مع تغيّر مجريات الحرب في السودان، تتصاعد الفظائع وتتعرّض الدبلوماسية للاختبار

إعداد عبد الفتاح حامد علي قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 11-11-2025
أدّى استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر إلى إطلاق العنان لانتهاكات جسيمة وتعميق الأزمة الإنسانية في السودان. وفي ظلّ تنافس الداعمين الأجانب وجمود الجهود الدبلوماسية الدولية، فإنّ الأمل في التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار أو انتقال سياسي يظلّ أمراً بعيد المنال.
عائلات سودانية نازحة نزحت إلى مخيّم العفاض، الذي أُنشئ حديثاً في مدينة الدبّة، ويقطنه آلاف النازحين الفارين من مدينة الفاشر ومناطق الاشتباك الأخرى في شمال دارفور، إثر استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، والتُقطت هذه الصورة في السادس من نوفمبر 2025.
يبدو أنّ ميزان القوى في الحرب السودانية يشهد تحوّلاً، واتّسعت معه دائرة الفظائع المروّعة ضد السكان المدنيين الذين يعانون منذ زمن طويل. ففي 26 أكتوبر، استولت قوات الدعم السريع، وهي ميليشيا شبه عسكرية، على مدينة الفاشر، عاصمة دارفور وآخر معاقل القوّات المسلّحة السودانية في الإقليم الغربي بعد حصارٍ استمر 18 شهراً.
وقد أعقبت ذلك تقارير عن جرائم حرب خطيرة، بما في ذلك إعدامات جماعية لجنود أُسرى، وعمليات اغتصاب، وهجمات على المدنيين وعاملي الإغاثة الإنسانية وإحدى المستشفيات، كثير منها وثّقه مقاتلو الدعم السريع أنفسهم. وفرّ مئات الآلاف من السكّان قبل سقوط المدينة وبعده مباشرة، ما فاقم الكارثة الإنسانية.
إنّ استيلاء قوات الدعم السريع على الفاشر ينقل خطوط القتال في السودان شرقاً نحو كردفان، ما يؤدّي إلى موجة جديدة من نزوح المدنيين وتفاقم ظروف المجاعة. غير أنّ ذلك يأتي أيضاً وسط جهود دبلوماسية متجدّدة تقودها واشنطن وعدد من الأطراف الفاعلة الإقليمية لإنهاء القتال، لتُظهر هذه التطوّرات إخفاق المجتمع الدولي في ترجمة المفاوضات إلى تغييرات ملموسة في سياساته أو إلى ضغط فعّال على الأرض.
التطلّعات مقابل الواقع: خريطة طريق الرباعية
في سبتمبر الماضي، وبعد أشهر من المفاوضات، ساعدت إدارة ترامب في التوصّل إلى وثيقة وُصفت بأنها “خريطة طريق” للسلام في السودان. وقد وقّع عليها كلّ من الولايات المتّحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة ومصر، وهي الدول المعروفة مجتمعةً باسم “الرباعية”. واتفق الأطراف الأربعة على خمسة مبادئ لدعم إنهاء الصراع، من بينها الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وانتقال مدني للسلطة خلال تسعة أشهر.
لكن منذ ذلك الحين، لم تُحرز الجهود الدبلوماسية أيّ تقدّم يُذكر. فبعد أسابيع من إعلان خريطة الطريق، رفض القائد العام للقوات المسلّحة السودانية، الفريق عبد الفتاح البرهان، المبادرة وعدّها أجندة أجنبية. وأصرّ على أنّ أي تسوية يجب أن تضمن الحفاظ على سلطة الجيش ومؤسّسات الدولة الوطنية، ما يعني فعلياً رفض أيّ انتقال سياسي يُهمّش المؤسّسة العسكرية. كما اشترط البرهان حلّ قوات الدعم السريع كشرط مسبق للسلام، معلناً رفضه لأيّ مفاوضات “إلّا لإنهاء التمرّد”.
وفي المقابل، كثّف قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي”، هجومه على الفاشر، مبدياً القليل من الرغبة في التفاوض. وأكّد قادة الدعم السريع أنّهم لا يثقون في التزام الجيش بأيّ اتفاق، وطالبوا بحلّ المؤسّسة العسكرية وإعادة هيكلتها. وبمعنى آخر، فإنّ معسكر حميدتي غير مستعد لإلقاء السلاح من دون ضمانات بألّا يعيد الجيش تنظيم صفوفه، وهو موقف تعزّزه قناعة الدعم السريع بأنّه لا يزال قادراً على تحقيق النصر عسكرياً.
قبل أيام قليلة من سقوط الفاشر، عقدت الولايات المتّحدة اجتماعاً ضمّ ممثلين عن الجيش والدعم السريع لإجراء محادثات غير مباشرة تمهيداً لاجتماع آخر للرباعية.
لا يُعزى فشل الجهود الدبلوماسية إلى تصلّب مواقف الأطراف على الأرض فحسب . فعلى الرغم من أنّ خريطة الطريق شدّدت على أنّ “إنهاء الدعم العسكري الخارجي أمرٌ أساسي لإنهاء الصراع”، إلّا أنّ هذا الدعم لم يتوقف.
فالسعودية ومصر، خوفاً من تداعيات تفكّك السودان إقليمياً ووعياً منهماً بتعقيدات المشهد القبلي والديني، تسعيان إلى دعم الجيش باعتباره آخر مؤسّسة وطنيةٍ قائمة. أمّا الإمارات، المتهمة بدعم قوات الدعم السريع سراً، فقد أكّدت ضرورة التوصّل إلى تسويةٍ سياسية تمنح الدعم السريع دوراً في مستقبل السودان. وقد دعا المستشار الرئاسي الإماراتي أنور قرقاش إلى “التفكير المتأني والواقعية”، مشدّداً على أنّ الانتقال التفاوضي وحده يمكن أن ينهي الحرب.
ومع تصاعد القتال وما خلّفه من “فظائع لا توصف”، تتزايد الضغوط على الإمارات بسبب دعمها العسكري لقوات الدعم السريع، وهو اتهامٌ تنفيه أبوظبي بشدّة. وقد وثّق تقرير مسرّب صادر عن الأمم المتّحدة في نوفمبر الماضي “نمطاً ثابتاً من الرحلات الجوية” التي تنطلق من الإمارات إلى تشاد، حيث تتفرع طرقٍ برّية عدة نحو السودان المجاور. كما اتّهم أحد كبار أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخراً الإمارات علناً بالمساهمة في إطالة أمدّ الأزمة من خلال تسليح الميليشيا سراً.
تبدو الأطراف الدبلوماسية وكأنها تتحرّك في اتجاهاتٍ متباينة. تسعى القاهرة والرياض إلى استغلال أزمة الفاشر للضغط من أجل ضمانات أمنية وعودة إلى الاستقرار في ظل إدارة عسكرية مدنية واسعة تحافظ على الدور المركزي للمؤسّسة العسكرية. بينما تركّز أبوظبي على أهمّية المفاوضات السياسية مع قوات الدعم السريع وحلفائها المدنيين، بما يتماشى مع مصالحها الإستراتيجية الإقليمية. أمّا واشنطن، فتركّز على الدفع باتجاه هدنة إنسانية، لكن منتقديها يرون أنّ تحقيق ذلك سيكون صعباً، وتنفيذه أصعب، في ظلّ الفظائع المستمرّة وتعقيد الوضع الميداني، خصوصاً وأنّها لم تفرض بعدُ أيّ إجراءات عقابية على الدائرة المقرّبة من حميدتي ومموّلي قواته.
التداعيات
منذ سقوط الفاشر وما رافقه من مجازر، يسارع الأطراف الخارجيون إلى البحث عن حلّ دبلوماسي. فقد اجتمع ممثلو “الرباعية” في واشنطن في اليوم التالي لاستيلاء قوات الدعم السريع على المدينة، ويبدو أنّ الاجتماع تمّ بالتنسيق مع بعض الأطراف الفاعلة على الأرض. وقد أكّد البيان المشترك مجدداً دعم خريطة الطريق التي أُعلنت في سبتمبر، وأعلن عن إنشاء آلية تنسيق جديدة للضغط نحو هدنة إنسانية، ووقف طويل الأمد لإطلاق النار، وإنهاء الدعم الخارجي لجميع الأطراف. غير أنّ نتائج الاجتماع لم تتعدّ إعادة التأكيد على الأهداف المشتركة، من دون اتّخاذ أيّ خطوات ملموسة لتصعيد الضغط على المتحاربين.
في الثالث من أكتوبر، قال المبعوث الأمريكي لشؤون العالمين العربي والأفريقي، مسعد بولس، إنّ واشنطن اقترحت هدنة جديدة، لم تُعلَن تفاصيلها بعد، وأنّ الأطراف وافقت عليها من حيث المبدأ، لكنها بحاجة إلى مناقشة تفاصيل التنفيذ وآليّاته.
منذ ذلك الحين، وافقت قوات الدعم السريع على المقترح الأمريكي، لكنها واصلت هجماتها. وفي الأثناء، رحّب وزير الدفاع السوداني بالجهود الأمريكية من أجل السلام، لكنه أكّد أنّ الجيش سيواصل قتال قوات الدعم السريع. ويبدو أنّ تحالف الجيش مع الجماعات المسلحة في دارفور وفصائل أخرى يدفع باتجاه مزيد من التصعيد. كما أنّ الإدانة الدولية الواسعة للانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في الفاشر تعزّز موقف الجيش، إذ تمكّنه من توظيف الغضب العالمي لتبرير رفضه المستمر لوقف إطلاق النار.
وقد دعا مفوض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان إلى إجراء تحقيقات «مستقلة» في فظائع الفاشر. كما أدان شركاء عرب وإسلاميون علناً، بينهم السعودية وتركيا وقطر، حملة القتل التي شنّتها قوات الدعم السريع، مطالبين بضبط النفس والسماح الكامل بدخول المساعدات الإنسانية.
وعلى الرغم من عودة النقاش الدبلوماسي إلى الواجهة، لا يزال التعاون العملي والاستجابة الفعلية غائبين. ولم تُفضِ الإدانات الدولية المتكرّرة إلى انسحاب قوات الدعم السريع من المناطق الحضرية، فضلاً عن إنهاء معاناة المدنيين وخوفهم المستمر. وفي الوقت نفسه، تشير التقارير إلى أنّ قوات الدعم السريع تواصل تقدّمها في شمال كردفان ودارفور، مشددةً الحصار على مدن مثل الأبيض وبابنوسة في غرب كردفان.
ثمن التردّد
لطالما تميّز ميدان الحرب في السودان بعدم التوازن، سواء بين الجيش النظامي والميليشيات، أو بين العواصم المزوّدة بالسلاح والمدن الحدودية المعزولة. إلّا أنّ ميل قوات الدعم السريع إلى الوحشية، إلى جانب قدراتها العسكرية، قد عمّق هذا الخلل تعميقاً غير مسبوق. ومع ذلك، فإنّ أيّ حلّ طويل الأمد سيبقى مرهوناً بالبنية العسكرية القائمة في السودان. فالقوات المسلّحة السودانية، والميليشيات المتحالفة معها، وعلى الرغم من عيوبها، تظلّ القوة الوطنية الوحيدة القادرة على الحفاظ على قدر من النظام. وإذا انهار النظام الحاكم كلياً أو تفكّك بفعل التمردات، فلن يبقى ما يمكن أن يحلّ محله سوى إقطاعيات إقليمية متناحرة.
فضلاً عن ذلك، كلّما طال أمدّ الحرب، تضاءلت احتمالات التوصّل إلى انتقال تفاوضي نحو الحكم المدني. وتُقدّر الأمم المتّحدة أن نحو 13 مليون سوداني قد نزحوا منذ اندلاع القتال، أيّ ما يقارب ربع السكان، وأنّ المجاعة أو شبه المجاعة تلتهم مناطق واسعة من دارفور وكردفان ومناطق أخرى. وقد تبدّدت أي آمال سابقة في أن يشكّل وقف قصير لإطلاق النار فرصة للتعافي السريع، إذ يتجه مسار الحرب بثبات نحو مزيد من التفتت والانقسام.
ويحذّر الخبراء من أنّه إذا تمكّنت قوات الدعم السريع من ترسيخ سيطرتها في دارفور وتقدّمت شرقاً نحو كردفان، سيواجه السودان خطر الانقسام على طول خطوط الصدع القائمة. وستكون لمثل هذا الانهيار تداعيات إقليمية مزلزلة: فقد تنشأ طرق جديدة للجوء والتهريب نحو تشاد وجنوب السودان وليبيا ومصر، ما سيزيد الضغط على هذه الدول الحدودية ويهدّد استقرارها الداخلي. وتخشى الحكومة المصرية، التي وضعت قواتها في حالة تأهب منذ استيلاء الدعم السريع على المثلث الحدودي بين السودان وليبيا، من أن تؤدّي توغلات مدعومة من المتمرّدين أو موجات نزوح جماعي إلى تهديد أمن النيل والأمن القومي المصري. بعبارة أخرى، إنّ ثمن تردّد الرباعية الدولية كارثي: فقد يقترب الوقت الذي تتجاوز فيه الحرب أيّ عملية دبلوماسية، وتتحوّل فيه المآسي المحلّية إلى أزمات تمتد آثارها إلى ما وراء حدود السودان.
يمتلك الرعاة الخارجيون أدوات ضغط حقيقية؛ فمجرّد سحب دعمهم أو تنسيق سياساتهم كفيل بممارسة ضغط فعّال على قوات الدعم السريع، لكنهم لم يفعلوا ذلك بجدّية حتى الآن. ويهدّد استمرار الدعم الأجنبي للقوى المتنازعة بتكريس أمرٍ واقعٍ على الأرض، وهي نتيجةٍ قد تؤدّي إلى تفكّك السودان من دون أيّ اتفاق سياسي. وفي نهاية المطاف، يتعيّن على الرباعية الدولية أن تُترجم بياناتها الموحّدة إلى تحرّك منسّق وملموس قبل أن تصل الأوضاع داخل السودان إلى نقطة اللاعودة.
المصدر: مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية



