موسكو تقدم نفسها كوسيط موثوق لدى العالم العربي…وتستشرف سياساتها المقبلة وأدوات نفوذها

إعداد وفاء بن موسى: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 17-10-2025
بعد لقاء لافروف مع صحفيين عرب: موسكو تقدم نفسها كوسيط موثوق لدى العالم العربي…وتستشرف سياساتها المقبلة وأدوات نفوذها
على هامش لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع عدد من الصحفيين العرب في موسكو يوم 13 أكتوبر الجاري، قدّم لافروف مزيجاً من المواقف الواضحة والعبارات المرنة، كاشفاً عن ملامح استراتيجية روسية جديدة في عدد من الملفات الحساسة: القضية الفلسطينية بعد المستجدات الأخيرة وخطة ترامب، ملف الصحراء الغربية، وتعزيز الحضور الروسي في أفريقيا والعالم العربي.
روسيا كوسيط “محايد” يبني النفوذ عبر القانون الدولي
من خلال اللقاء المباشر مع الصحفيين العرب وتقبّل أسئلتهم واستفساراتهم، أعاد لافروف تأكيد مواقف موسكو القائمة على قرارات الأمم المتحدة ومبدأ الشرعية الدولية. ويبدو أن الكرملين يسعى إلى تقديم نفسه كوسيط “محايد” نسبياً، طرفٍ يمكن الوثوق به في المنطقة العربية، يحترم القانون الدولي لكنه في الوقت نفسه ينسج قنوات ثنائية مع عواصم عربية وازنة مثل القاهرة، الرياض، الجزائر، والرباط.
هذا التوجه يتيح لموسكو فرصة العودة إلى طاولة الحلول الإقليمية وإعادة بناء نفوذها الدبلوماسي في وقتٍ تتراجع فيه قدرتها على التأثير في بعض الملفات بسبب ضغوط الحرب في أوكرانيا.
القضية الفلسطينية: موسكو تبحث عن موقع بين المبادئ والبراغماتية
فيما يخص القضية الفلسطينية، كانت إجابات لافروف لافتة من حيث التوقيت والمضمون. فقد وصف الخطط الغربية-بما فيها “خطة ترامب” – بأنها “غامضة” وغير واقعية في ما يتعلق بإقامة دولة فلسطينية، مؤكداً أن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية هو خطوة ضرورية لحل دائم وعادل.
لافروف انتقد بشدة “ازدواجية المعايير الغربية” التي، حسب قوله، تدين الحرب في أوكرانيا بينما تصمت عن “المجازر في غزة” وعن الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة. واعتبر أن استمرار الاحتلال وتقويض وكالة الأونروا والحصار على غزة كلها عناصر تضعف النظام الدولي وتكشف انهيار مفهوم العدالة الأممية.
ورغم انتقاده لإسرائيل، حرص لافروف على عدم القطيعة معها، مشيراً إلى أن موسكو ما زالت تؤمن بإمكانية العودة إلى مسار سياسي تحت مظلة الأمم المتحدة أو الرباعية الدولية المعدلة. بهذا الموقف، تحاول روسيا تثبيت توازن دقيق بين دعمها التاريخي للحقوق الفلسطينية وبين إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع تل أبيب، خصوصا في ظل تنسيقها العسكري المستمر في الأجواء السورية.
ويقرأ هذا الموقف في سياق مسعى روسي لاستثمار تراجع الدور الأميركي في المنطقة، وإظهار موسكو كقوة تدافع عن الشرعية الدولية وعن “حل الدولتين” الذي بات غائبا من الأجندة الغربية. كما تراهن روسيا على دعمها السياسي والإنساني لغزة لكسب تعاطف الشارع العربي، وتعزيز موقعها ضمن محور القوى الرافضة للهيمنة الأميركية (الصين، إيران، وبعض الدول العربية المستقلة).
“الصحراء” لأول مرة: مبدأ تقرير المصير بمقاربة براغماتية
حول ملف الصحراء الغربية، أعلن لافروف ولأول مرة موقفا أكثر وضوحا، مؤكدا أن موسكو “ستدعم حلولا ترضي جميع الأطراف” ومشددا على وجوب تطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بتقرير المصير.
وفي الوقت نفسه، أدار لافروف تحركات دبلوماسية نشيطة مع الأطراف الإقليمية، أبرزها لقاءه بوزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، في مؤشر على سعي روسي لإيجاد توازن جديد في هذا الملف.
ورغم تمسّك موسكو بمبدأ تقرير المصير، فإنها لا تغلق الباب أمام حلول واقعية مثل مبادرة الحكم الذاتي المغربية، طالما تمت في إطار تفاوضي برعاية الأمم المتحدة. إنها معادلة روسية تجمع بين “المبدأ” و”البراغماتية”، تتيح لموسكو التحرك من دون الدخول في صراعات مفتوحة مع حلفائها الإقليميين، مع الاحتفاظ بصورة “الوسيط القانوني”.
تعميق النفوذ في افريقيا
لافروف لم يخف نوايا بلاده في افريقيا خاصة أن تحركات موسكو في منطقة الساحل وشمال أفريقيا تعكس انتقالها من مرحلة النفوذ الأمني عبر “فاغنر” إلى مرحلة التغلغل الرسمي من خلال وحدات مرتبطة بوزارة الدفاع مثل “Africa Corps”، إلى جانب توقيع اتفاقيات تعاون عسكري وتقني مباشر مع حكومات أفريقية.
في المقابل، تعمل موسكو على تعزيز حضورها الاقتصادي والثقافي عبر تسهيل التأشيرات وتنظيم قمم روسيا–أفريقيا وروسيا–العالم العربي (التي تأجلت في آخر وقت بسبب قمة شرم الشيخ حول غزة)، بما يعزز “قوتها الناعمة” ويفتح أسواقا بديلة في مواجهة العقوبات الغربية.
أدوات النفوذ وحدودها
الواضح من خلال تصريحات وزير الخارجية لافروف، فان موسكو توازن في سياستها الخارجية بين ثلاثة مستويات: القانون الدولي والوساطة السياسية وهو ما تعتمده في ملفي فلسطين والصحراء الغربية، القوة الصلبة وهو ما تعتمده فيما يتعلق بالتعاون العسكري والأمني في أفريقيا، والقوة الناعمة عبر استعمال الثقافة، التعليم، الطاقة، والاتصال الإعلامي مع الشعوب.
لكن نجاح هذه السياسة يبقى رهين قدرتها على تجاوز العقبات المالية والعسكرية التي فرضتها الحرب في أوكرانيا، وإعادة بناء الثقة مع شركاء متوجسين من تجربة “الشركات الأمنية الخاصة”.
عموما، لم يكن لقاء لافروف مع الصحفيين العرب حدثا بروتوكوليا فحسب، بل رسالة سياسية مركبة أرادت موسكو من خلالها تأكيد عودتها إلى المشهد العربي كقوة “قانونية-واقعية” في آن واحد.
وفي القضايا الساخنة من فلسطين إلى الصحراء مرورا بأفريقيا، تواصل موسكو المزج بين المبدأ (الشرعية الدولية) والبراغماتية (التسويات العملية)، ساعية إلى تثبيت حضورها كقوة دولية لا غربية تحاور الجميع وتواجه خصومها بالسياسة أكثر من السلاح.
لكن مدى فاعلية هذه الاستراتيجية سيبقى مرهونا بقدرة روسيا على تحويل تصريحاتها إلى مبادرات ملموسة وشراكات موثوقة مع العواصم العربية والأفريقية في زمن يعاد فيه تشكيل ميزان القوى الدولي.