أخبار العالمبحوث ودراسات

لاسلو كراسناهوركاي.. “نوبل الأدب” لكاتبٍ من حافة القيامة

في زمنٍ يتسارع فيه كلّ شيء وتضيق فيه فسحات التأمّل، تعود “جائزة نوبل في الأدب” لتعلن وفاءها العميق لجوهرها الأوّل: مكافأة الأدب الذي يُزعج لا الذي يُرضي، والذي يجعل القارئ شريكاً في مساءلة العالم لا متلقّياً لطمأنينته، فقد منحت الأكاديميّة الملكيّة السويديّة للعلوم، الخميس 09 أكتوبر 2025، جائزتها لعام 2025 للكاتب المجريّ لاسلو كراسناهوركاي، “تقديراً لنتاجه الرؤيويّ المذهل الذي يعيد تأكيد قوّة الفنّ في قلب رعبٍ يشبه نهاية العالم”.

بهذا التكريم، يكرّس كراسناهوركاي، البالغ من العمر 71 عاماً، مكانته كأحد أبرز الأصوات والأقلام التي حوّلت الأدب إلى مختبر فلسفيّ للبحث في هشاشة الوجود الإنسانيّ، وإلى مرآة للقلق الفكريّ والأدبي والثقافيّ الذي لا يجد عزاءه إلّا في اللغة.

الكتابة على الحافة: عندما يصبح الخراب جمالاً

تقول الأكاديميّة السويديّة إنّ كراسناهوركاي استطاع أن “يخلق رؤية أدبيّة كونيّة تتجاوز الحدود الجغرافيّة واللغويّة”. فهو يكتب من خاصرة أوروبا الوسطى، لكنّ صداه يتردّد في وجدان العالم كلّه. في أعماله، تتقاطع العبثيّة الوجوديّة مع النزعة الكارثيّة التي تحيل القارئ إلى ظلال فرانز كافكا وتوماس برنهارت، غير أنّ لغته تحتفظ بإيقاع خاصّ ينهض من التاريخ المجريّ وانكساراته السياسيّة.

يكتب لاسلو كراسناهوركاي من منطقة اهتزاز دائم، حيث تتهاوى القيم وتضيع الحقيقة في زحام الخراب الروحيّ والحضاريّ. وبين السخرية السوداء والتأمّل الميتافيزيقيّ، يشيّد عالماً يتداعى في بطء كأنّ الكتابة عنده ليست سوى محاولة لالتقاط أنفاس الكون قبل سقوطه الأخير. وإذ كانت لغته تمتلك نغمةً خاصّةً تنبثق من تقاليد أوروبا الوسطى ومن انكساراتها التاريخية والسياسيّة، فقد ظلّت في كلّ أعماله تراوح بين السخرية السوداء والعمق الفلسفيّ.

بهذا التكريم، يكرّس كراسناهوركاي، البالغ من العمر 71 عاماً، مكانته كأحد أبرز الأصوات والأقلام التي حوّلت الأدب إلى مختبر فلسفيّ

أدب يقاوم الفناء

تبلغ قيمة الجائزة نحو 11 مليون كرونة سويدية (ما يعادل 1.2 مليون دولار)، لكنّ معناها في حالة كراسناهوركاي يتجاوز المال بكثير. إنّها اعتراف رمزيّ بقدرة الأدب على المقاومة، بتلك القوّة الخفيّة التي تحوّل العدم إلى شكلٍ من أشكال الوعي والإدراك.

كراسناهوركاي

الأديب والروائيّ الذي اشتهر بجمله الطويلة المتشابكة وبأسلوبه الذي يرهق القارئ بقدر ما يسحره، يرى أنّ الكتابة “تأمّل في الواقع إلى حدّ الجنون”. وهذا الجنون عنده ليس انكساراً، بل طريق معرفةٍ جديدة، حيث تتحوّل الفوضى إلى نظامٍ جماليّ صارم، وتصبح اللغة أداة لالتقاط الهاوية بدل السقوط فيها. وهذا التوصيف ليس مجازاً بل هو تلخيص لتجربة أدبيّة تقوم على الحفر في تفاصيل الخراب الإنسانيّ، حيث يتحوّل الجنون ذاته إلى شكل من أشكال المعرفة.

من غيولا إلى العالم: سيرة تكتبها الرّيح

وُلد لاسلو كراسناهوركاي عام 1954 في مدينة غيولا جنوب شرق المجر، في ظلّ نظامٍ شيوعيّ، فما كان منه إلّا أن جعل الأدب ملاذاً وتمرّداً في آن واحد. بدأ مسيرته في الثمانينيّات بروايته الأولى “نهاية الرواية” (1985)، التي لفتت الأنظار إلى صوتٍ سرديٍّ مختلف، سرعان ما تحوّل إلى ظاهرة أدبيّة مجريّة وأوروبيّة. ثمّ جاءت أعماله اللاحقة مثل “القديس لا شيء” و”الطريق نحو الشيطان” لتكرّس حضوره ككاتب يرى في الانهيار شرطاً للخلق.

أمّا روايته الرمزيّة “ميلانختولوز” أو “ميلانختوليا المقاومة” (1989) فكانت رواية رمزيّة عن تفكّك المجتمع وانهيار النظام في بلدة مجريّة غريبة حين يصل إليها سيرك غامض يحمل جثّة حوت هائل. فكانت الرواية تمثّل تشريحاً للسلطة، والهوس الجمعيّ، والعنف، وقد تحوّلت أيضاً إلى فيلم المخرج بيلا تار الشهير “هارمونية فيركمايستر” عام 2000.

لم يكن الأدب منفصلاً عن الصورة في مسيرته، فقد تعاون مع المخرج المجريّ بيلا تار، الذي حوّل بعض نصوصه إلى أفلام تُعدّ من علامات السينما الطليعيّة الأوروبيّة. في تلك الشراكة، وجد كراسناهوركاي امتداداً بصريّاً لفلسفته في السرد: أن تُعيد ترتيب العالم من خلال شظاياه، وأن تكتب بالصورة كما تُكتب القصيدة.

في كتابه “حرب وحرب” (1999) صاغ لاسلو كراسناهوركاي رواية فلسفيّة عن موظّف أرشيف يُصاب بـ”جنون فكرة الخلود الأدبيّ”، فيسافر إلى نيويورك لنشر مخطوطة غامضة يرى فيها خلاص البشريّة. في هذا النصّ كان تأرجحٌ بين الهوس، الهذيان والتأمّل الميتافيزيقيّ في معنى التاريخ والكتابة. هذا علاوة على روايته “البرج” عام 2003 التي كانت رواية تأمّليّة في العزلة، الروحانيّة والزهد، يستلهم فيها الكاتب الشرق الآسيويّ والبوذيّة.

بين الشّرق والخراب: لغته تتنفّس من الصّمت

تُشير الأكاديمية السويديّة إلى أنّ في نتاج كراسناهوركاي أكثر من وجهٍ واحد. فخلف السواد الميتافيزيقيّ الذي يغلّف نصوصه، ميلٌ خفيّ إلى تأمّلٍ صوفيّ وإلى نظرةٍ مائلة نحو الشرق. تتبدّى لغته أحياناً كصلاةٍ باردة، وأحياناً كصرخةٍ من قلب العدم. هذا التوازن بين الخراب والتسامي، بين السخرية والصفاء، هو ما يجعل أدبه عصيّاً على التصنيف، متحرّراً من المدارس والتيّارات.

كأنّ كراسناهوركاي يكتب من على حافة العالم، لا ليصف سقوطه، بل ليقيس مقدار الضوء الذي يبقى في العتمة.

أدبٌ لا يطلب التّصفيق ونوبل تُنصت إلى الهاوية

في المجر، يُعدّ كراسناهوركاي أعظم كاتب على قيد الحياة، وفي ألمانيا يُقرأ بشغفٍ نادر، حيث وجدت لغته المترجمة جمهوراً واسعاً من القرّاء والباحثين. أمّا في أوروبا عامّةً، فهو يُجسّد استمراراً لتقليدٍ أدبيّ يرى في الأدب معقلاً من معاقل الفلسفة، ومساحةً لمساءلة المعنى بعدما فرغت الأيديولوجيات من وعودها.

هو كاتب لا يسعى إلى الإرضاء، بل إلى التصديع والخلخلة. فالرجل في رواياته وكتبه يضع القارئ أمام هشاشته الخاصّة، في عالمٍ تتساقط فيه الحقائق كما تتساقط أوراق الخريف. أدبه لا يقدّم أجوبة، بل يعيد صياغة السؤال الأبديّ: ما الذي يجعل الإنسان يصمد أمام عبث الوجود؟

تكمن رمزيّة هذا التتويج في أنّه يعيد الاعتبار للأدب الذي يغامر بالأسئلة الكبرى، ويذكّر بأنّ وظيفة الفنّ ليست التجميل والتزيين بل كشف التصدّعات والشقوق في جدار العالم.

وباختيار كراسناهوركاي، تقول الأكاديمية السويديّة إنّ الأدب لا يزال قادراً على النظر إلى العدم وفيه، من دون أن يفقد اتّزانه، وأنّ الأدب لا يزال قادراً على تحويل الرعب إلى جمالٍ متعالٍ، كأنّ كلّ جملةٍ تُكتب ضدّ الفناء. واللغة ليست سوى محاولة دائمة لتشكيل رؤية للعالم المهدّد بالزوال، وتُنصت إلى الهاوية وما فيها من خراب عميم.

اللّغة وهي تبتسم للفناء

في زمنٍ تتناسل فيه الأخبار بعضها من بعض، وتتراجع فيه الدهشة أمام الشاشات، يأتي تتويج كراسناهوركاي كتذكيرٍ بأنّ الفنّ ما يزال قادراً على النجاة من السرعة، وأنّ اللغة، مهما تصدّعت، تستطيع أن تشهد على الإنسان وهو يواجه نهايته بابتسامة ساخرة.

ليست جائزة نوبل خاتمة لمسيرته، بل بوّابة جديدة لأسئلته القديمة: كيف يمكن للأدب أن يظلّ مرآةً للخراب من دون أن يفقد ضوءه؟ وكيف يمكن للجمال أن يُولد، مرّةً بعد أخرى، من رماد هذا العالم؟

بهذا المعنى، ليس تتويج كراسناهوركاي احتفالاً بكاتبٍ فحسب، بل احتفالٌ بفكرة الأدب نفسه. الأدب الذي لا يهرب من العدم، بل يجلس إلى جواره ويكتب عن التصدّعات ويعيد صياغة الأسئلة. وجائزة نوبل التي نالها الأديب والروائيّ المجريّ ليست خاتمة مسار له، بل تكريسٌ لوعي أدبيّ يرى في نهاية العالم بداية جديدة للتأمّل في ماهيّة الوجود ذاته.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق