إفريقيا : طوفان الانقلابات و تحرير المستعمرات
فاتن جباري باحثة بقسم البحوث والدراسات والعلاقات الدولية
تقديم
إفريقيا احدى أكبر قلاع العالم التي مازالت في عصرنا الحديث والقرن الواحد والعشرين تنبض بالخيرات وبأنعم الارض… لكن شبح الاستعمار جعل الملايين من سكان القارة السمراء تحت خط الفقر الواهن والجوع المدقع، ففي تقرير عن حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم يشير الى ان 14مليون طفل افريقي دون الخامسة يعانون من سوء التغذية والهزال الشديد، وهو مشهد انساني كارثي يعبر عن بشاعة ووحشية الاستعمار والفساد المستشري والكبير للمسؤولين في هذه الدول الفقيرة.
و تضم إفريقيا أكبر تجمع للدول النامية في العالم، ذات الأسواق المتعطشة للاستثمارات، والنمو السكاني الأسرع عالميًّا والثروات الهائلة، والحكومات المفتقرة لأدوات الحكم الديمقراطي العادل وفرض الأمن والاستقرار وتحديث البنى التحتية وتوفير الخدمات الأساسية.
كما يضاف إلى ذلك الموقع الجغرافي لإفريقيا والذي جعل منها قارة ذات أهمية استراتيجية خاصة حيث تحتوي على مضايق مهمة ورئيسة في طرق الملاحة الدولية، وهي ثاني أكبر القارات مساحة وامتدادًا جغرافيًّا.
تعد القارة الأفريقية من أكثر مناطق العالم نشاطا في الانقلابات العسكرية فمنذ سنوات ما بعد الاستقلال للدول الأفريقية في ستينيات القرن الماضي، وقع أكثر من 200 انقلاب في الدول الأفريقية، ما يطرح تساؤلات بشأن حالة عدم الاستقرار والفوضى التي تصيب هذه القارة وأسباب الانقلابات المتواصلة واخرها وليس الأخير انقلاب النيجر:
المبررات و التكتيكات
بحسب خبراء في الشأن الأفريقي، يعد ضعف الاقتصادات الأفريقية، والبيئة الأمنية المضطربة، إضافة إلى عدم احترام المواثيق الديمقراطية ولجوء العديد من الحكام المدنيين لتمديد فترات حكمهم، جميعها عوامل تثير الغضب الشعبي وتهيئ بيئة الانقلابات العسكرية التي تزيد الأمر تعقيدا وقد شهدت أفريقيا منذ استقلال معظم دولها من الاستعمار الغربي، في ستينيات القرن الماضي، نحو 201 انقلاب عسكري.
ومما لا شك فيه وأن المؤشرات الأمنية والسياسية والاقتصادية الأخيرة ترجِّح أن القارة الإفريقية أصبحت رقعة أساسية لصراع دولي بين لاعبين متعددين. فرغم الفقر الذي يحيا فيه أغلب سكان القارة الأفريقية إلا أن الثروات الطبيعية الموجودة فيها هي الأكبر على مستوى قارات العالم ولعل هذه الثروات هي السبب الرئيسي في الاستعمار المستمر لدول القارة، ووضعها بشكل دائم تحت الوصاية الغربية ونزعة الهيمنة الإمبريالية الفرنسية في مستعمراتها السابقة فرنسا، التي بات العالم يصفها بصانعة الطغاة في افريقيا تحافظ كذلك على نفوذها وسيطرتها من خلال التأثير على الحكام بالأموال والتبعية الثقافية و”عقيدة” الفرنكوفونية بل هي من تصنع الحكام الفاسدين وتختارهم بحسب معيار التبعية والخضوع وخاصة وأهم صفة للحكام هي الفساد والملفات الملوثة.
واليوم بدأ الانحدار الفرنسي أكثر وضوحا وإهانة على أرض الواقع فلم يعد الوجود الفرنسي القوة الأساسية في البلدان الأفريقية التي كانت تصفها بحديقتها الخلفية، وتعتبرها مجالا محفوظا لاستغلال شركاتها تتحكّم في اقتصادها وفي عملتها المحلية وعلى المستوى العسكري، أدّى الفشل العسكري المدوي لعملية “برخان” في منطقة الساحل الأفريقي إلى طرد الجيوش الفرنسية بطريقة مهينة من مالي، وإلى تنامي عقلية الثأر ولانقلاب لآخر وجود لهم ببوركينا فاسو أما المشاعر المعادية لفرنسا في الدول الناطقة بالفرنسية من دول المغرب العربي حتى دول الساحل الغربي لأفريقيا باعتبارها مجرّد فناء خلفي لقصر الإليزيه هي الدافع الابرز لثائر وبتر روابط الاستعمار.
في هذه الورقة البحثية نحاول اعطاء تحليل موضوعي وواقعي للتدخل الغربي الدائم والمستمر في القارة السمراء، وهو الدافع الابرز الذي جعل شعوب افريقيا تثأر لنفسها ضد آخر معاقل الاستعمار الغربي لثروات إفريقيا الذي اسقطته الانقلابات وكانت السودان ومعها النيجر مسرح لانقلاب عسكري هو الثالث في منطقة الساحل في غضون ثلاثة أعوام بعد كل من مالي وبوركينا فاسو
الثروات والثورات :
افريقيا بثرواتها العالمية المشهود بها جعلت منها لعقود من الزمن محل أطماع غربي يلتهم كل مزاياها، بحسب بيانات البنك الدولي تملك القارة حوالي 124 مليار برميل من احتياطي النفط، وهو ما يقدر بحوالي 12% من إجمالي احتياطي النفط العالمي هذا بالإضافة إلى 100 مليار برميل على شواطئ القارة في انتظار أن يتم اكتشافها.
هذه الثروات النفطية تتركز خاصة في كل من نيجيريا والجزائر ومصر وأنجولا وليبيا والسودان وغينيا الاستوائية والكونغو والجابون وجنوب أفريقيا كما انتجت القارة في عام 2007 ما يعادل 6,5% من إجمالي الغاز الطبيعي حول العالم بينما ما تزال تملك حوالي 500 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز الطبيعي أي ما يعادل 10% من إجمالي احتياطي الغاز العالمي.
كذلك يتم تصدير ما نسبته 23% من إجمالي إنتاج القارة من البترول للولايات المتحدة الأمريكية، وحوالي 14% للصين، و8% لكل من إيطاليا والهند، بينما تحظى دول الاتحاد الأوروبي بأكثر من 25% من إجمالي الإنتاج ومن جهة اخرى تتميز القارة الأفريقية بكميات كبيرة من عنصر اليورانيوم الهام في الصناعات النووي حيث تشارك أفريقيا بأكثر من 18% من إجمالي الإنتاج العالمي لليورانيوم وأبرز هذه الدول هي النيجر، وناميبيا، وجنوب أفريقيا اما عن المعادن الاخرى كالذهب و الالماس فتمتلك القارة احتياطات من الذهب تقدر بحوالي 50% من إجمالي احتياطات العالم وتتصدر القارة كذلك سوق الألماس العالمي حيث تقوم بإنتاج 40% من إجمالي الألماس عبر العالم.
ناهيك عن قطاعات استراتيجية اخرى ومن أهمها احتياطي الخشب والحيوانات والزراعة حيث يتم في المناطق الاستوائية زراعة الأناناس والقهوة والكاكاو والنخيل لاستخراج الزيت منه كما يتم إنتاج زراعات مطلوبة دوليا في مناطق السافانا اما في مناطق الصحراء يكثر زراعة القطن ونخيل البلح وفي حوض البحر المتوسط يتم زراعة الزيتون والحمضيات والطماطم وعدد كبير من الخضروات اما الثروة الابرز فتبقى كامنة في الطاقة المتجددة و ينابيع الماء و الارض الشاسعة .
إن الحضور المتنامي لأقطاب دولية على غرار أمريكا و روسيا والصين وفرنسا في إفريقيا يعكس أولوياتها من الناحية الاقتصادية والسياسية ومن الواضح أن الأمر يتعلق أولًا بضمان التفوق التجاري والتنمية الاقتصادية ويتطلب هذا التطور داخليًّا وخارجيًّا تأمين المواد الأولية الاستراتيجية تلعب دورًا داعمًا إلى حدٍّ كبير في استراتيجيتها الكبرى، وبدلًا من النظر إلى إفريقيا باعتبارها “غاية”، يُنظر إليها باعتبارها “تكتيكًا” أو جزءًا من “الخطة” الذي تُبنى عليه الطموحات الاستراتيجية الأوسع نطاقًا بالتالي يمكن القول ان إفريقيا لم تكن بأي حال من الأحوال هدفًا في حدِّ ذاتها بل هي وسيلة من بين الوسائل الأساسية للازدهار الاقتصادي وتكريس ودعم القوة السياسيًّة على الصعيدين المحلي والعالمي.
فالدول التي تنتهج استراتيجية الفعل غير المباشر والمتدرج ويمكن اعتبار انخراطها في القارة الإفريقية “تكتيكًا” من بين تكتيكات أخرى لم يكن الغرض منه فقط الاستجابة لحاجياتها الاقتصادية المباشرة والمتزايدة بل أيضًا لتعبيد الطريق بهدف الوصول سريعًا إلى قمة السياسة الدولية وزنًا اقتصاديًّا وسياسيًّا ونفوذًا تجاريًّا وجيوستراتيجيًّا. كما أن تصاعد التنافس الدولي في إفريقيا يدفع الدول للصراع والتصادم خاصة مع تنامي دور الصين وروسيا، وهو ما قد يكون غير مرحب به من قبل فرنسا خصوصًا والاتحاد الأوروبي وأميركا عمومًا، وهو ما ينذر بارتفاع صادرات السلاح في السنوات القادمة.
وما تزال أمريكا مثلا تحافظ على قواعدها العسكرية في مختلف المناطق الإفريقية التي تربطها بالولايات المتحدة علاقات إستراتيجية متينة على المستوى السياسي والعسكري وتحديدا في الشمال الأفريقي الذي يعتبر في المنظور الإستراتيجي الأميركي الفناء الخلفي للاتحاد الأوروبي والذي لا بد من تعظيم الوجود العسكري فيه لتطويق أوروبا من الجنوب، فإن البوابة العسكرية الأميركية إلى ذلك كانت في جزء أساسي منها تتم من خلال حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي بات له حضور مكثف في المغرب وتونس.
وتلعب الصين أدوارًا اقتصادية واستثمارية مهمة في القارة فمنذ انتهاء الحرب الباردة اجتذب الوجود الاقتصادي المتنامي للصين في إفريقيا “تحديدًا إفريقيا جنوب الصحراء” على مدى العقدين الماضيين قدرًا كبيرًا من الاهتمام، حيث إن الزيادة السريعة في مشاركة الصين الاقتصادية وحضورها السياسي في إفريقيا يعتبران أهم تطور في قارة إفريقيا. ففي عام 2018 كانت الصين الشريك التجاري الأول لإفريقيا والهند في المرتبة الثانية وأميركا في المرتبة الثالثة بينما كانت فرنسا في المرتبة السابعة.
وفي سنة 2020، تم بناء أكثر من ستة آلاف كيلومتر من السكك الحديدية والطرق السريعة وما يقرب من عشرين ميناء وأكثر من ثمانين منشأة طاقة كبيرة وأكثر من 130 مؤسسة طبية و45 منشأة رياضية و170 مدرسة وبلغت قيمة العقود الجديدة للمشاريع الهندسية التي وقَّعتها الشركات الصينية في إفريقيا 55.1 مليار دولار وخلقت الشركات الصينية أكثر من 4.5 ملايين فرصة عمل في القارة الإفريقية.
وقد ظهر اللاعب الروسي مؤخرًا بتكتيك مثير جدا للاهتمام بخصوص أبرز مجالات التعاون الروسي-الإفريقي، ومدى إمكانية نجاح روسيا في توجهها نحو إفريقيا، فأمام موسكو اليوم فرصة هامة للعودة بقوة الى أفريقيا بدأ من السودان و كذلك ليبيا، حيث تستعد روسيا اليوم لنيل حصتها من النشاط السياسي والاقتصادي غداة النزاع، كما أنها تراهن على الصعيد الإقليمي على نجاحها المحتمل في مصالحة مختلف الجماعات المتنازعة على السلطة بما يتيح لها تجاوز الإطار الليبي لتجسيد تأثيرها بشكل أكبر في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط ككل وطبيعة استفادة إفريقيا وكذلك دول شمال افريقيا من هذا التقارب الروسي ، فضلًا عن موقف الدول الغربية من تنامي النفوذ الروسي في إفريقيا، وتقديم تفسير لدلالاته المتنامي في مختلف مناطق القارة الإفريقية فضلًا عن تركيا وإسرائيل وإيران وغيرها…
الخلاصة:
يبقى امام الشعوب الافريقية الكثير لبلوغ طموح الريادة والتخلص من تبعية الاستعمار التي ستلازم الدول الإفريقية وعلى الرغم من تقدمها النسبي على مرِّ السنين، الا وان استمرار ضعف المؤسسات واستشراء الفساد واستعصاء التنمية ووضعية الهشاشة حيث القيود الناشئة عن الافتقار إلى القدرات المؤسسية وشفافية التدبير والقيود التشغيلية للاقتصاد والاجتماع البشري لا يمكنها إلا أن تعرقل جهود بناء السلام والأمن والاستقرار في المنطقة ككل ناهيك عن مدى تشظي الوازع الدبلوماسي وانقطاع سبل الحوار وتسوية الخلافات واختيار انموذج السياسات الاحادية رغم ان السفينة تحمل الكل وهو ما سيضعف قدرتها الدفاعية مستقبلا حيث تصبح مستباحة من كل الجوانب ومن ذلك دول شمال القارة والمغرب العربي.