أخبار العالمبحوث ودراسات

الحقبة الصينية الجديدة وشراكة “الرابح رابح”

عادل الحبلاني: باحث بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية والعسكرية بتونس

إن الحقبة المعاصرة هي حقبة العولمة بامتياز, ومن التعسف التاريخي عدم الاعتراف بأن زخم العولمة وقوتها لا رجعة فيهما, فالانفتاح الاقتصادي والتجاري والثقافي الذي توجته التطورات التكنولوجية باعتبارها الميزة الأساسية للتاريخ البشري المعاصر,يقابلهتعطل سياسي جعل من العولمة تنطلق عرجاء وتحيد عن المسار القيمي الذي تأسست عليه وتجانب الأهداف السامية التي تحدد مساراتها, الأمر الذي أفرز أزمات واضطرابات ديبلوماسية بين الدول تعود وفق عديد القراءات إلى المنطق السياسي الذي تنتهجه العديد من الدول الإمبريالية الاستعمارية القائم أساسا على ثقافة الهيمنة, فطيلة الخمس قرون المنقضية راكمت هذه السياسات من الأزمات الدولية وسرّعتمن وتيرة الصراعات والنزاعات والانقسامات بين الدول والجماعات وأججت الحروب الأهلية, الأمر الذي اقتضى إعادة النظر في السياسات التي يجب انتهاجها بما يثمن هذا المنجز الانساني ويعيد ردم الهوة بين قيم العولمة وأهدافها وما آلت إليه جراء الانعطافات السياسية الأحادية, ويعيد ترتيب العلاقات الدولية بما يخدم مصالح الشعوب لا دول بعينها وينهي ثقافة الربح والخسارة ويؤسس لثقافة النجاة مجتمعين لا فرادى.

ضمن هذا الاطار الساعي إلى اعادة ترتيب البيت الانساني سياسيا واقتصاديا وثقافيا تتنزل الرؤية الصينية لمقومات العلاقات الدولية السليمة, التي تقوم على التشاركية وتأسّس لثقافة “الرابح رابح” وتأصل لمنطق التكاتف والتعاون لا لمنطق المصالح الخاصّة وضرب الخصم.

الرؤية الصينية للعلاقات الدولية وأهم مرتكزاتها

يدخل العالم اليوم حقبة جديدة من التفكير في السلام والأمن الإنسانيين وتدخل من ورائه العلاقات الدولية طورا جديدا ينشد القطع مع المساوئ والمآسي التي أنتجتها قوى الهيمنة والاستعمار متعدد الأشكال, حقبة صينية بامتياز تقوم على نظرية الرابح رابح على خلفيّة التفكير في الكيفيّة التّي يجب أن تكون عليها العلاقات الدولية, لصياغة الآليات الكفيلة للإنهاء والقطع مع ممارسات لا تأدي إلا إلى المزيد من الصراع والحرب, ذلك أن بناء مجتمع إنساني يقوم على قاعدتي السلام والأمن هو المنطلق والأساس الذي من وراءه يمكن بناء علاقات دولية تقوم على المساواة بين الدول, علاقات تعتمد التشاركية والتعاون والتكاتف ومنطق الربح المشترك كمنطلق للعلاقات الدولية من وجهة نظر صينية. يدل هذا المنطلق والقاعدة التي تنطلق منها الصين على تبصر تحليلها للوضعية المتأزمة والأخطاء الدولية التي ارتكبت من قبل قوى الهيمنة والتي يفترض عدم تكرارها والبحث عن الطرق والسبل التي يجب انتهاجها من قبل المجتمع الدولي لتحقيق السلم والأمن الانسانيين كقيم وغايات قصوى ترنوا الشعوب لتحقيقها, لهذه الأسباب وغيرها من ضرورات تفترضها مطلبية الرفاه الكونية لكل شعوب العالم, تقترح جمهورية الصين الشعبية خطة شاملة ومجموعة من الاستعدادات والخطوط العريضة من أجل تحقيق مجتمع إنساني بعيد عن النزاعات والحرب, وذلك من خلال تطوير شراكة تقومأساسا على المساواة، التشاور والتفاهم المتبادل وتأسيس بنية أمنية تتسم بالعدالة والانصاف والالتزام المشترك والمنفعة المشتركة, بالإضافة إلى البحث عن تنمية مبتكرة مفتوحة للجميع و متجددة ترتكز على تعزيز التبادلات والإثراء المتبادل بين الحضارات مع احترام الاختلافات, بالإضافة إلى  بناء النظم البيئية التي تحترم التوجهات الهادفة إلى إنشاء الاقتصاد الأخضر.

إن الرؤية الصينية تقوم أساسا على اعتبار مفاده أن المصالح المشتركة هي الأساس لبناء العلاقات الدولية, ذلك أن البلدان مترابطة ارتباطا وثيقا وبشكل أكثر وضوح يتعزّز الاتصال بين مختلف مصالحها كل يوم أكثر فأكثر, بمعنى أن هناك حاجة مشتركة وارادة للشّعوب لا يمكن انكارها من أجل بناء بيئة مشتركة من السلام والاستقرار والازدهار المشترك. إن بناء الرؤية الصينية تهدف في جوهرها إلى قلب المعادلة بإخراج المجتمع الدولي والانساني من ورائه وادارة العلاقات الدولية تباعا من معادلة الربح والخسارة إلى معادلة الربح المتبادل والمشترك, ذلك أن التصورات المتجزأة والأحادية للعلاقات الدولية لم تنتج وفق التصور الصيني الجديد الا النزاعات والفقر والفاقة والمجاعة, فقلب المعادلة وتغيير منطق التعامل بين الدول ووضع المشترك الانساني القيمي الكوني هو نقطة انطلاق مهمة من وجهة نظر جمهورية الصين الشعبية لتحقيق السلام والأمن الانساني, لذلك دعت الصين أغلب دول العالم من خلال محاضرة ألقاها الرئيس الصيني لاحترام بعضها البعض وان تتعامل على قدم المساواة والبحث عن أرضية توافقية تنطلق من أن الاختلاف بين الثقافات أمر حتمي ولا بد من الاعتراف بذلك لبحث سبل توحيد وتوسيع دائرة المصالح المشتركة باستمرار بهدف تحقيق التعايش السلمي والتناغم بين البلدان ذات النظم الاجتماعية والسياسية المختلفة بالإضافة إلى احترام مسارات التنمية والتقاليد الثقافية المختلفة بدورها. بهذا المعنى تستند رؤية جمهورية الصين الشعبية على المبدأ الأساس الذي يدعم الرؤية والنموذج الجديد للصين في ادارة العلاقات الدولية, وهو مبدأ ” الرابح رابح” الذي يتعارض مع النظريات الغربية التي كرّست ودعمت قانون الغاب الذي يلتهم فيه الأقوياء الضعفاء.

يقول مثل صيني “إن وردة واحدة لا تصنع الربيع, ذلك أنه عندما تتفتح مئة وردة مع بعضها يغزو الربيع الحديقة بأكملها”,فمنطق الأحادية الذي سيطر على العالم منذ زمن طويل لم يعد اليوم قادر على أن يكون النموذج الأمثل لتحقيق السلام والأمن الانسانيين ولا يمكن له ادارة العلاقات الدولية الهادفة إلى النجاة مجتمعين لا فرادى, ولا يمكن أن يستجيب للقيم التي تحرك النّظام البشري ولا يمكن تباعا تحقيق الرفاه الانساني بما أنه يقوم على تحقيق مصالح اقتصادية واجتماعية وتنموية لدول دون غيرها. وإذ تنطلق الصين من رؤية تقلب بها المعادلة الكلاسيكية للعلاقات الدولية, وإذ تؤسّس نظريا لمعادلة جديدة فهي تعمل ميدانيا لتحقيق نموذجها التشاركي على جميع المستويات عبر إطلاقها لمبادرة طريق الحرير بماهي الترجمة العملية لما ترنو الصين لتحقيقه من سلام وأمن واستقرار للإنسانية.

مبادرة طريق الحرير

شكلت الأربعين سنة الأخيرة في تاريخ الصين المعاصر مرحلة الاصلاح والانفتاح, حيث دخل الحزب الشيوعي الصيني حقبة جديدة أكثر انفتاحا وشمولية وديناميكية وطريق جديد للتنمية يستجيب للمصالح المشتركة لكل شعوب العالم, معتمدا في ذلك على الحكمة والقوة والحلول وتحمل المسؤولية, الامر الذي أدخل جمهورية الصين الشعبيةسيّما بعد الاصلاحات السياسية الشاملة وثقافة الانفتاح التي تعتمدها, عصرا جديدا, فالصين اليوم تشارك أكثر من غيرها من الدول العظمى في حوكمة العالم بطريقة نشطة عبر مشاركتها في ادارة العلاقات الدولية والازدهار الاقتصادي لشعوب العالم, فهي تتعمّد إلى أن لا يكونارتفاع مستوى المعيشة حكرا على الشعب الصيني فحسب, بل هي دائبة في توفير الفرص والدفع من اجل تنمية وازدهار مشترك, وتعد مبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير التي أطلقتها جمهورية الصين في سبتمبر2013  من بين أهم الحلول التي ارتأتها لتحقيق تنمية مشتركة ومربحة في الآن نفسه للجانبين, وفي وأكتوبر من نفس السنة قامت باقتراح مبادرة طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين, لتتحول وتصبح طيلة السنوات الأخيرة منصة جديدة ومصدر للنجاحات الباهرة في ادارة العلاقات الدولية التي شهدت تحسنا ملحوظا خاصة منها العلاقات الصينية الافريقية, ويعود ذلك إلى أن جوهر مبادرة الحزام والطريق يستجيب للاحتياجات الملحة خاصة للبلدان التي  تعبرها والتي تسعى إلى مسار تنمية سريعة وترغب في تحسين مستويات معيشة شعوبها, بطريقة جعلت من الاقبال على المشاركة في مبادرة الحزام والطريق في تزايد مستمر لما لها من أهداف تعاونية وتكريس لمبدأ المساواة في إدارة العلاقات الدولية.

تهدف مبادرة الحزام والطريق إلى التّوفيق بين العدالة والمصالح مع إعطاء الأولوية للأولى ذلك لأنّ هدفها الأسمى لا يكمن أساسا في تحقيق نجاحات سريعة وقصيرة الأجل في الآن نفسه, بلإن تحقيق العدالة كشرط أولي سوف يسمح بالنتيجة بتحقيق علاقات دولية سليمة ودائمة في الزمن , فالمبادرة الصينية ليست امتدادا اقتصاديا وسياسيا لاستراتيجية الرابح الواحد, بل على العكس من ذلك, هي أسلوب تنمية مشترك ومربح للجانبين يتأسس على قاعدة التعاون الاقتصادي الثنائي ومتعدد الأطراف, نهجه التشاور والتآزر والمشاركة وابرام اتفاقيات التعاون الاقتصادي والتجاري وربط الاستراتيجيات والاعتراف المتبادل بالمعايير والقيم والقدرات. وقد بينت هذه المبادرة باعتبارها الترجمة العملية لروح الرؤية الصينية كيف أن الصين التزمت طيلة السنوات الأخيرة  بإقامة ثقة سياسية متبادلة مع الدول الواقعة على طول الحزام والطريق وعدلت من سياستها لمزامنة استراتيجياتها التنموية بشكل أفضل مع تلك الخاصة بالدول الأخرى.إنّ تأسيس جمهورية الصين لمناطق حرة متعددة الوظائف, يهدف عمليا إلى تحرير التجارة وتسهيلها من خلال التركيز على إنشاء بيئة أعمال دولية تتوافق مع الممارسات الدولية وتعزز القدرة التنافسية الدولية لجذب الاستثمار المحلي والأجنبي.

تكشف الصين عن نواياها السلمية من خلال مبادرة الحزام والطريق وذلك من خلال تطويرها لقطاع الخدمات في البلدان النامية في عالم تحول بسرعة غير مسبوقة إلى عالم معلوماتي بامتياز مؤكدة أنه من غير الممكن إهمال القطاع الخدماتي باعتباره محفزا وعاملا هاما في التنمية الاقتصادية العالمية, وهي تعمل اليوم بتركيز فائق الأهمية ولافت من حيث معاملاتها السياسية مع بقية الدول على تعزيز انفتاح قطاع الخدمات ثنائي الاتجاه.

حظيت فكرة بناء نموذج جديد للعلاقات الدولية على أساس التعاون المربح للجانبين بتقدير عالٍ واستجابة قوية من المجتمع الدوليويعتقد على نطاق واسع أن هذه الرؤية التي طرحتها الصين تهدف إلى تعزيز التعاون على أساس المصالح المشتركة وتجنب النزاعات وتسوية الخلافات أو التوصل إلى اتفاقات من خلال الحوار. إنها رؤية إيجابية متقدمة يمكن وضعها موضع التنفيذ. هذه هي الرؤية التي يحتاجها العالم, إن التزام الصين ببناء عالم جديد من العلاقات الدولية على أساس التعاون المربح للجانبين سيشجع الدول الأخرى على العمل في نفس الاتجاه لتعزيز التقدم البشري. عندما تصبح فكرة التعاون المربح للجانبين أكثر تجذرًا في أذهان الناس، سنكون قادرين على إقامة علاقات دولية شاملة ودائمة على أساس المساواة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق