توماهوك لأوكرانيا.. بين خطاب الردع الأمريكي وحدود الجدوى العسكرية

إعداد الدكتور سعد خلف: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية 01-10-2025
“موسكو تدرس وتحلل بعناية تصريحات واشنطن الخاصة بإمكانية توريد صواريخ “توماهوك” الأمريكية إلى أوكرانيا، واحتمال توجيه ضربات بعيدة المدى إلى العمق الروسي بموافقة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب”…
كانت هذه الجملة هي تعليق المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف خلال الإيجاز الصحفي اليومي، الاثنين 29 سبتمبر 2025، في معرض رده على تصريحات جي دي فانس وكيت كيلوج، وغيرهما من المسؤولين الأمريكيين والغربيين خلال اليومين الأخيرين في سياق التصعيد بين روسيا والناتو في أوكرانيا وأوروبا الشرقية والبلطيق.
تصريحات المتحدث الرئاسي الروسي، التي افتتحت بها هذا المقال، بشأن صواريخ توماهوك “الموعودة”، وما قابلها من تصريحات نائب الرئيس الأمريكي جاي دي فينس، الجديدة تمامًا بالنسبة له في الواقع، وتصريحات المبعوث الخاص لترمب الجنرال كيت كيلوج، تكشف بوضوح -من وجهة نظري- عند قراءتها بعين تحليلية، وخصوصًا بين سطورها، أن الصراع الروسي الأطلسي دخل مرحلة جديدة عنوانها “إدارة التهديدات… الرمزية” أكثر من كون هذا الصراع انتقل بالفعل إلى مرحلة تسليحية نوعية.
في موسكو، حيث أتابع من كثب، شدد دميتري بيسكوف على أن الكرملين يتابع بدقة ملف “توماهوك”، لكنه تحدث باستعلاء عن أن هذه الصواريخ “ليست وصفة سحرية” لقلب الأوضاع وتغيير موازين القوى على الجبهة.
أهم ما قرأته في تصريحاته هو الإشارة إلى سؤال التشغيل، بمعنى: إذا افترضنا جدلًا أن الأمريكيين أقدموا بالفعل على هذه الخطوة، وأرسلوا إلى أوكرانيا هذه الصواريخ، بعد أن يدفع الأوروبيون ثمنها من أموال المواطن الأوروبي بالطبع، مَن الذي سيضغط على زر الإطلاق؟ هل سيكون الأمريكيون أنفسهم من داخل الأراضي الأوكرانية، أم الجيش الأوكراني؟
هذا السؤال، بهذه الصيغة، مهم جدًّا لفهم العقلية التي يتعامل بها الكرملين مع الدور الأمريكي في هذا الصراع. ما أقصده هو أن موسكو -بحسب فهمي الشخصي بالطبع- تضع خطًا أحمر فاصلًا بين التسليح “غير المباشر” الذي تواصل الولايات المتحدة القيام به، ويتوقع أن تواصل، خصوصًا من منطق كسب المال للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي، والمشاركة الأمريكية المباشرة، التي إن حدثت فسوف يترتب عليها -بلا شك- تبعات مختلفة على مستوى الرد الروسي.
الجديد الذي لفت نظري -وليس نظري وحدي فيما أعتقد- هو التغير في لغة جاي دي فينس، نائب الرئيس الأمريكي، الذي كان سبب الإهانة التي تعرض لها زيلينسكي في البيت الأبيض عند لقائه الأول مع ترمب، والذي كان يدعو أوكرانيا إلى التنازل عن الأراضي لحل الصراع.
بدا فينس وكأنه فينس آخر، فكان هو صاحب إعلان احتمال تسليم الأوكران صواريخ توماهوك، حين تحدث بوضوح عبر قناة فوكس نيوز عن أن واشنطن تدرس مع الأوروبيين مسألة تسليم توماهوك عبر الناتو.
بالطبع علينا أن نشير إلى أن تصريح فينس في جوهره لم يكن عسكري الطابع؛ بل كان ماليًّا وسياسيًّا، فهو شدد أن على الأوروبيين أن يشتروا هذه الأسلحة من الولايات المتحدة أولًا، ثم يوردوها إلى أوكرانيا، وأن يتحملوا نصيبا من المخاطر.
هذا الخطاب بالطبع يعكس رؤية إدارة ترمب بضرورة توزيع أعباء المواجهة، وتحويل الصراع إلى سبب وفرصة لإعادة هيكلة العلاقة الأمريكية مع الاتحاد الأوروبي، بحيث يدفع الأخير ثمن الحرب الواقعة على “عتبة بابه” بالتعبير المصري المعروف.
أما العم كيث كيلوج فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أكد في تصريحات تليفزيونية على الهواء الأمريكي، أن “ترمب سمح لأوكرانيا بضرب العمق الروسي باستخدام الأسلحة البعيدة المدى”. ولم يكتف بذلك، بل أضاف “لا مكان آمنًا داخل روسيا”.
هذه العبارة -في رأيي- على الرغم من صيغتها التصعيدية، لا يمكن تفسيرها إلا بوصفها أداة ضغط نفسي وسياسي موجهة إلى موسكو والكرملين وبوتين، خصوصًا إذا قرأناها في السياق الأوسع، ورأينا أنها تأتي متزامنة مع تسريبات لـ”وول ستريت جورنال” عن لقاء نيويورك بين ترمب وزيلينسكي، وأن ترمب خلال اللقاء لم يمنح زيلينسكي وعدًا رسميًّا، لكنه لوح فقط برفع القيود على استخدام الأسلحة الأمريكية البعيدة المدى.
من الناحية العسكرية، يبقى السؤال المهم هو: هل هذه التهديدات قابلة للتحول إلى واقع؟ وهنا لجأت إلى ما يقوله المحللون العسكريون، فرأيتها تعترف وتقر بخطورة صواريخ “توماهوك”، لكنها في الوقت نفسه تقلل من جدوى هذه الصواريخ في السياق الأوكراني تحديدًا، والسبب -حسبما فهمت- أن الصاروخ توماهوك بالأساس هو منصة بحرية تحتاج إلى مدمرات أو غواصات حتى تُطلَق، وهو ما لا يتوافر لدى الجانب الأوكراني.
صحيح أن واشنطن طورت منصات برية تجريبية اسمها (Typhon)، لكنها نادرة، ومخصصة للتموضع في منطقة آسيا- الباسيفيكي بمواجهة الصين، ومن المستبعد أن يقدم البنتاجون وإدارة ترمب على إخراجها من هذه المنطقة من أجل عيون زيلينسكي وأوكرانيا، فهذا الخيار غير مطروح، على الأقل حتى الآن.
وهنا نستطيع القول إن التجارب الأمريكية السابقة في سياق الصراع الأوكراني، لم تحقق نقلة نوعية، وما أقصده أن صواريخ أتاكمز تم تهويل قدراتها وما ستفعله في تغيير موازين الحرب، لكن في الواقع ما حدث هو استنزاف المخزونات الأمريكية منها، فالدفاعات الجوية الروسية -حسبما يخبرنا الواقع الميداني الموضوعي- تمكنت خلال فترة قصيرة جدًّا من تطوير تكتيكات ناجحة للتعامل معها.
في الوقت نفسه تقول التحليلات العسكرية -التي اطلعت عليها على عجل لكتابة المقال- إن مشروع صواريخ ERAM (وهو برنامج أمريكي لتطوير ذخيرة جو- أرض هجومية منخفضة التكلفة وسريعة الإنتاج لدعم أوكرانيا وحلفاء آخرين) الذي تم الترويج له إعلاميًّا، لا يزال عمليًّا في مراحله الأولية داخل شركة ناشئة بولاية تكساس الأمريكية، وبلا قدرات إنتاجية فعلية.
والخلاصة التي فهمتها أن الحديث عن “توماهوك” هو أقرب إلى ضجيج سياسي واعلامي يعكس مأزق صقور الدولة العميقة في واشنطن وبروكسل، العاجزين فعليًّا عن تقديم بدائل تسليحية نوعية، دون تعريض مخزوناتهم الإستراتيجية للخطر.
من حقنا هنا أن نطرح سؤالًا عادلًا ومنطقيًّا: لماذا تغيرت لهجة دي فينس والإدارة الأمريكية؟
أعتقد أن تبدل الخطاب الأمريكي في الأسابيع الأخيرة مرده إلى ثلاثة اعتبارات متداخلة بعضها مع بعض، أولها -بلا شك- الضغط الأوروبي؛ فواشنطن لم تعد قادرة أو عازمة على تحمل التكلفة المالية أو الحصة الأكبر منها بمفردها، كما كانت الحال في عهد بايدن والديمقراطيين؛ لذلك جاء خطاب دي فينس ليشدد على أن الأوروبيين يجب أن يدفعوا ثمن التسليح، بما في ذلك احتمال شراء “توماهوك”، وهذه المقاربة -في رأيي- هدفها أن تبرر داخليًّا للرأي العام الأمريكي، وخصوصًا حركة “MAGA” أن واشنطن لم تعد الممول الوحيد للصراع الأوكراني.
الاعتبار الثاني هو الإخفاق الميداني الأوكراني؛ فالتقارير العسكرية الميدانية تؤكد ذلك على مدار أشهر، فضلًا عن أن صواريخ “أتاكمز” تراجعت فاعليتها وتأثيرها، وهذا واضح تمامًا من خلال عدم قدرة كييف على إحداث أي اختراق؛ ولهذا السبب ارتفعت الضغوط داخل معسكر الصقور للمطالبة بخطوات -ولو رمزية- تعيد إحياء صورة الردع الغربي لبوتين؛ ولذلك يبدو أن رفع سقف التهديدات أصبح بديلًا عن تحقيق نتائج ميدانية حقيقية.
أما الاعتبار الثالث -والأهم في رأيي لإدارة ترمب- فهو الاعتبارات الانتخابية الأمريكية؛ فترمب يحتاج إلى إظهار أنه يوازن بين السعي إلى السلام والحزم ضد بوتين وروسيا طبعًا؛ ومن ثم الجمع بين خطاب التهدئة، من خلال مساعي الدفع نحو التسوية، وخطاب التصعيد، من خلال التلويح بإمكانية توريد توماهوك لزيلينسكي.
هذه ازدواجية مقصودة تمامًا في رأيي، وهدفها تلبية طلب الجمهور الأمريكي الداخلي المتنوع بين دعاة الابتعاد عن الصراع والعزلة ودعاة التصعيد والتشدد.
وبهذا الشكل، فإن التغير في اللهجة لا يعكس بالضرورة استعدادًا أمريكيًّا عمليًّا لنقل “توماهوك” وتسليمها لأوكرانيا؛ بل ما هو إلا محاولة جديدة لتعويض الفراغ الإستراتيجي بخطاب يبدو ظاهريًّا أكثر صرامة، يهدف بالأساس إلى إدارة الضغوط الداخلية والخارجية معًا، لكن ما إن تتعمق بين سطوره حتى ترى جوهره يخالف ظاهره.
إذن، إذا حاولنا تفكيك هذا المشهد الجديد لفهم الدوافع المتباينة للأطراف، فسوف نرى بالفعل أن لكل طرف دوافعه الخاصة؛ فموسكو -من واقع فهمي لتصريحات مسؤوليها- تحاول تقويض المفعول النفسي لأي إعلان غربي تصعيدي جديد من خلال التأكيد -كما قال بيسكوف مثلًا- أنّ “لا سلاح سحريًّا” قادرًا على تغيير مسار الحرب، وهي بذلك -حسب فهمي أيضًا- تركز على عنصر الاستنزاف الطويل المدى.
واشنطن من جهتها، ممثلة في ترمب وأعضاء إدارته المتناقضين، تسعي إلى إظهار الجمع بين الردع العسكري وإشراك الأوروبيين في الفاتورة المالية، بل تحميلهم تكلفة المواجهة كاملة، لكن مع توظيف هذا الخطاب بانتهازية لخدمة أهداف في الداخل الأمريكي.
أما الأوروبيون فهم عالقون بين ضغوط ترمب لشراء الأسلحة وتحمل جزء من المخاطر، بل “شَيل الليلة”، وبين واقع ميداني لا يملكون السيطرة على مساره، ولن تفيدهم هنا قمم ولقاءات متكررة ومتتابعة كقمة وارسو الأمنية التي عُقدت الاثنين 29 سبتمبر (أيلول) مثلًا من أجل الاتفاق على إجراءات دعم أوكرانيا عسكريًّا، والتصدي لخطر “الاختراقات” الروسية المتكررة لمجالها الجوي.
وهذا التباين يوضح أن توماهوك ليست مجرد قضية تسليحية، بقدر ما هي ورقة تفاوضية ودعائية تتجاوز البعد العسكري إلى معركة الخطاب والسياسة.
وفي النهاية، أعود وأكرر أن الميدان يبقى هو الاختبار الحقيقي، فما لم تحقق كييف خرقًا نوعيًّا، فإن كل التلويحات بتسليمها ” توماهوك” ستظل ضجيجًا سياسيًّا، لا يصغي إليه بوتين الجالس في الكرملين باطمئنان، أكثر منه واقعًا عسكريًّا يستحق القلق، ونبقى أمام مشهد إدارة الخطاب، لا إدارة الحرب.