بوتين – الشّرع: لقاء المصالح وسيادة الممكن

إعداد أمين قمورية: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 19-10-2025
في الصالة الخضراء، القاعة الأفخم في الكرملين، كان المشهد لافتاً: الرئيس فلاديمير بوتين يستقبل الرئيس أحمد الشرع في مراسم تعمّدت موسكو أن تُظهر فيها الحفاوة بالضيف السوريّ. بدا أنّ أعداء الأمس التقوا إلى طاولة مصالح الحاضر وفرص المستقبل. روسيا تسعى إلى الاستمرار، وسوريا تحاول أن تبدأ من جديد.
إنّها مرحلة إدارة العلاقات المتوازنة بدل الارتهان لتحالفات التبعيّة. من هنا لم تعد الزيارة حدثاً دبلوماسيّاً عابراً، بل لحظة فاصلة بين زمنين: زمن كانت موسكو تملي فيه شروطها عبر القوّة العسكرية، وزمن تُفاوض فيه بلغة الدبلوماسيّة لتبقى في سوريا وتحدُّ من نفوذها من دون أن تفقده.
من مفارقات الزيارة أنّ الشرع كان في موسكو على بُعد أمتار من مكان وجود بشّار الأسد المخلوع: الأوّل يفاوض لفتح صفحة جديدة مع الروس، والثاني يعيش تحت مظلّة حمايتهم. في تلك اللحظة تلاقى الحاضر مع الماضي، وذاكرة القصف مع طموحات الإعمار. مشهدٌ مكثّف يلخّص مسار الحرب السوريّة بكلّ تناقضاتها، ويضع روسيا أمام سؤالها الصعب: كيف يمكن الانتقال من رعاية نظام متهالك إلى شراكة مع دولة تبحث عن شرعيّة جديدة؟
ليس التفاوض مع دولة كبرى مثل روسيا مهمّة سهلة، خصوصاً في ظلّ عدم اكتمال بناء مؤسّسات الدولة السوريّة السياسية والعسكرية
المعادلة الرّوسيّة: مصالح لا عواطف
ترى موسكو أنّ المسألة ليست أخلاقيّة بل مصلحيّة بحتة. هي التي دعمت الأسد لعقدين كاملين لا تريد أن تظهر بمظهر القوّة التي تتخلّى عن حلفائها بسهولة، لكنّها في الوقت ذاته تدرك أنّ المستقبل السوريّ لا يمكن أن يُبنى فوق رماد الشرعيّة القديمة. بالنسبة إليها، سوريا ليست حليفاً وحسب، بل قاعدة ارتكاز استراتيجيّة في الشرق الأوسط.
باتت القواعد الروسيّة في طرطوس وحميميم خطّاً أحمر، وتوفّر لموسكو منفذاً دائماً إلى البحر المتوسّط ومنها إلى شمال إفريقيا ووسطها، ونقطة ضغط في مواجهة الناتو وتركيا وإسرائيل. لذلك تتعامل موسكو مع زيارة الشرع باعتبارها فرصة لإعادة التموضع: تثبيت المكاسب التي حقّقتها منذ تدخّلها العسكريّ عام 2015، وتحويل نفوذها العسكريّ المؤقّت إلى حضور سياسيّ واقتصاديّ دائم، مع الحفاظ على موقعها شريكاً فاعلاً في قرارات المنطقة.
سوريا الجديدة: اختبار السّيادة الممكنة
في المقابل، تبحث سوريا الجديدة عن مصالحها. تريد إعادة تعريف العلاقة مع دولة كبرى، والانتقال من التبعيّة إلى التوازن بين السيادة الوطنيّة والمصالح الخارجيّة. شكّلت الزيارة اختباراً لقدرة دمشق على اتّخاذ قراراتها باستقلاليّة، والتحرّر من عبء الضغوط الخارجيّة، مع الاعتراف بواقعيّة الحاجة إلى الخارج في مرحلة إعادة الإعمار والانتقال السياسيّ الصعب.
لكنّ هذا التحوّل ليس بلا أثمان: هل يمكن لسوريا أن تطوي صفحة الحرب من دون أن تمحو ذاكرة الألم؟
هل يمكن أن تترك لروسيا وجودها العسكريّ على أراضيها من دون أن تُطالبها بـ”كفّارة” عن سنوات القصف والمعاناة؟
الشّرع: براغماتيّة السّيادة المحسوبة
أظهر الشرع منذ وصوله إلى السلطة براغماتيّة عالية في التعاطي مع القوى الدوليّة. يدرك أنّ روسيا لا تزال ضرورة، لكنّه لا يريد أن يظهر بمظهر التابع لها. حاول أن يعتمد خلال زيارته لموسكو نهج “السيادة المحسوبة” الذي يحافظ على الدعم الروسيّ من موقع الشراكة لا التبعيّة.
في خطابه أمام مجلس الأعمال الروسيّ – السوريّ، ركّز على ضرورة “إعادة تعريف العلاقة بين البلدين” و”احترام السيادة السوريّة الكاملة في القرارات الوطنيّة”. قال أحد المقرّبين منه: “يدرك الشرع أنّ السوريّين في الداخل والعالم العربي يريدون رئيساً لا يتلقّى التعليمات من الخارج، لذلك كانت الزيارة محاولة لطمأنة الداخل قبل الخارج.”
عكست الزيارة، بكلّ أبعادها الرمزيّة والسياسيّة، إدراك الطرفين أنّ مرحلة جديدة بدأت: موسكو لم تعُد قادرة على فرض إرادتها بالقوّة، ودمشق لا تملك ترف القطيعة مع دولة مؤثّرة. هكذا تلاقت المصالح في منتصف الطريق، بين روسيا التي تبحث عن تثبيت نفوذها بهدوء، وسوريا التي تسعى إلى استعادة سيادتها بصمت.
استثمارات بلا دبابات..
فيما عرضت موسكو مشاريع لإعادة الإعمار في مجالات الطاقة والنقل والموانئ، تعهّدت دمشق بضمان استمرار الامتيازات الروسيّة في قطاعَي النفط والغاز، إضافة إلى تطوير مناطق صناعيّة مشتركة في الساحل السوريّ.
يعلّق خبير الاقتصاد الروسيّ ألكسندر شوميلين على ذلك بالقول: “العلاقة بين موسكو ودمشق انتقلت من منطق الحماية مقابل الولاء، إلى منطق المصالح الاقتصاديّة المتبادلة. روسيا اليوم تبني نفوذها في سوريا عبر الاستثمارات لا الدبّابات.”
لا تسليم للأسد لكنّ نظامه انتهى
من أكثر النقاط حساسيّة في الزيارة ما تسرّب عن طلب الشرع من موسكو تسليم بشّار الأسد أو على الأقلّ منعه من الاضطلاع بأيّ دور سياسيّ في المرحلة المقبلة. لاحظ متابعون للزيارة أنّ الطلب كان رمزيّاً أكثر منه عمليّاً، هدفه تأكيد أنّ العهد السابق انتهى بلا رجعة.
من الطبيعي أن ترفض موسكو الفكرة، لكنّها هذه المرّة لم تدافع عن الأسد كما كانت تفعل في الماضي. كان موقفها براغماتيّاً: “لا مانع من طيّ صفحة الأسد، شرط أن تبقى المصالح الروسيّة مصونة”. هكذا فُتحت أبواب مرحلة “ما بعد الأسد” من دون قطيعة أو مواجهة.
ملفّات القواعد والسّلاح
حلّت ملفّات القواعد العسكريّة والتسلّح في صدارة جدول الأعمال. سوريا الجديدة، التي تأذّت من السلاح الروسيّ، لا تستطيع الاستغناء عنه بعد، في ظلّ العقوبات الأمميّة والضغوط الإسرائيليّة لمنع دمشق من إعادة التسلّح.
تعيد الحكومة السوريّة تشكيل جيشها وقواها الأمنيّة المدمّرة لمواجهة تحدّيات أمنيّة صعبة، وترسانتها الباقية روسيّة الصنع وتحتاج إلى ترميم وصيانة وذخائر. الطرف الوحيد القادر على تلبية هذه الحاجات هو موسكو.
لم يكن السلاح الروسيّ حكراً على جيش النظام السابق، بل كان لدى بعض فصائل المعارضة، وهو ما يجعل إعادة تنظيمه وتداوله مسألة واقعيّة أكثر منها سياسيّة.
في المقابل، تتمسّك موسكو ببقاء قواعدها العسكريّة، خصوصاً في حميميم وطرطوس اللتين توفّران لها دعماً لوجستيّاً في البحر المتوسّط وشمال إفريقيا ووسط القارّة السمراء. ثمّة مصلحة سوريّة ببقاء هذه القواعد لضمان توازن العلاقات بين أقطاب الصراع الدوليّين ضمن أطر القانون والسيادة.
تحتاج عمليّة الاستقرار في سوريا إلى موقف روسيّ إيجابيّ يساهم في توفير الأسلحة والوقود والقمح، علاوة على الدور الروسيّ الحيويّ في مجلس الأمن لرفع العقوبات وتعديل تصنيف سوريا الدوليّ. ويمكن لموسكو أن تضطلع بدور سياسيّ في الضغط على إسرائيل للحدّ من انتهاكاتها المتواصلة للسيادة السوريّة.
ثمّة أنباء عن طلب الشرع من بوتين نشر وحدات من الشرطة العسكريّة الروسيّة في الجنوب السوريّ لردع إسرائيل، ورفض مطالب تل أبيب بإنشاء “منطقة منزوعة السلاح” واسعة النطاق هناك.
قد يخلق إخراج روسيا عسكريّاً بشكل متسرّع فراغاً تستغلّه قوى إقليميّة أخرى، أو يؤسّس لمرحلة اضطرابات جديدة، خصوصاً في مناطق الساحل. لا تزال موسكو تمتلك أوراق ضغط قويّة في الداخل السوري، بحكم علاقاتها الوثيقة برموز النظام السابق وشبكتها الاستخباريّة الواسعة، وقدرتها على اللعب على تناقضات العلاقة بين دمشق وقوّات سوريا الديمقراطية “قسد”. لذلك من مصلحة دمشق تدارك هذه المخاطر وكسب موسكو إلى جانبها في سعيها إلى تثبيت وحدة البلاد واستقرارها.
ماذا عن الاتّفاقات السّابقة؟
على الرغم من تأكيد الشرع في موسكو التزامه جميع الاتّفاقات السابقة مع روسيا، إلّا أنّ بعض هذه الاتّفاقات ظالمة بحقّ سوريا. من أبرزها العقد المبرم مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسيّة، الذي يمنح موسكو حقّ استغلال مناجم فوسفات الشرقيّة في تدمر لمدّة خمسين سنة، بطاقة إنتاج 2.2 مليون طن سنويّاً، تُقسم أرباحها بنسبة 70% للشركة الروسيّة و30% لسوريا. وحصلت الشركة نفسها على امتياز تشغيل وإدارة مجمّع الأسمدة في حمص، وهو الوحيد في البلاد، لمدّة تفوق أربعين عاماً.
تضاف إلى ذلك اتّفاقات حول الاستكشاف البحريّ النفطيّ، وملفّ الديون الروسيّة الغامض، إضافة إلى بنود مثيرة للجدل تتعلّق بـ”حصانة الأفراد والمواقع”، التي تُحصّن الجنود الروس من الولاية القضائيّة السوريّة وتمنع تفتيش الطائرات والسفن والمركبات الروسيّة.
في أيّ حال، ليس التفاوض مع دولة كبرى مثل روسيا مهمّة سهلة، خصوصاً في ظلّ عدم اكتمال بناء مؤسّسات الدولة السوريّة السياسية والعسكرية، وعدم بسط سيطرتها على كامل أراضيها، وموقعها في وسط التجاذب الإقليميّ والدوليّ يجعلها جزءاً من عمليّة أوسع لإعادة تشكيل المشهد الإقليميّ والتنافس الحادّ بين القوى الكبرى.