آليات إنشاء فضاء تفاعلي دائم لتعزيز التقارب الثقافي والشبابي بين تونس والصين

إعداد الدكتور فتحي القاسمي: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 07-10-2025

مداخلة د. فتحي القاسمي في اللقاء التونسي الصيني بمناسبة الذكرى 80 لانتصار حرب مقاومة الشعب الصيني ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية: تونس والصين دفع للسلام الدائم يدًا بيدٍ، بتونس في 22/09/2025
ثمّةَ مثلٌ صيني بليغ، يُبيّن أنّ “النّفوس العظيمة إرادةٌ وأن النّفوس الضعيفة أمنياتٌ” وشبيهٌ به قول الشاعر العربي (الوافر التام):
وَمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بالتَّمَنِّي ولَكِنْ تُؤْخَذُ الدُّنْيَا غِلاَبَا
وإن الشعوب الناهضة والمغالبةَ والمتحدّية لـ “إرادة العجز” قادرة على صياغة قصة نجاح وتحدٍّ، والشعوب الخانعةُ القانعةُ بالسَّيْر في “السُّبُلِ المسطورة” وعدم الاجتراء على رفْض الفَرْضِ ونقْضِ ما يغْزِلُهُ لها الآخرون مآلهَا الفَشَلُ والتفكّكُ والتبعيّةُ المقيتةُ.
إنّ الأنموذج الصّينيّ في النهوض والتقدم والرّيادة ما انفك يُبهر العالم، وبعد ثمانية عقود من انتصار الشعب الصيني على الاستعمار الياباني تحققتْ في هذا البلد الآسوي العريق بحضارته قفزةٌ نوعية في جميع مجالات الحياة وأخذ بناصية الثورة الرقمية وهو يقتحم غمار الذكاء الاصطناعي بثبات وأهلية عالييْن.
إن مرور ثمانين سنة على تخلّص الصين من لوثة الاستعمار وزهاء سبعين سنة من قيام دولة الاستقلال في تونس يدفعنا إلى طرح هذا التساؤل:
لماذا استطاعت الصين بعد انتصارها على المحلتين أن تخطوَ خطواتٍ عملاقةً في مجالات التنمية والتطور والتقدم العلمي والرقمي الذي أضحى يشكل خطرا كبيرا على القُطبية الراهنة، وقد تحقق للشعب الصيني مزيدٌ من المكاسب، وللاقتصاد الصيني اطرادُ التمدّد في العالم؟ ولماذا تعاني تونس بعد زهاء سبعة عقود وبعد الثورة على الاستبداد السياسي سبقتها حركة نضالية وتحريرية ضد نظام الحماية الفرنسي، لماذا لم تتخلص من العجز التجاري والمالي والطاقي وتثقلُ كاهلَها ديونٌ خارجية تجاوزت عتبة اثنين وأربعين مليون دولار (أكثر من ست وعشرين ومائة مليار دينار تونسي) وتشكو من الاضطراب السياسي وغلاء المعيشة وتنامي ظاهرة الاستياء العام (Mairaise générale) في صفوف الشعب التونسي؟ ومنذ الثالث من جوان 1955 كبّلتْ فرنسا البلاد التونسية باتفاقات بَيْنِيّةٍ كرّست الهيمنة ومأْسستْ التبعية والمرجعية الفرنسية مستقبلا([1]) والغريب أن يكون ذلك قبل أن تنال البلاد التونسية استقلالها التام سنة 1956.
لا يمكن في نظرنا أن نعالج الآليات إلاّ إذا توقفنا عند المحاضن المساعدة على تحقيق رهان الفضاء التفاعلي بين الصين وتونس، وتجدر الإشارة إلى وجود زهاء ثلاثمائة وخمسين دارٍ للثقافة والشباب في كافة أنحاء الجمهورية التونسية فضلا عن فضاءات الجمعيّات بمختلف أنواعها والمراكز الجامعية والمكتبات الجهوية، فالكثير منها اليوم محدودُ النشاط والآفاق والبرامجِ الاستشرافيةِ، وبإمكانها تأطير مئات الآلاف من الشباب المدرسي والجامعي وإحداث برامج رقمية وفي حال الذكاء الاصطناعي وتبادل الخبرات بين النخب الصينيّة والتونسية.
*آليات إنشاء الفضاء التفاعلي الدّائم تعزيز ا للتقارب الثقافي والشبابي بين تونس والصين:
إن الفضاء التفاعلي في ظلّ الرّقمنة والذكاء الاصطناعي يتحدّى المسافات ويحقق التواصل المباشر والتفاعلي لتميّزه بالسّرعة الفائقة والنجاعة القصوى والنفع المادي اللاّمحدود.
علينا أن نُكيّف هذا الفضاء الافتراضي التفاعلي ونجعل منه منطادًا يحلّق بالبلاد التونسية في سماء الرقمنة باقتدار، ويجب أن نراهن على الكفاءات التونسية الشابة في جميع الاختصاصات من خريجي الجامعات والمعاهد العليا، ومما يدفع إلى الحيرة وجود طاقات جبارة في اختصاصات علمية دقيقة، متحصّلة على أعلى الشهائد العلمية من الجامعات التونسية والعالمية لم نستثمرها بعْدُ وجمٌ من أصحاب الدكتوراه يعانون منذ سنوات من البطالة والتهميش.
لقد سلفت الإشارة إلى إمعان فرنسا بعد ثلاثة أرباع قرن من نهب ثروات تونس وممارسة مزيد من المراقبة والمعاقبة، في الهيمنة على ثروات البلاد بلا هوادة وبلا أجل مُسمّى ولذلك نحن في أشدّ الحاجة إلى شريك ليس له ماض استعماري مشين سبّب جروحا لا تندمل ونعتقد أن الصين قادرة على تحقيق شراكة مع بلادنا والمساعدة على إحداث نقلة نوعية في العلاقة بين البلديْن ومساعدة البلاد التونسية على حسن استثمار ثرواتها الطبيعية والبشرية وتوظيف كفاءاتها الشبابية المعطّلة، ونعتقد أنّ التفاعل بين الشباب العلمي الصيني والتونسي عبْرَ منصات التفاعل الرّقمي سيتميز بالإضافة والطرافة ويمكن التوقف عند أهم الآليات عالية المردود :
- آلية المنصّات الشبابية العلمية بمختلف الاختصاصات في الوسطيْن الثانوي والجامعي بروح تشاركية تحوّل دُورَ الثقافة والشباب إلى ورشات إبداع وابتكار وتنمية.
- تعليم اللغة الصينية للتونسيين والعربية للصينيين بطرق عصرية جذابة.
- آلية الاستثمار الفوري للثروات ذات النجاعة الاقتصادية العالية من ذلك:
- استعادة السيادة على ثروة الملح التي هيمنت عليها فرنسا ولا تزال واستخراج مكونات طبية وصناعية ترويجية منها وتصنيعها محليا.
- التعجيل بالاعتماد على الخبرة التونسية والصينية لاستخراج مادة اليورانيوم المعطلة من الفوسفاط وهي قادرة على تحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد التونسي.
ج- المبادرة باستثمار الثروة المائية الهائلة في الصحراء التونسية لمقاومة الجفاف وشح المياه وتحويل الصحراء والأراضي القاحلة مروجا خضراء (يوجد في جوف الصحراء التونسية مخزون مائي هائل غير مستغل).
د- المراهنة على تصنيع السيارات الكهربائية باعتماد التقنيات الصينية المتطورة والرائدة، والاعتماد على الصناعة المحلية والقطع مع الهيمنة الأوروبية والأمريكية واليابانية والكورية في سوق السيارات. من الغريب أن تفكّر مجموعة من نوّاب الشعب في تونس في استصدار قانون يسمح بتوريد سيارات من الخارج دون عشر سنوات معفاة من الضرائب القمركية وفي ذلك خدمة مجانية لأوروبا التي ستتخلى نهائيا عن مئات الملايين من السيارات المشتغلة بالبنزين بعد سنوات قليلة والتعويل على السيارات الكهربائية
هـ- آلية الذكاء الصيني في الإنتاج الفلاحي ومضاعفة الإنتاج ويمكن إحداث ضيعات مثالية مستفيدة من الخبرة الصينية.
و- آلية الحوار الحضاري والفكري بين النخب الصينية والتونسية عبر المنصات : (ندوات / نقاشات /ورشات عن بعد…).
إنّ هذه الآلية التفاعلية الثنائية تمكّن من الاطلاع على الموروث الحضاري الصيني والتونسي الضارب في التاريخ وتبرزُ لنا مُوَلّدِي التاريخ (de l’histoire L’accoucheur ) العظماء في البلدين من أمثال الفيلسوف الصيني كنفشيوس (Confecius) (ت 479 قبل الميلاد) والمؤرخ التونسي عبد الرحمان بن خلدون (ت 1406).
-ر- إيجاد التمويلات الضرورية لتفعيل براءات الاختراع التونسية والابتكارات والمشاريع التي أعدها أصحاب الأطاريح في الجامعات ومخابر البحث ولا تجد الدعم، ويمكن تثميرها وتثمينها بالتعاون مع الطرف الصيني ونعتقد أن إثارة الباحثين التونسيين عبْر منصات علمية لأفكارهم وهواجسهم المستقبلية سيكون له النفع العميم في تونس والصين والعالم. إن التعاون بين المبتكرين والمخترعين الصّينيين ونظائرهم التونسيين سيمكن من إنجاز ابتكارات علمية مستحدثة وكثيرة النفع والجدوى وتحقيق نقلة نوعية وسريعة بعيدا عن البيروقراطية وكثرة اللجان التي تستغرق شهورا وربما سنوات للموافقة على المشاريع.
– عقد لقاءات دورية عن بُعْدٍ لإبراز معالم الحضارتين الصينيّة والتونسية ورجالاتها. إننا نملك في تونس مثل الصين كفاءات وطبقة من العلماء المبدعين والمخترعين الذين ينتظرون الضوء الأخضر لتحويل مشاريعهم أسيرة الرفوف إلى أثرٍ ملموس “ينفع الناس ويمكث في الأرض” وعلى الطرف التونسي (وزارة التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي…) دعم هذا التواصل العلمي الافتراضي وهيكلته وتيسييره وتخليصه من العراقيل الإدارية المُعيقة ورصد المال الكافي لتشجيع المبدعين على مزيد من الإضافة، ولاشك أن الطرف الصيني حريص على تحقيق طموح الشبيبة التونسية المتطلعة إلى النهوض الفعلي بالبلاد التونسية التي لا تعوزها الكفاءات والأفكار ولكنها تحتاج إلى إرادة فعْلٍ مشتركة تحقق عددا هائلا من المشاريع المعطلة.
تجدر الإشارة إلى تاريخ العلاقات بين الصّين والمسلمين منذ الفتح الإسلامي إلى يوم الناس هذا. إنها اتسمت بالتواصل والتحاور والاحترام المتبادل وثمّة أحداث قديمة وحديثة تؤكد هذا التواصل الخلاّق، ثم إن الصّين عندما نقارنها بالدول الأوروبية الاستعمارية التي لا يزال بعضها يستنزف ثروات الشّعوب ويخترق سيادتها ، نلاحظ أنها ليست دولة استعمارية ولم تنخرط في حملة الاستعمار الأوروبي في العالم الإسلامي منذ القرن السادس عشر.
علينا أن نتعلم من الصين أن التقدم والتحدي والاختراق لن يكون إلا ثمرة الاعتماد على الذات والإيمان بإرادة الفعل الذي يأبى الخضوع للهيمنة ولا يخشى محترفي السيطرة على الشعوب ونهب ثرواتها وسلب إرادتها إنها إرادة القوة ( La volonté de la puissance) كما يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (Frederick Nietzche) (ت 1900) ومن أهم تجلياتها الرغبة الموصولة في التخلي عن التعويل على الغير واستفراغ الوسع لتجاوز المَسْكَنَةِ والخضوع، واستْحداث قِيمِ جديدة ومسالكَ بديلة ونقيضة للعدمية والانهزامية وقد لاحظنا تجسَّمَ ذلك في الشعب الصيني الذي أصبح بعد ثمانية عقود منافسا عنيدا لأقوى دولة في العالم وماسكا بناصية الرقمنة والذكاء الاصطناعي ولعله بعد سنوات قليلة يتحول إلى القوة العظمى الأولى في العالم ويبدد منظومة العولمة القائمة اليوم على الهيمنة العابرة للقارات والسالبة لحرية الدول والمكرسة لمنطق استعلائي شجع.
عندما يُحكِم الطرفان الصّيني والتونسي نسج علاقات علمية وسياسيّة واقتصادية قائمة على التعامل النّدي والتبادل المتوازن والتعاون الشامل والخالي من التوظيف والتكييف ستصبح الشراكة أنموذجا يُحتذى، ولاشك أن العمق التاريخي والثراء الحضاري والتطور العلمي في الصّين وتونس من العوامل التي تُدعّم ذلك، ثم إن الموقع الاستراتيجي للبلاد التونسية يرشحها أن تكون منصة عُبُورٍ للدول الإفريقية التي تجد اليوم في الصّين خير نصير لتكثيف الشراكات ومشاريع الاستثمار وهي مدركةٌ ما ينفعُهَا منه يُكتب له البقاء والاستمرارية وأن ما قام على الاستغلال والابتزاز للثروات سيزول وإن طال بقاؤه.
—————–
التعريف بالكاتب: د. فتحي القاسمي أستاذ متميز بالمعهد العالي للحضارة الإسلامية جامعة الزيتونة
[1] – انظر:
Les conventions franco-tunisiennes du 3 juin 1955, Noël Ladhari (S.D) (95 pages).