساب أمن الطاقة الإسرائيلي؛ بل يعزّزه عبر خلق حوافز اقتصادية قوية للاستثمار في المنبع، وتوسيع الإنتاج، وتعزيز صمود قطاع الغاز الإسرائيلي على المدى الطويل.

توصيات سياساتية

للاستفادة الكاملة من الإمكانات الاستراتيجية لاتفاق “ليفياثان–القاهرة”، ينبغي على إسرائيل:

  • إعطاء أولوية قصوى لاستكمال مسار نيتسانا عبر تصنيفه أولوية بنية تحتية وطنية، وضمان الجاهزية التشغيلية بحلول عام 2028.
  • إضفاء الطابع المؤسسي على الحوار الطاقي مع الاتحاد الأوروبي عبر مذكرة استراتيجية تعترف بغاز شرق المتوسط كعنصر في إطار التنويع الأوروبي، مع بحث التزامات شراء طويلة الأجل.
  • دفع توسعة ليفياثان (المرحلتان 1B و2) عبر توفير يقين تنظيمي يمكّن من اتخاذ قرار الاستثمار النهائي، بما يسمح برفع الإنتاج إلى نحو 21 مليار متر مكعب سنويًا.
  • توظيف الاتفاق كنموذج إقليمي، والبناء عليه لإطلاق أطر تعاون طاقي مستقبلية مع شركاء إضافيين، تشمل مجالات مثل صمود الشبكات، وآليات تجارة الغاز المسال، وعلى المدى الأطول—معايير الهيدروجين.

خلاصة

يبرهن اتفاق “ليفياثان–القاهرة” أن القوة الاقتصادية، والقدرة التكنولوجية، والاستشراف الاستراتيجي تشكّل الأسس الأكثر دوامًا للاستقرار الإقليمي. لقد انتقلت إسرائيل من السعي إلى القبول إلى موقع “الملاءمة البنيوية”، حيث تسهم مواردها مباشرة في استقرار الجوار وصمود الشركاء الغربيين.

ومن خلال ترسيخ التعاون الطاقي في شرق المتوسط، عززت إسرائيل دورها كركيزة في البنية الاستراتيجية الغربية. وبالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة، فإن الدلالة واضحة: إن إسرائيل الآمنة والمصدِّرة للطاقة ليست مجرد تفضيل إقليمي، بل أصل استراتيجي تتزايد أهميته العالمية.

المصدر: معهد القدس للاستراتيجية والأمن JISS

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق