أخبار العالمالشرق الأوسطبحوث ودراسات

الصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وإعادة تشكيل النظام الأمني الإقليمي

أشعلت الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي صراعات شاملة في منطقة الشرق الأوسط، وعادت القضية الفلسطينية لتتصدر مرة أخرى بؤرة اهتمام المنطقة، وانقلب مسار الانفراج الذي تحقق بصعوبة في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة نحو موجة من التوترات والاضطرابات.

الخصائص الرئيسية للصراع الجيوسياسي الجديد في الشرق الأوسط

  • خسائر فادحة تكبدها الطرفان في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

في السنوات الأخيرة، واصلت إسرائيل تكثيف قمعها للفلسطينيين. ويتمثل ذلك في ثلاثة جوانب رئيسية:

أولا، نهب أراضي الفلسطينيين تدريجيا عبر توسيع بناء المستوطنات غير القانونية.

ثانيا، انتهاك الاتفاقيات وإهانة المعتقدات الدينية للفلسطينيين.

ثالثا، فرض حصار طويل الأمد على قطاع غزة.

وفي ظل هذا السياق، شنت حماس عملية “طوفان الأقصى” التي بدت وكأنها حدث عرضي، لكنها في الحقيقة تنطوي على حتمية داخل تلك الصدفة. وقد أفضت العمليات العسكرية التي نفذتها حماس إلى ردود فعل عنيفة من قبل إسرائيل، ما أشعل جولة جديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وتكبّد كلا الطرفين، إسرائيل وحماس بوصفهما طرفي الصراع، خسائر جسيمة في هذه المواجهة.

ومن الجانب الفلسطيني:

 أولا، تعرّضت حركة حماس نفسها لضربة موجعة.

 ثانيا، ارتفعت حصيلة القتلى والجرحي في قطاع غزة إلى مستوى غير مسبوق.

ثالثا، شهد الاقتصاد الفلسطيني تراجعا خطيرا .

ومن الجانب الإسرائيلي :

فقد دفعت أيضا ثمنا باهظا نتيجة لهذا الصراع المستمر. فداخليا، أدى استمرار الحرب إلى استنزاف موارد إسرائيل من خلال: أولا، الخسائر البشرية. ثانيا، الركود الاقتصادي. فتسببت الحرب الممتدة وتجنيد عدد كبير من جنود الاحتياط في تدهور بيئة الأعمال وخسائر اقتصادية هائلة. وخارجيا، تواجه إسرائيل عزلة دبلوماسية غير مسبوقة، حيث توقف بشكل أساسي مسار تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية.

  • الصراع الإيراني الإسرائيلي يصبح الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط بدلا من الصراع العربي الإسرائيلي

لفترة طويلة، ظلت الدول العربية اللاعب الرئيسي بلا منازع على ساحة الشرق الأوسط، وكانت كذلك القوة الرئيسية في مواجهة إسرائيل. فقبل اندلاع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الحالي، خاضت الدول العربية خمس حروب ضد إسرائيل. غير أن تكرار الانقسامات داخل العالم العربي، إلى جانب الاضطرابات السياسية التي شهدتها بعض الدول العربية (لا سيما التغيرات الكبرى التي طرأت في الشرق الأوسط عام 2011)، أدّت إلى تراجع تأثير العالم العربي بشكل مستمر، حتى أنه لم يعُد قادرا ولا راغبا في خوض مواجهة عسكرية شاملة مع إسرائيل.

وفي ظل هذا السياق، حلت إيران محل الدول العربية كقوة معارضة رئيسية جديدة لإسرائيل. وفي تباين واضح مع الدول العربية التي شهدت تراجعا تدريجيا في دعمها للفلسطينيين، قدمت طهران نفسها كداعمة عادلة للقضية الفلسطينية.

وبعد اندلاع الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في عام 2023، وفرت طهران دعما قويا لحركة حماس، وحثت “محور المقاومة” على استهداف إسرائيل. وعلى مدار أكثر من عام، خاضت إسرائيل في آن واحد مواجهات عسكرية على جبهات متعددة ضد “محور المقاومة” بقيادة إيران، لكن صراعها المباشر مع طهران كان الأكثر لفتا للأنظار.

ففي يوليو 2024، اغتالت إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، داخل الأراضي الإيرانية، وكثّفت عملياتها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط لاغتيال كبار قادة الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى قصف القنصلية الإيرانية في سوريا.

وفي ظل هذا التصعيد، أطلقت إيران في أبريل وأكتوبر 2024 صواريخ باليستية على أهداف داخل إسرائيل. وردت إسرائيل في 26 أكتوبر 2024 بإطلاق صواريخ على أهداف داخل إيران.

وتشير هذه الهجمات المتبادلة إلى خروج المواجهة بين الطرفين من الخفاء إلى العلن، حيث شن كل من إيران وإسرائيل ضربات مباشرة على أهداف داخل أراضي الطرف الآخر، لتدخل المواجهة بينهما مرحلة أكثر حدة وخطورة في التاريخ.

  • تحرّشات الجهات الفاعلة “غير الحكومية” تزيد حالة عدم اليقين في الصراعات الجيوسياسية بالشرق الأوسط

في الماضي، كانت الصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوسط تتمثل بشكل رئيسي في المواجهة بين الدول. ونظرًا لحاجة الجهات الفاعلة الحكومية إلى موازنة اعتبارات متعددة تشمل المصالح الوطنية، ورفاه الشعوب، وقواعد القانون الدولي، فقد اتّسمت ممارساتها في الحرب بقدر من الانضباط، وكانت مساراتها تتميز بقدرة أكبر  على التنبؤ.

أما في الصراعات الحالية في الشرق الأوسط، فالعديد من الأطراف المشاركة هي جماعات مسلحة غير حكومية، مثل حزب الله اللبناني، وجماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، والميليشيات العراقية.

وغالبا ما تكون هذه الجماعات غير الحكومية تتصرف أقل تقيدا، وذلك يجعل مسارات تصرفاتها أكثر صعوبة في التنبؤ، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة حدة عدم اليقين في الصراعات الجيوسياسية بالمنطقة. ويتجلى ذلك بشكل رئيسي في الجوانب التالية:

أولا، أحدثت الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تأثيرات خارجية واسعة، حيث انخرط معظم القوى في الشرق الأوسط بدرجات متفاوتة، ما أسفر عن سلسلة من الأحداث الكبرى مثل أزمة الملاحة الدولية في البحر الأحمر، والاشتباكات اللبنانية الإسرائيلية، وتبادل الضربات الصاروخية بين إيران وإسرائيل، وسقوط نظام الأسد في سوريا.

ثانيا، أسفرت هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر عن آثار جانبية متعددة. وردا على تلك الهجمات، أطلقت الولايات المتحدة عملية “حارس الازدهار” بهدف تأمين الملاحة، وشنّت عدة ضربات عسكرية ضد أهداف الحوثيين.

كما نفذت إسرائيل غارات جوية انتقامية ضد أهداف عسكرية للحوثيين. ونظرًا لأهمية البحر الأحمر، باعتباره أحد أكثر ممرات التجارة البحرية ازدحاما في العالم، فقد أدى التصاعد المتواصل لأزمة الملاحة فيه إلى اضطرار الكثير من السفن التجارية إلى تحويل مساراتها عبر رأس الرجاء الصالح، مما أثّر بشكل كبير على حركة التجارة العالمية وأمن سلاسل الإنتاج والتوريد، وتعرضت مصر بشكل خاص لصدمة هائلة، بحكم اعتمادها على قناة السويس كمصدر رئيسي للعملات الأجنبية.

ثالثا، لحقت بلبنان أضرار كبيرة جراء المواجهة بين إسرائيل وحزب الله. فمنذ اندلاع الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كثف حزب الله اللبناني هجماته الصاروخية على الأراضي الإسرائيلية، في محاولة لإرباك وعرقلة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. فتسببت هذه الهجمات والمناوشات في ردود فعل عنيفة من إسرائيل، مما ألحقَ أضرارًا جسيمة بهيكلية قيادات حزب الله وقدراته العسكرية، كما أدت الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة إلى تعريض المدنيين اللبنانيين لكارثة إنسانية خانقة.

نطام الأمن الإقليمي في ظل الصراعات الجيوسياسية

تعيش منطقة الشرق الأوسط بيئة أمنية إقليمية هشّة للغاية، نظرا للتشابك المعقد في العلاقات بين دولها. وفي ظل الصدمات المتداخلة الناجمة عن سلسلة من الأحداث الكبرى التي شهدتها المنطقة، بدأ النظام الأمني الإقليمي الشديد الهشاشة بطبيعته يشهد اتجاها نحو التفكك وإعادة التشكل من جديد.

أولا، تحول المعادلة الأمنية في الشرق الأوسط من “موجة التهدئة” إلى “موجة الصراعات”:

بعد التغيرات الكبرى التي طرأت على الشرق الأوسط عام 2011، شهدت الدول الإقليمية الكبيرة منافسة جيوسياسية شرسة، إلا أن نتيجتها النهائية كانت “خسارة تفوق المكاسب”. وفي ظل هذا السياق، شهدت المنطقة موجة نادرة من التهدئة في العلاقات بين الدول، إلى جانب اتجاه نحو تخفيف حدة التوترات للقضايا الإقليمية الساخنة.

وتجلى ذلك في الجوانب التالية:

  • إقامة علاقات دبلوماسية بين العديد من الدول العربية وإسرائيل.
  • استئناف العلاقات بين إيران والسعودية.
  • إعادة العلاقات بين مصر وتركيا.
  • استئناف العلاقات بين قطر وكل من البحرين والإمارات، والتفاعل الإيجابي بين إيران ومصر، وانفراج شامل في العلاقات بين سوريا والعالم العربي.
  • كما احتلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المرتبة الثانية عالميا من حيث تحسن مؤشرات السلام، وشهدت دول مثل ليبيا وسوريا والعراق واليمن والجزائر تحسنا ملحوظا في مؤشرات السلام.

ولكن اندلاع الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في أكتوبر 2023 وضع حداً لـ”موجة التهدئة” النادرة هذه، حيث لم تتسبب في أزمة إنسانية غير مسبوقة تواجه سكان غزة فحسب، بل أثارت أيضا ردود فعل متسلسلة وتأثيرات ممتدة. فبالإضافة إلى العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، فقد توسعت لتشمل هجمات على حزب الله في لبنان ومواجهة عسكرية مباشرة مع إيران. وفي هذا السياق، تستبدل “موجة التهدئة” التي ظهرت في منطقة الشرق الأوسط بـ”موجة  الصراعات” من جديد.

ثانيا، حقق “محور المقاومة” تأثيرا هائلا، لكنه دفع ثمنا باهظا:

عقب اندلاع الجولة الحالية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واجه “محور المقاومة” إسرائيل بهجمات قوية، إلا أنه تكبد خسائر فادحة جراء الضربات العسكرية الإسرائيلية الشديدة:

  • ففي قطاع غزة، دُمرت المنظومة القيادية العسكرية والقوات القتالية حركة حماس بشكل شبه كامل.
  • وفي لبنان، أسفرت الضربات العسكرية الإسرائيلية عن مقتل نحو 4,000 من عناصر حزب الله وقادته بمن فيهم حسن نصر الله والأشخاص المهمون الآخرون، مما أضعف القدرات العسكرية لحزب الله بشكل كبير.
  • أما في سوريا، فقد عانى نظام بشار الأسد إضعافا غير مسبوق لقوة الدعم الخارجي جراء الضعف الشديد الذي لحق بحزب الله، لينهار النظام في النهاية بحلول ديسمبر 2024.

ثالثا، عاد الملف الفلسطيني ليصبح محور القضية السياسية في الشرق الأوسط.

على مدار السنوات الأخيرة، شهدت القضية الفلسطينية تهميشا في الشرق الأوسط على نحو تدريجي. وفي الوقت نفسه، مع بداية القرن الحادي والعشرين، ظهرت في منطقة الشرق الأوسط قضايا ساخنة جديدة تباعا، مثل حرب العراق، والملف النووي الإيران، والحرب الأهلية في سوريا، وحرب ليبيا، والصراع الداخلي في اليمن، والتي حظيت باهتمام ومتابعة تفوق ما تحظى به القضية الفلسطينية، مما فاقم تهميش الأخيرة.

ومع ذلك، فإن عملية “طوفان الأقصى” التي خططت لها حماس ونفذتها، والتحركات الصاخبة لـ”محور المقاومة” بقيادة إيران ضد إسرائيل، أدت إلى إعادة اهتمام دول المنطقة بالقضية الفلسطينية، وجعلتها مجددا في صدارة الأجندة السياسية بالشرق الأوسط، وهو ما يساعد الجانب الفلسطيني على تحسين ظروفه المعيشية إلى حد ما.

آفاق إعادة تشكيل النظام الأمني في الشرق الأوسط

انهيار نظام بشار الأسد السريع في ديسمبر 2024، يُعزى- على ما بدا من الظاهر- إلى تغيير موازين القوى بين الجيش النظامي السوري والفصائل المسلحة المعارضة، إلا أن السبب الأعمق يكمن في استنزاف قوة النظام السوري نتيجة للضربات الأمريكية المتواصلة والطويلة الأمد.

 ويُعد سقوط نظام الأسد نتيجة لمنافسة بين القوى السياسية المختلفة في الشرق الأوسط، بل ويمثل كذلك بداية لإعادة تشكيل النظام الأمني في المنطقة. وبشكل عام، يواجه النظام الإقليمي في الشرق الأوسط خلال الفترة القادمة المزيد من المخاطر الأمنية وعدم اليقين.

  • غموض يكتنف مستقبل سوريا السياسي

هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة قد يتجه نحوها الوضع السياسي في سوريا “في مرحلة ما بعد عصر بشار الأسد”M

 أولا، الفوضى والاضطرابات المستمرةM

منذ عام 2011، تعرضت سوريا لتدخلات قوى خارجية متعددة، وتُعتبر الحرب الأهلية في سوريا بمثابة “حرب عالمية مصغّرة”. ويظهر الوضع الداخلي الحالي في سوريا سمات “حرب بالوكالة”، إذ تنتشر فصائل عسكرية متعددة داخل سوريا. وخلال مرحلة الإطاحة بنظام بشار الأسد، كان مستوى التعاون بين هذه الفصائل المسلحة أقوى من الخصومة بينها، إلا أنه بعد سقوط نظام بشار الأسد، برزت بينها خلافات حول مفاهيم الحكم، والمصالح، وتقاسم السلطة، والسيطرة على موارد النفط والغاز، مما يزيد من احتمالية انزلاق سوريا إلى مزيد من الفوضى والصراعات.

 ثانيا، مزيد من التفكك والتفتت

يتسم التكوين العرقي والطائفي في سوريا بدرجة عالية من التعقيد. وفي حال اختلال التوازن القائم بين المكوّنات العرقية والطائفية، فإن التناقضات الطائفية والقومية ستتصاعد في آن واحد.

ثالثا، تصاعد النزعة الدينية

كان نظام بشار الأسد يتبنى نهجا علمانيا، إلا أن “هيئة تحرير الشام” من ضمن فصائل المعارضة التي أطاحت بالنظام السابق، ينظر إليها من قبل بعض الدول والمنظمات الدولية على أنها جماعة دينية متطرفة. ففي السابق عرفت “هيئة تحرير الشام” بتنظيم “جبهة النصرة”، الذي يعد فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا. ورغم إعلان زعيمها، أبو محمد الجولاني، الانفصال عن “القاعدة” والمشاركة في محاربة تنظيم “داعش”، إلا أن وصول هذا التنظيم إلى الحكم قد يؤدي إلى بروز توجهات دينية في سوريا.

  • انقلاب موازين القوة بين إيران وإسرائيل، ومواجهة الأولى صعوبات وتحديات غير مسبوقة

بالنسبة لإيران، لم يؤدِّ تغير المشهد السياسي في سوريا إلى فقدانها أحد أهم ركائزها الاستراتيجية فحسب، بل تسبب أيضًا في خسارة الطريق البري الذي يربطها بحزب الله. ما تسبب في تراجع نفوذ إيران ومكانتها الإستراتيجية في المنطقة بشكل واضح. وفي الوقت ذاته، كانت سوريا بمثابة حاجز إستراتيجي لإيران ضد إسرائيل، وسقوط نظام بشار الأسد أدى إلى مواجهة إيران تهديدات وضغوط مباشرة من قبل إسرائيل.

كما أن انهيار نظام بشار الأسد أصاب الإستراتيجية الأمنية التي تتبعها إيران على مدى السنوات العديدة بصدمة كبيرة، مما وضعها أمام معضلة كبيرة في كيفية اتخاذ القرارات. وعلى الصعيد الدولي، فإن عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025 زادت من “الضغوط القصوى” على إيران، حتى أنه هدد بعدم استبعاد احتمالية استخدام القوة ضدها. تمر إيران في الوقت الراهن بأصعب فتراتها منذ عام 1979.

أما بالنسبة لإسرائيل، فإن سقوط نظام بشار الأسد أدى إلى تحسن كبير – بلا شك- في بيئة الأمن الجيوسياسية لها، كما شجع حكومة نتنياهو على مواصلة تنفيذ سياسات أكثر تشددا في المنطقة.

وفي يوم سقوط نظام بشار الأسد، سيطرت القوات الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، ودمرت جميع القوى العسكرية الإستراتيجية في سوريا وكذلك الأنفاق على الحدود السورية اللبنانية، مما قطع قنوات لاتصال بين إيران وحزب الله.

ومن المحتمل أن تستغل إسرائيل هذه الظروف الحالية لزيادة وتيرة عملياتها العسكرية واستهداف باقي أطراف “محور المقاومة” (مثل الحوثيين)، أو تنفيذ هجمات مباشرة على أهداف مهمة داخل الأراضي الإيرانية (مثل المنشآت النووية)، أو تحريض الولايات المتحدة على توجيه ضربات عسكرية ضد إيران.

وفي ظل هذه المخاطر، قد تتجه إيران إلى المخاطرة بتطوير سلاح نووي، أو التنازل والاستسلام أمام الغرب نتيجة للضغوط المستمرة. وأيا كانت الخيارات التي ستتخذها إيران، فإن ذلك سيزيد من تعقيد المشهد وسيساهم في تصعيد الصراعات في المنطقة.

  • مواصلة تركيا توسيع نفوذها في الشرق الأوسط

كانت تركيا في السابق تتجه نحو الغرب، وتسعى جاهدة للاندماج في العالم الغربي. ومع ذلك، منذ تولى رجب طيب أردوغان الحكم، تحولت تركيا نحو الشرق، وبدأت تنفيذ مشروع “العثمانية الجديدة” بقوة، في محاولة لتوسيع نفوذها في العالم الإسلامي.

ومنذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، دعمت تركيا وكلاء داخل سوريا وأقامت “منطقة عازلة” في شمال سوريا، فيما رفضت مقترحا بالانسحاب من الأراضي التي تسيطر عليها مقابل تطبيع العلاقات مع النظام السوري.

ومن المحتمل مستقبلا، أن تستغل تركيا الفرص لتوسيع نفوذها في شمال سوريا، وأن تلعب دورا أكبر في شؤون الشرق الأوسط.

  • مواجهة القضية الفلسطينية التهميش مجددا

بعد اندلاع الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، عادت القضية الفلسطينية مجددا إلى صدارة اهتمامات دول الشرق الأوسط. ومع ذلك، فمن منظور عام، يتجلى ضعف الدعم العربي لفلسطين.

فرغم إجماع العالم العربي على التنديد بالعدوان الإسرائيلي والتأكيد على تضامنه مع فلسطين بعد اندلاع الجولة الحالية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أنه ظل بعيدا عن اتخاذ إجراءات ملموسة.

إضافة إلى ذلك، فإن سقوط نظام بشار الأسد بشكل مفاجئ في سوريا ألحق أضرارا غير مسبوقة بـ”محور المقاومة” الذي يدعم القضية الفلسطينية عبر مواجهته العسكرية ضد إسرائيل، مما أضعف القوى الإقليمية التي تدعم التركيز على حل القضية الفلسطينية.

وبالمقابل، استفادت إسرائيل بشكل كبير من سقوط نظام بشار الأسد، ما عزز موقفها المتشدد تجاه القضية الفلسطينية. أما إدارة ترامب فظلت تتبنى موقفا منحازا بالكامل لصالح إسرائيل ومعاديا لفلسطين، حيث دعت علنا بـ”إخلاء الفلسطينيين” من قطاع غزة.

ومن المحتمل أن تقترح إعادة إحياء “اتفاقيات أبراهام”، بهدف إجبار الدول العربية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وبالتالي فإن القضية الفلسطينية قد تتعرض لخطر التهميش مرة أخرى.

  • عودة ترامب إلى السلطة ستفاقم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتعزز الميول الاستقلالية الإستراتيجية لدول الشرق الأوسط.

سوف تؤدي سياسات ترامب المنحازة لإسرائيل في القضية الفلسطينية إلى تصعيد الصراع بين الطرفين بشكل مستمر، مما يضر بشكل كبير بالنفوذ الأمريكي في المنطقة. وخلال ولايته الأولى، أظهر ترامب انحيازا شديدا لإسرائيل، حيث سعى بنشاط إلى دفع “اتفاقيات أبراهام” التي تستهدف إلى تحقيق مصالحة شاملة بين الدول العربية وإسرائيل.

 ولكن الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي جمدت مسار التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل الذي بدأ للتو بشكل مفاجئ. وبعد عودة ترامب إلى السلطة في يناير 2025، أدلى بتصريحات متطرفة تتعلق بـ”إخلاء” سكان غزة، فيما ألغى الحظر الذي فرضته إدارة بايدن على تصدير بعض الأسلحة إلى إسرائيل، ووافق على تزويد إسرائيل بصفقة أسلحة بقيمة 12 مليار دولار.

هذه الإجراءات أثارت غضب العالم العربي، وزادت من ميل دول الشرق الأوسط نحو الابتعاد عن الولايات المتحدة، كما عززت صلابة موقف إسرائيل حتى أصبحت أكثر تعسفا في عملياتها العسكرية بقطاع غزة وسوريا ولبنان، وربما يؤدي ذلك إلى مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة في المستقبل.

وعلى مدار السنوات الأخيرة، كثفت الولايات المتحدة تراجعها الإستراتيجي في الشرق الأوسط، مما أدى إلى تراجع نفوذها وسيطرتها في المنطقة بشكل متواصل. وفي الوقت الراهن، تركز إدارة ترامب اهتمامها على الشؤون السياسية الداخلية بشكل أساسي، ولم تراع في سياستها الخارجية ركائز الهيمنة الأمريكية التقليدية التي تشمل القوة الناعمة، وشبكة الحلفاء، والهيمنة المؤسسية، فيما تواصل التحيز إلى إسرائيل بشكل أعمى.

 وعلى هذه الخلفية، سيتراجع التأثير الإستراتيجي الأمريكي وقدرتها على السيطرة في منطقة الشرق الأوسط على نحو متزايد، ويزداد توجه الدول العربية نحو تحقيق الاستقلالية الإستراتيجية، وستلعب الدول الإقليمية الكبيرة مثل السعودية وتركيا وإيران، دورا أكبر في إعادة تشكيل النظام الأمني في الشرق الأوسط.

وفي الوقت الراهن، يشهد العالم تغيرات كبيرة غير مسبوقة منذ قرن، وأصبحت التغيرات والانقسامات والاضطرابات الكبرى سمات جديدة للعصر. وتشهد منطقة الشرق الأوسط، بوصفها بؤرة العواصف السياسية  العالمية ومؤشرها، تصاعد الصراعات الجيوسياسية، وتفكك النظام الأمني وإعادة تشكيله، وتظل تطورات الوضع السياسي غامضة.

 ولن تتمكن دول المنطقة من التخلص من الحلقة المفرغة من الصراعات والاضطرابات بدون التضامن والتعاون بين مختلف الأطراف، والتزامها بمنح الأولوية للتنمية، ودفع عجلة تحقيق الأمن من خلال التعاون، وتشجيع تحقيق الاستقرار من خلال التنمية. وفقط من خلال ذلك، يمكنها أن تستقبل عصرا جديدا يسوده السلام والتنمية.

________________________

*تيان ون لين: الأستاذ بكلية العلاقات الدولية التابعة لجامعة رنمين الصينية ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط التابع لمعهد الدراسات الإقليمية والقُطرية بالجامعة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق