آسياأخبار العالمأمريكابحوث ودراسات

“ترامب والعالم المتغيّر: هل تنهار الهيمنة الأمريكية؟”

شهدت السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة تحولات عميقة ارتبطت مباشرة بصعود دونالد ترامب مجدداً إلى البيت الأبيض سنة 2025. هذه العودة لم تكن حدثاً داخلياً فحسب، بل شكّلت نقطة انعطاف في المشهد الجيوسياسي العالمي، في ظل بيئة دولية تتجه تدريجياً نحو تعدّد الأقطاب، وصعود تحالفات بديلة مثل مجموعة البريكس الموسعة، إلى جانب تنامي القدرات الاقتصادية والعسكرية للصين وعودة روسيا كلاعب رئيسي رغم العزلة الغربية.

في هذا السياق، تطرح دراسة موقف الولايات المتحدة، وردّات فعل ترامب بالذات، أسئلة مركزية حول مستقبل الهيمنة الأمريكية، واحتمال تآكل الامتيازات التي تمتعت بها طوال العقود الماضية.

منذ وصوله إلى السلطة مجدداً، اعتمد ترامب خطاباً يزاوج بين الواقعية الصريحة والقومية الاقتصادية. فقد أعلن عن فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات تقريباً، باعتبارها أداة لإعادة التوازن التجاري وحماية الصناعة الوطنية. وفي تغريدة له على منصة X  كتب: “لن نسمح للصين أو أوروبا أو أي طرف آخر باستغلال أمريكا تجارياً. من الآن فصاعداً: 10% على الجميع، و25% على من يواصل سرقة وظائفنا!”.

هذه الخطوة وإن بدت امتداداً لسياساته في ولايته الأولى (2017–2021)، إلا أنّها اليوم تأتي في ظرف دولي مختلف، حيث أصبحت المنافسة مع الصين أكثر احتداماً، والاعتماد المتبادل في سلاسل التوريد أكثر هشاشة.

يظهر ذلك جلياً في ملف أشباه الموصلات. ففي حوار مع قناة فوكس نيوز، صرّح ترامب قائلاً: “كل شريحة تُصنّع في تايوان أو كوريا يجب أن تُصنّع هنا. إذا أرادوا بيعها لنا، فليبنوا مصانعهم على أرضنا. انتهى زمن الاعتماد على الخارج”. بهذا التصريح، يكشف ترامب عن نزعة واضحة نحو فرض التصنيع القسري داخل الولايات المتحدة عبر أدوات جمركية وضريبية، في محاولة مباشرة لتقليص فجوة التفوق التكنولوجي مع آسيا.

أما على المستوى الأمني، فقد أحدثت تصريحات ترامب حول التزامات واشنطن داخل حلف شمال الأطلسي جدلاً واسعاً. ففي أحد لقاءاته الجماهيرية في أوهايو قال: “لماذا يدفع دافعو الضرائب الأمريكيون مليارات الدولارات لحماية دول أوروبية ثرية، بينما هم يرفضون حتى زيادة إنفاقهم العسكري؟ إما أن يدفعوا، أو ليتحمّلوا مسؤولية أمنهم بأنفسهم”.

هذا الموقف أثار مخاوف داخل الناتو، حيث تخشى عدة عواصم أوروبية من أن يؤدي الغموض الأمريكي إلى تقويض مصداقية الردع في مواجهة روسيا.

إلى جانب ذلك، يتزامن الموقف الأمريكي مع توسع مجموعة البريكس بانضمام دول جديدة ذات ثقل اقتصادي وديمغرافي. في هذا السياق غرّد ترامب بشكل ساخر:” BRICS ليس سوى محاولة يائسة من الصين وروسيا

 لمواجهة قوة أمريكا. لا أحد يريد اليوان أو الروبل، كلهم ما زالوا يتعاملون بالدولار. تذكّروا ذلك!”. ورغم نبرة التهكم، إلا أن الواقع يكشف عن مؤشرات واضحة لتحوّل تدريجي في موازين القوى.

في ضوء هذه التحولات، يمكن القول إن سياسة ترامب تعكس ردّة فعل مزدوجة: فمن جهة، هي محاولة لاستعادة السيطرة عبر إعادة بناء القدرة الصناعية داخلياً، وتعزيز الاستقلالية في القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا والطاقة. ومن جهة أخرى، تمثل هذه السياسات إقراراً ضمنياً بأنّ عصر الأحادية القطبية قد انتهى، وأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل أعباء النظام الدولي وحدها كما في الماضي.

خاتمة القول، إن دراسة ردّات فعل ترامب تكشف عن أزمة هوية تعيشها القوة الأمريكية: هل تستمر في لعب دور الشرطي العالمي، أم تركّز على حماية مصالحها المباشرة وإجبار الحلفاء على تحمل نصيبهم من المسؤولية؟ وكما كتب ترامب نفسه في تغريدة أخيرة: “أمريكا أولاً لا تعني أمريكا وحيدة، لكنها تعني أن مصالحنا تأتي قبل أي شيء آخر. إذا فهم العالم ذلك، سيحترمنا أكثر”.

هذه الخلاصة تختزل مسار الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة: بين إرث الهيمنة التاريخية، وإكراهات عالم يتغير بسرعة، حيث لم يعد امتياز القيادة الأمريكية مضموناً كما كان في العقود الماضية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق