أخبار العالمأوروبابحوث ودراسات

أقوى خطاب لأنجيلا ميركل: خطاب التخرج بجامعة هارفارد في 30 مايو 2019

الرئيس باكو، زملاء المؤسسة، أعضاء مجلس الإدارة، أعضاء مجلس الخريجين، أعضاء هيئة التدريس، أولياء الأمور، الخريجين:

اليوم هو يوم فرح. إنه يومكم. ألف مبروك، يسعدني أن أكون هنا اليوم وأود أن أحدثكم عن البعض من تجاربي الخاصة. إن هذا الحفل يسجل نهاية فصل كثيف وغالبا أيضًا صعب من حياتكم. الآن تفتح لكم الأبواب لحياة جديدة. وهذا أمر مثير وملهم.

كان للكاتب الألماني “هيرمان هيس” بعض الكلمات الرائعة لمثل هذه الوضعيات في الحياة. أود أن أقتبسه ثم أتابع خطابي بلغتي الأم.

كتب “هيرمان هيس”:

“في جميع البدايات تكمن قوة سحرية

لحراستنا ومساعدتنا على العيش”

هذه الكلمات التي كتبها “هيرمان هيس” كانت مصدر إلهام لي عندما أكملت دراستي للفيزياء عن عمر 24 عامًا، وكان ذلك عام 1978.

تم تقسيم العالم إلى شرق وغرب. كان ذلك خلال الحرب الباردة. لقد نشأت في ألمانيا الشرقية، في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، في وقت لم يكن فيه هذا الجزء من وطني حراً، في ديكتاتورية. كان الناس معرضين للاضطهاد والمراقبة من قبل الدولة. وكان المعارضون السياسيون معرضين للتصفية. كانت حكومة جمهورية ألمانيا الديمقراطية تخشى أن يهرب الناس نحو الحرية. ولهذا السبب تم بناء جدار برلين. كان مبنيا من الخرسانة والفولاذ. أي شخص كان يتم اكتشافه وهو يحاول تجاوز الجدار كان يلقى القبض عليه أو يرمى بالرصاص. هذا الجدار في وسط برلين قسّم الشعب،، وقسّم العائلات. تم تقسيم عائلتي أيضا.

بعد تخرجي كفيزيائية في برلين الشرقية كانت وظيفتي الأولى في أكاديمية العلوم. عشت بالقرب من حائط برلين.كنت أمشي حذوه كل يوم في طريقي من المعهد إلى البيت. وكانت خلفه تقبع برلين الغربية، والحرية. وفي كل يوم، كلما اقتربت جدًا من الجدار، كنت اضطر للابتعاد في آخر لحظه والتوجه نحو شقتي. في كل يوم كان علي الابتعاد عن الحرية في اللحظة الأخيرة. لا أعرف كم عدد المرات التي فكرت فيها أنني لم أعد أستطيع التحمل أكثر من ذلك. كان أمرا محبطا حقًا.

لم أكن منشقة. لم أواجه الحائط، ولكنني لم أنكر وجوده لأنني لم أكن أريد الكذب على نفسي. لقد حد جدار برلين من خياراتي. لقد كان يقف فعليا في طريقي. لكن هناك شيء واحد لم يستطع هذا الجدار فعله طيلة كل هذه السنين: وهو أنه لم يتمكن من فرض حدود لأفكاري الباطنية. شخصيتي، وخيالي، ورغباتي،، هي أمور لم يكن ممكنا حدّها بالحظر والإكراه.

ثم جاء عام 1989، لتظهر في جميع أنحاء أوروبا رغبة مشتركة في الحرية فجّرت قوى لا تصدق. خرج مئات الآلاف إلى الشوارع في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وجمهورية ألمانيا الديمقراطية. تظاهر الناس وأسقطوا الحائط. ما لم يكن يعتقد الكثير من الناس أنه ممكن – حتى أنا – أصبح حقيقة. حيثما كان هنالك ذات مرة جدار مظلم، فتح باب فجأة. لقد حان الوقت بالنسبة لي أيضًا، للمرور من هذا الباب. لم أعد مضطرة للابتعاد عن الحرية في اللحظة الأخيرة بعد الآن. استطعت عبور هذا الخط والدخول في العالم المنفتح.

لقد أدركت منذ 30 عام من خلال التجربة التي خضتها بنفسي في تلك الأشهر بأنه لا يوجد شيء من الحتمي أن يبقى على ما هو عليه. هذه التجربة، أيها الخريجون الأعزاء، هي الفكرة الأولى التي أود مشاركتها معكم اليوم من أجل مستقبلكم:

“ما يبدو ثابتًا ولا متغير يمكن في الواقع أن يتغير”

وفي جميع الأمور كبيرة كانت أم صغيرة، فإن أي تغيير يبدأ داخل العقل. كان على جيل والدي أن يتعلم هذا الأمر بشكل مؤلم. وُلد كل من أبي وأمي في عامي 1926 و 1928. وحينما بلغا من العمر ما يبلغه معظمكم هنا اليوم، كان تمزق الحضارة الناجم عن المحرقة والحرب العالمية الثانية قد انتهى لتوه. لقد جلبت بلادي، ألمانيا، معاناة لا يمكن تصورها لأوروبا والعالم بأسره. فما كان حينها مدى احتمال بقاء المنتصرين والمنهزمين على خلاف لسنوات عديدة؟ ولكن بدلاً من ذلك، تغلبت أوروبا على قرون من الصراع. وكانت النتيجة أنها أنشأت نظامًا سلميًا قائمًا على قيم مشتركة بدلا من قوة وطنية مفترضة.

على الرغم من كل المناقشات والنكسات المؤقتة، فأنني مقتنعة تمامًا بأننا نحن الأوروبيين اتحدنا للأفضل. والعلاقة اليوم بين الألمان والأميركيين تظهر لنا كيف يمكن لأعداء سابقين في الحرب أن يصبحوا أصدقاء.

لقد كان جورج مارشال هو من ساهم بشكل كبير في هذا الأمر من خلال الخطة التي أعلنها من هذا المكان بالذات خلال خطاب التخرج لعام 1947. إن الشراكة العابرة للأطلسي القائمة على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان أعطتنا فترة من السلام والازدهار دامت لأكثر من 70 عام واستفاد منها الجميع.

 أما اليوم؟ فلن يمر وقت طويل قبل أن يخرج السياسيون من أبناء جيلي من دائرة “ممارسة القيادة”، ليتم التعامل معهم على أنهم “القيادة في التاريخ”.

أعزائي خريجي هارفارد لسنة 2019: سيواجه جيلكم تحديات القرن الحادي والعشرين في العقود القادمة. أنتم ستكونون ممن سيقودنا نحو المستقبل. السياسة الحمائية والصراعات التجارية تهدد التجارة العالمية الحرة، وهي بالتالي تهدد أسس ازدهارنا. التحول الرقمي يغطي جميع مجالات حياتنا. الحروب والإرهاب يؤدّيان إلى النّزوح والهجرة القسرية. تغير المناخ يهدد الموارد الطبيعية لكوكبنا. كل هذه الأمور وما انجر عنها من أزمات هي من صنع البشر. ولذلك فنحن قادرين لا بل علينا فعل كل شيء ممكن بشريا حتى نضع هذا التحدي الذي تواجهه الانسانية تحت السيطرة. وهو لا زال بالأمر الممكن. ولكن يجب على الجميع القيام بدوره والمضي قدما، وأنا أقول كلامي هذا من باب النقد الذاتي. وعليه فإنني سأبذل قصارى جهدي لضمان بلوغ بلدي ألمانيا هدف الحياد المناخي بحلول عام 2050.

التغيير نحو الأفضل هو أمر ممكن ان تعاملنا معه سوية. إذا سرنا فيه بشكل فردي فإنّنا لن ننجح. ولذا فإن فكرتي الثانية لكم هي:

يتوجب علينا الآن أكثر من أي وقت مضى التفكير والتصرف بشكل متعدّد الأطراف بدلا من الشكل الاحادي.

بشكل عالمي لا قومي، بشكل انفتاحي لا انعزالي.

باختصار بشكل جماعي لا فردي.

أنتم أعزائي الخريجين ستتاح لكم فرصا مختلفة تماما عن التي حضي بها جيلي لتحقيق ذلك. هواتفكم المحمولة الذكية تتمتع بقدرات حاسوبية أكبر بكثير من تلك التي كان يتمتع بها الحاسوب المركزي IBM المستنسخ من قبل الاتحاد السوفييتي والذي كان مسموح لي استخدامه عام 1986 لتقديم أطروحتي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية.

نحن اليوم نستخدم الذكاء الاصطناعي لمسح الملايين من الصور التي تخص الأعراض المرضية، لتشخيص أفضل لمرض السرطان على سبيل المثال. في المستقبل يمكن للروبوتات الاستشعارية مساعدة الأطباء ومقدمي الرعاية للتركيز على الاحتياجات الفردية للمرضى كأفراد. لا نستطيع أن نقول ما هي التطبيقات التي ستكون ممكنة، ولكن الفرص المتاحة مع الذكاء الاصطناعي هي حقا مذهلة.

دفعة 2019، الأمر عائد لكم بشكل أساسي فيما يتعلق بكيفية الاستفادة من هذه الفرص. أنتم هم من سيقرر كيفية عملنا وتواصلنا وتنقلنا… كل أسلوب حياتنا سوف يتطور.

بصفتي مستشارة، غالبًا ما أسأل نفسي: هل أفعل الشيء الصحيح؟ هل أفعل شيئًا لأنه صحيح، أم لأنه ممكن؟ يجب أن تسألوا أنفسكم هذا السؤال مرارًا وتكرارًا – وهذه هي فكرتي الثالثة لكم اليوم:

هل نحن من يضع القواعد للتكنولوجيا أم هي التي تحدد كيفية تعايشنا؟

هل نضع الانسان بكرامته ومختلف جوانبه في محور اهتماماتنا أم أننا نرى فيه فقط الحريف أو مصدر البيانات أو هدف المراقبة؟

هذه أسئلة صعبة. ولكنني تعلمت أنه حتى الأسئلة الصعبة يمكن أن نجد لها أجوبة إن نظرنا إلى العالم من خلال عيون الآخرين، وإن احترمنا تاريخهم وتقاليدهم ودينهم وهويتهم، وإن وقفنا بحزم مع قيمنا الثابتة وتصرفنا وفقًا لذلك؛ وإن لم نتبع في كل مرة دوافعنا الأولية، رغم كل الضغوط التي تدفعنا لاتخاذ قرارات مبكرة، بل بدلاً من ذلك نتوقف للحظة،، نكون هادئين،، نفكر،، نأخذ استراحة.

بطبيعة الحال هذا الأمر يتطلب الكثير من الشجاعة. وقبل كل شيء يتطلب أن نكون صادقين مع الآخرين وربما الأهم من ذلك أن نكون صادقين مع أنفسنا. وأي مكان لننطلق منه أفضل من هذا المكان حيث يقدم العديد من الشباب من كافة أنحاء العالم للتعلم تحت شعار الحقيقة – وللقيام بالأبحاث ومناقشة مسائل عصرنا؟ وهذا يعني ألا نصف الأكاذيب على أنها حقيقة والحقيقة على أنها أكاذيب، كما يعني كذلك أننا لا نقبل بالمظالم على أنها طبيعية لدينا.

ولكن يا أعزائي الخريجين ما الذي يمكن أن يوقفكم – ما الذي يمكن أن يمنعنا من فعل ذلك؟ هي مرة أخرى الجدران: جدران في العقل، جدران من الجهل وضيق الأفق. تجدها بين أفراد الأسرة الواحدة كما تجدها بين مختلف الفئات الاجتماعية، وبين الأشخاص ذوي البشرة المختلفة، وبين الشعوب، وبين الأديان. إنني أود أن نهدم هذه الجدران – الجدران التي تمنعنا مرارًا وتكرارا من التواصل حول العالم الذي نريد أن نعيش فيه معا.

سواء نجحنا أم لا فالأمر يتوقف علينا. ولذا يا أعزائي الخريجين فإن فكرتي الرابعة هي:

لا تتخذوا أي شيء على أنّه مضمون.

حرياتنا الفردية ليست بديهية، الديمقراطية ليست بديهية، وكذلك هو الحال بالنسبة للسلام والازدهار.

ولكن ان هدمنا الجدران التي تقيّدنا، ان فتحنا الباب واحتضنا بدايات جديدة، فكل شيء ممكن. يمكن للجدران أن تنهار. يمكن للدكتاتوريات أن تختفي. يمكننا وقف الاحتباس الحراري. يمكننا التغلب على الجوع. يمكننا القضاء على الأمراض. يمكن أن نوفر للناس، وخاصة الفتيات، إمكانية الوصول إلى التعليم. يمكننا محاربة أسباب النزوح والهجرة القسرية. يمكننا فعل كل ذلك.

لذلك دعونا ألا نسأل أولاً عمّا هو خطأ أو ما كان دومًا عليه. بل دعونا نسأل أولاً عمّا هو ممكن ونبحث عمّا لم يتم فعله من قبل.

كانت هذه بالضبط الكلمات التي قلتها عام 2005 في أول بيان لي عن سياساتي بصفتي المستشارة المنتخبة حديثًا لجمهورية ألمانيا الاتحادية، وكأول امرأة في هذا المنصب، في البوندستاغ الألماني، البرلمان الألماني.

وبهذه الكلمات أود أن أشاطركم فكرتي الخامسة:

دعونا نفاجأ أنفسنا بما هو ممكن –

دعونا نفاجأ أنفسنا بما يمكننا فعله

في حياتي الخاصة، ومنذ ما يقارب 30 عام، كان سقوط جدار برلين هو ما سمح لي بالانفتاح. في ذلك الوقت، تركت خلفي عملي في مجال العلوم ودخلت مجال السياسة. لقد كان وقتًا مثيرًا وساحرا، تمامًا كما ستكون حياتكم مثيرة وساحرة. ولكنني عشت أيضا أوقات من الشك والقلق. لأننا كنا نعلم جميعًا ما تركناه خلفنا، ولكننا لم نكن نعلم ما يمكن أن ينتظرنا. لعلكم اليوم تشعرون بشيء من هذا القبيل في خضم فرحة هذه المناسبة.

لذلك وكفكرتي السادسة يمكنني أن أخبركم:

إن اللحظة التي تقف فيها في الانفتاح هي أيضًا لحظة مخاطرة.

التخلي عن القديم هو جزء من بداية جديدة.

لا توجد بداية بلا نهاية ولا نهار بلا ليل ولا حياة بلا موت.

حياتنا كلها تتشكل من هذا الاختلاف، مما يقع بين البداية والنهاية.

وما هو واقع بينهما، هو ما نسميه بالحياة والخبرة.

أعتقد أننا يجب أن نكون مستعدين دائمًا لإنهاء الأمور لنشعر بسحر البدايات وللاستفادة القصوى من فرصنا. كانت تلك تجربتي في الدراسة ، في العلوم ، وهذا ما خبرته في السياسة. ومن يدري ما الذي يرتقبني بعد حياتي كسياسية؟ فالأمر مفتوح تماما. شيء واحد واضح وهو أنه سيكون هناك مرة أخرى شيء مختلفًا وشيء جديدًا.

لهذا السبب فإنني أريد أن أترك هذه الرغبة لديكم:

[١] اهدموا جدران الجهل وضيق الأفق، لأنه لا يوجد شيء محتم أن يبقى على ما هو عليه.

[2] اتخذوا إجراءات مشتركة ذات طابع كوني لفائدة عالم متعدد الأطراف.

[٣] استمروا في التساؤل عما ان كنتم تفعلون شيئًا لأنه صحيح أم ببساطة لأنه ممكن؟

[4] لا تنسوا أن الحرية لا يمكن أبدًا اعتبارها أمرًا مفروغا منه.

[٥] فاجئوا أنفسكم بما هو ممكن.

[٦] تذكروا أن الانفتاح ينطوي دائمًا على مخاطر. وأن التخلي عن القديم هو جزء من البداية الجديدة.

وفوق كل شيء ، لا يمكن اعتبار أي شيء مفروغ منه؛ كل شيء ممكن.

شكرا لكم!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق