التطبيع العربي وتوسع الاستيطان الإسرائيلي

جوزيف مسعد: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 26-12-2025
يمثل “تطبيع” العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل إحدى أهم أهداف السياسات الأمريكية في المنطقة؛ إذ من أهدافه محاصرة الفلسطينيين بحلفاء لمستعمريهم وحرمانهم من أي دعم خارجي.
وفي هذا السياق، شكّل اتفاق أوسلو عام 1993 نقطة تحوّل جوهرية في مسار القضية الفلسطينية، حيث حوّل منظمة التحرير الفلسطينية نفسها من حركة تحرير إلى أداة في يد الاحتلال الإسرائيلي لإحكام القبضة على الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة.
ورغم المراهنة على أن هذه الاستراتيجية ستساعد في القضاء على النضال الفلسطيني نهائيا، إلا أن استمرار المقاومة، الذي تجلّى بوضوح في عملية “طوفان الأقصى”، لم يدفع نحو مراجعة هذا المسار، بل أدى، على النقيض من ذلك، إلى تسريع وتيرته وتوسيع نطاقه.
لقد اتسع في الفترة الأخيرة نطاق التطبيع ليشمل دولا ذات أغلبية مسلمة، لم يسبق لها أن كانت في حالة حرب مباشرة مع إسرائيل، كما لم ترتبط بعلاقات دبلوماسية معها. وفي خطوة تعكس تسارع هذا المسار، أعلنت كازاخستان -التي للمفارقة تربطها علاقات دبلوماسية سابقة بإسرائيل- في نوفمبر 2025، انضمامها إلى “اتفاقيات أبراهام” لعام 2020.
وبالتوازي مع ذلك، أعلنت إندونيسيا، أكبر الدول الإسلامية من حيث عدد السكان، والتي لا تربطها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، نيتها “بدراسة” ملف التطبيع مع إسرائيل. وقد كشف لقاء وزيرة الخارجية الليبية بنظيرها الإسرائيلي في إيطاليا في أغسطس 2023، عن محاولات اختراق مشابهة، غير أن حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة عرقلت هذه الجهود التطبيعية الليبية.
إن التطبيع مع إسرائيل ليس استراتيجية جديدة ابتكرتها الولايات المتحدة، بل هو استراتيجية صهيونية أصيلة تعود جذورها إلى مطلع عشرينيات القرن الماضي. فقد ارتكزت استراتيجية المنظمة الصهيونية منذ ذلك الحين على مبدأ “إذا تعذر الحصول على تأييد الصهيونية من عرب فلسطين، فلا بد من نيله من عرب سوريا والعراق والسعودية، وربما مصر”. وبالنظر إلى المشهد الراهن، يبدو أن الإسرائيليين قد نجحوا فعلا في تحقيق اعتراف مزدوج من قادة الفلسطينيين والقادة العرب معا.
أخطأ زعيم الصهيونية التصحيحية، فلاديمير جابوتنسكي، في تقديره لحسابات القوة حين اعتبر الاستراتيجية الصهيونية في عشرينيات القرن الماضي مضللة؛ فقد كان يرى أنه لكسر إرادة الدول العربية في مقاومة الصهيونية “علينا أن نقدم لهم شيئا لا يقل قيمة. ولا يمكننا تقديم سوى أمرين: إما المال، أو المساعدة السياسية، أو كليهما”.
افترض جابوتنسكي أن الصهاينة لا يملكون المال الكافي، ولا يستطيعون تقديم الدعم السياسي للعرب في مواجهة الاستعمار، إذ “لا يمكننا التلاعب بمسألة إخراج بريطانيا من قناة السويس والخليج العربي، وإنهاء الحكم الاستعماري الفرنسي والإيطالي على الأراضي العربية. لا يمكن بأي حال من الأحوال التفكير في مثل هذه اللعبة المزدوجة”.
إلا أن الواقع التاريخي والراهن أثبت أن جابوتنسكي كان أسيرا لوهمٍ مفاده أن القيادات العربية قد تكون جادة في مناهضة الاستعمار، متجاهلا أنهم كانوا متعاونين مع الإمبريالية الغربية منذ تلك الفترة، كما هم عليه في يومنا هذا.
ما لم يدركه جابوتنسكي هو أن “المساعدة السياسية” الصهيونية المطلوبة لن تكون لمناهضة النفوذ الاستعماري، بل لترسيخ دور الإمبريالية وتعزيز قدرتها على حماية عروش الأنظمة الملكية العربية.
وبناء على هذه الحقيقة، لم تقتصر موجات التطبيع على الدول العربية التي وقعت اتفاقيات “سلام” معلنة وسرية مع إسرائيل منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وصولا إلى اتفاقيات أبراهام في عام 2020، بل إن محادثات التطبيع السرية في السنوات الأخيرة لم تقف عند ليبيا فحسب، بل شملت دولا كالعراق وتونس أيضا.
وبخلاف النظرة التشاؤمية التي حملها جابوتنسكي، يدرك الإسرائيليون ومعهم دونالد ترامب أن التطبيع مع الأنظمة العربية بات مسارا حتميا، بما في ذلك السعودية، التي لم تمنع حالة عدم التطبيع الرسمي من تنامي علاقاتها الحميمة مع إسرائيل.
تتبنى القوى المؤيدة للتطبيع في العالم العربي سردية تزعم بأن إقامة علاقات دبلوماسية ووديّة مع إسرائيل ستُترجم إلى أوراق ضغط عربية فاعلة، تهدف إلى انتزاع الحقوق الفلسطينية وإلزام إسرائيل بإنهاء احتلال أراضي عام 1967.
ويذهب مروجو هذه السردية إلى أن مثل هذه الخطوات ستؤدي أيضا إلى استقرار وازدهار إقليمي، إلا أن هذه الأوهام تتجاهل وقائع الأعوام الخمسين الماضية من التطبيع التي لم تجلب سوى الكوارث والحروب والتوسع الاستيطاني وتصاعد المقاومة والإبادة الجماعية للفلسطينيين. ولعل مراجعة موجزة لما آلت إليه مسارات التطبيع كفيلةٌ بتفكيك هذه التصورات الواهية وتفنيدها.
لعل من الأنسب أن نبدأ بجهود الفلسطينيين أنفسهم؛ ففي الفترة ما بين عامي 1973 و1977، انخرطت منظمة التحرير الفلسطينية (وتحديدا حركتا فتح والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) في مسار سياسي تمثل في عقد لقاءات في أوروبا مع أعضاء الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وشخصيات صهيونية يسارية، سعيا لفتح قنوات “حوار” غير رسمية.
طرحت منظمة التحرير الفلسطينية حينها مقترحات سرية للتفاوض مع الحكومة الإسرائيلية، تقوم على مبدأ إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والتخلي عن أي مطالب بأراضٍ “إسرائيلية”.
وقد أُرسلت هذه المقترحات مباشرة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحاق رابين، الذي رفضها رفضا قاطعا وحظر عقد أي اجتماع مع أعضاء المنظمة تحت أي ذريعة. وفي خضم التشكيك بالجدوى الاقتصادية للدولة المصغرة التي اقترحتها منظمة التحرير الفلسطينية، دافع عرفات في وقت مبكر من عام 1975 عن رؤيته بالقول:
“إن أميلكار كابرال يبني دولة مستقلة في غينيا بيساو، وهي من أصغر دول العالم وأفقرها. وينطبق الأمر نفسه على اليمنيين الجنوبيين الذين أسسوا جمهوريتهم رغم الظروف المزرية التي تمر بها بلادهم.”
إن التحوّل من استراتيجية التحرير الشامل إلى السعي وراء إقامة “دولة مستقلة” غيّر بشكل كبير جوهر النضال الفلسطيني. وبينما كانت المنظمة تسعى جاهدة لإثبات موقفها المعتدل للغرب، وتقديم تنازلات استراتيجية كعربون ثقة لعلها تحظى بفرصة المشاركة في المحادثات المستقبلية ومؤتمر جنيف المرتقب، تلقت صفعة غير متوقعة من القاهرة.
ففي نوفمبر 1977 قرر السادات كسر قواعد اللعبة المعلنة والعمل منفردا بغطاء أمريكي، متوجها مباشرة إلى إسرائيل، التي كان يتفاوض مع قادتها سرا، مستغلا وصول حزب “الليكود” اليميني بقيادة مناحيم بيغن إلى السلطة.
لم يكتفِ السادات بكسر حاجز المواجهة بزيارة إسرائيل، بل مَضى في كسر المحرمات السياسية عبر موافقته على إلقاء خطابٍ تاريخي أمام “الكنيست” في القدس المحتلة في وقتٍ كانت فيه دول العالم كافة تقيم سفاراتها في تل أبيب رفضا لضم القدس بشطريها.
وبسبب انفراد السادات بهذا القرار دون تنسيقٍ مع القوى العربية أو القيادة الفلسطينية، أدت مبادرته إلى إجهاض المساعي الدولية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي -الراعي المشارك لمؤتمر جنيف- بجانب الجهود العربية الرامية لحل إقليمي شامل.
وقد أدانت الدول العربية جميعها، ومعها منظمة التحرير الفلسطينية، خطوة السادات بوصفها تمهيدا لتسوية منفصلة مع إسرائيل (وهو المخطط الذي طالما سعى إليه الإسرائيليون لضرب وحدة الموقف العربي والاستفراد بكل طرف على حدة) بدلا من التوصل إلى حل إقليمي شامل لاستعمار الأراضي العربية المستمر.
ولم يتأخر الانفجار الدبلوماسي العربي، إذ بادر السادات فورا بطرد ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية من القاهرة، بينما ردت جامعة الدول العربية بطرد مصر من عضويتها في أبريل 1979، ونقلت مقرها من القاهرة إلى تونس، وقطعت غالبية الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع مصر.
لكن، ما إن أخرج السادات مصر من المعادلة العسكرية مع إسرائيل، وحتى قبل توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” سبتمبر 1978 ومعاهدة السلام اللاحقة في مارس 1979، حتى شنّ الإسرائيليون غزوا واسع النطاق على لبنان في مارس 1978، مستهدفين مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية الذين كانوا يشنون هجمات على المستعمرة-الاستيطانية.
انطلق الاحتلال في عدوانه وهو يدرك تماما أن ظهره بات محميا، وأن الجيش المصري لم يعد يشكل تهديدا لجبهته الجنوبية، فوجه آلته الحربية نحو مقاتلي منظمة التحرير في الجنوب اللبناني. وقد خلّف هذا الغزو دمارا هائلا؛ حيث قُتل أكثر من 4000 مدني فلسطيني ولبناني، وهُجّر ربع مليون إنسان شمالا، مما استدعى نشر قوات “اليونيفيل” الدولية على الحدود.
وفي خضم هذا العدوان، استعان الإسرائيليون بمتعاونين محليين في لبنان، وعلى رأسهم الرائد اللبناني المسيحي المنشق عن الجيش اللبناني سعد حداد، الذي أسس ما عرف بـ”جيش جنوب لبنان” الذي تحالف مع إسرائيل ضد منظمة التحرير الفلسطينية والقوى اللبنانية الوطنية واليسارية.
ورغم انسحاب الإسرائيليين جزئيا، إلا أنهم احتفظوا بشريط من الأراضي اللبنانية تحت مسمى “منطقة أمنية”، متخذة منه منطلقا لمواصلة استهدافها لقوات المنظمة على مدار أربع سنوات تالية، وهي الهجمات التي مهدت الطريق لاجتياحها الثاني والأوسع للبلاد عام 1982، والذي أفضى في نهاية المطاف إلى هزيمة المنظمة عسكريا وإخراجها قسرا من لبنان.
شملت المفاوضات المصرية الإسرائيلية بحث مستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الملف الذي أصرّ الطرفان على إفراده بإطارٍ خاص. وفي حين نَصّت معاهدة مارس 1979 على انسحابٍ إسرائيلي كامل من سيناء وتفكيك مستوطناتها مقابل تبادل السفارات وبقاء المنطقة منزوعة السلاح، لم يقدم “إطار كامب ديفيد” للفلسطينيين سوى وعودٍ بفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، تُنتخب خلالها “سلطة حكم ذاتي” محدودة الصلاحيات، مع بقاء الجيش الإسرائيلي وإعادة انتشاره داخل الأراضي المحتلة.
والمفارقة التاريخية الصارخة هنا هي أن مخطط “الحكم الذاتي” الذي عرضه الإسرائيليون في السبعينيات، لم يكن في جوهره سوى نسخة مُكررة لما اقترحه حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية، عام 1930؛ حيث اعتُبر آنذاك سقف ما يمكن أن يقدمه المستوطنون الصهاينة لأصحاب البلاد الأصليين.
إن هذا التطابق يكشف بوضوح أن الموقف الصهيوني ظلّ وفيّا لاستراتيجيته التوسعية طوال عقود دون تبديل؛ فمن تغير حقا هم العرب الذين انتقلوا من رفض المشروع الاستعماري إلى القبول بفتات الحقوق التي صاغها المستعمر قبل ذلك بنصف قرن.
واصل المصريون التفاوض مع الإسرائيليين والأمريكيين لإبرام “سلام شامل” في الشرق الأوسط، كان مقررا إتمامه في 26 مايو 1980، إلا أن المفاوضات لم تُستأنف ولم تُختتم، وطُويت القضية دون نتائج.
وخلافا لكل ما روجته -ولا تزال-الدعاية الساداتية حول “الفرصة التي أضاعها الفلسطينيون”، فإن الحقائق التاريخية تؤكد أن المقترح الإسرائيلي لم يتضمن أي إشارة لدولة فلسطينية، أو حقوق اللاجئين، أو مصير القدس. ولم يكن حق تقرير المصير يعني أكثر من الحكم الذاتي تحت الاحتلال، بل إن مناحيم بيغن صرّح علانية بنيته ضمّ الأراضي المحتلة بعد انتهاء الفترة الانتقالية.
ولم يتوقف الأمر عند استمرار الاستيطان، بل أطلق بيغن في عام 1979 برنامجا استيطانيا مكثفا استهدف قلب الحقائق الديموغرافية وضرب الوجود الفلسطيني في مقتل، سعيا لخلق أغلبية من المستوطنين اليهود تفرض واقعا يستحيل التراجع عنه.
لم تكن إسرائيل ترى في التطبيع المصري إلا ضوءا أخضر للاستفراد بالمنطقة؛ ففي أعقاب كامب ديفيد مباشرة، تحركت لضم القدس الشرقية رسميا في يوليو 1980، ثم أتبعتها بضم هضبة الجولان السورية في ديسمبر 1981، في تحدٍ صارخ لقرارات مجلس الأمن (478 و497) التي اعتبرت هذه الإجراءات باطلة ولاغية.
وفيما كانت منظمة التحرير تلتزم بوقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الأمم المتحدة عام 1981، كانت إسرائيل تنتهكه مرارا بغارات دموية على لبنان، ففي أبريل أدى القصف الإسرائيلي إلى قتل 25 شخصا وجرح ثمانين آخرين (ولم ترد منظمة التحرير الفلسطينية)، وبعد أسابيع قليلة أعادت الكرة مما أودى بحياة أحد عشر شخصا آخرين. هذه المرة، ردّت منظمة التحرير الفلسطينية دون إيقاع خسائر بشرية.
وفي يونيو 1981 شنّ الإسرائيليون غارة جوية دمّرت المفاعل النووي العراقي الذي لم يكن يمتلك قدرات إنتاج أسلحة نووية.
ورغم هذا السلوك العدواني، استمرت إسرائيل في الترحيب بالتنازلات الفلسطينية والمصرية المجانية دون التراجع عن رفضها منح الفلسطينيين أية حقوق. وفي هذا السياق، أعلن ولي العهد السعودي (آنذاك) الأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود في عام 1981 عن خطة سلام تعِد باعتراف الدول العربية بالمستعمرة الاستيطانية اليهودية مقابل إنهاء احتلالها للأراضي التي احتلتها عام 1967 والسماح بإقامة دولة فلسطينية.
كان المأمول من هذا العرض إزاحة إسرائيل من موقع العدو الأول للعرب واستبدالها بإيران، التي كانت قد نجحت ثورة شعبها للتو بالإطاحة بنظام الشاه الحليف الأول للولايات المتحدة. وبينما أشاد الأمريكيون بالخطة بحذر، ورحّب بها ياسر عرفات، واجهتها إسرائيل برفض قاطع رغم ترحيبها بالاعتراف السعودي والعربي بها.
استمدت إسرائيل من اتفاقيات كامب ديفيد وخطة الأمير فهد للسلام جرأة لشن غزو ثانٍ للبنان في حزيران 1982، والذي حصد أرواح نحو 20 ألف مدني فلسطيني ولبناني، وتسبب في نزوح نصف مليون لاجئ آخر. ولا يزال هذا النمط من الردود الإسرائيلية على التنازلات العربية ووعود التطبيع مستمرا ومعتمدا حتى اليوم. فقد قوبل مؤخرا استسلام الحكومة اللبنانية الحالية لإسرائيل والشروط الأمريكية للتطبيع المرتقب بمزيد من الهجمات الإسرائيلية على لبنان وبمزيد من احتلال أراضيه.
إن مراجعة مسار التطبيع بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، وبين الأردن وإسرائيل عام 1994، تكشف عن مأساة سياسية أعمق؛ إذ تحوّل الفلسطينيون عبر ما سمي بـ”السلطة الوطنية” إلى أداة قمع وظيفية لحماية أمن الاحتلال ضد شعبها. وبينما كان الأردن يوطد علاقاتٍ ودية مع الإسرائيليين، كان هؤلاء يمضون قدما في قضم الأرض الفلسطينية واستباحة المقدسات وتوسيع الاستيطان، وهو ما أدى إلى تفجير “الانتفاضة الفلسطينية الثانية” (2000-2005).
ورغم أن الانتفاضة أنهت فعليا أسطورة “عملية السلام”، إلا أن مفاعيلها أبقت على السلطة الفلسطينية كذراعٍ إداري وقمعي في يد الاحتلال، في حين استمر توسيع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع الأردن بمعزلٍ عن أي حقوقٍ للفلسطينيين.
جاء الرد الإسرائيلي على “اتفاقيات أبراهام” عام 2020، والتي شملت أربع دول عربية، بذات النهج؛ إذ منحت هذه الاتفاقياتُ إسرائيلَ تفويضا ضمنيا للاستفراد بالفلسطينيين والتنكيل بهم دون رادع، وصولا إلى ارتكاب حرب الإبادة الجماعية الحالية، التي لم تحرك حيالها الدول الموقعة ساكنا.
بل إن الواقع شهد مفارقة صادمة، حيث استمرت الدول الموقعة ومعها أطراف عربية أخرى في تقديم التسهيلات وتوسيع العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، على وقع القتل والإبادة الجماعية.
وخلافا للدعاية الأمريكية والعربية الموالية لها التي تروج للتطبيع كبوابة لاستقرار المنطقة، وتقويض المقاومة الفلسطينية، واستعادة بعض الحقوق الفلسطينية، فإن السجل التاريخي للتطبيع يثبت أنه لم يجلب إلا توسعا استيطانيا، واجتياحاتٍ كبرى، وصولا إلى الإبادة. بل إن الدول التي سعت للتطبيع لم تسلم من التهديدات المباشرة، كالأردن ومصر، وحتى قطر التي قُصفت رغم جهودها الوسيطة.
والمثير للدهشة أنه على الرغم من هذا السجل التاريخي المخزي، لا يزال دعاة التطبيع من العرب والمسلمين يمنون النفس بأن تُحقق جهود دونالد ترامب الحثيثة للتطبيع مع إسرائيل الاستقرار والسلام الإقليميين، وتحقيق “حل الدولتين” الفانتازي، متجاهلين أن تطبيع قطر الضمني لم يمنع إسرائيل من استباحة عاصمتها وقصف ومحاولة قتل أعضاء الوفد المفاوض في قلبها، كما لم تشفع توسلات قادة سوريا ولبنان الجدد للتطبيع مع إسرائيل في منع الأخيرة من قصف واجتياح وقتل مواطني بلديهما، واحتلال أراضيهما.
وفي خضم استمرار التطبيع العربي والإسلامي مع إسرائيل تحت ذريعة إحلال السلام والاستقرار، تظل الحقيقة الدامغة التي أثبتها “طوفان الأقصى” وصمود المقاومة والشعب في غزة والضفة والقدس، هي أن كل محاولات تدجين الفلسطينيين عبر التطبيع لم تكن إلا وهما تبدد أمام إصرار الفلسطينيين على المقاومة المستمرة لنيل حريتهم.



