المحور الأوراسي الصاعد.. روسيا بين الصين والهند في مواجهة الضغوط الأمريكية

إعداد سعد خلف: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 05-09-2025
تحولت تيانجين وبكين الصينيتان خلال هذه الأيام إلى محطات تشهد تبلور خطوط إعادة ترتيب موازين القوى العالمية، فقد جاء توقيع مذكرة التفاهم الروسية- الصينية الخاصة بخط أنابيب الغاز “قوة سيبيريا-2″، الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 في العاصمة الصينية، ليكون ذروة الحدث الاقتصادي الإستراتيجي في قمة منظمة شنغهاي للتعاون.
ولا يقل أهمية عن هذه المذكرة -في رأيي- اللقاء الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والذي أضاف بُعدًا آخر في مسار تعزيز المحور الأوراسي، الذي يدفع به بوتين منذ سنوات طويلة في سياق مواجهته مع الغرب وضغوطه، وخصوصًا الضغوط الأمريكية، ويعتبره من مشروعاته الإستراتيجية الرئيسة التي سيدخل التاريخ من أبوابها.
إن الاتفاق على تنفيذ مشروع “قوة سيبيريا-2″، وخط “اتحاد الشرق” عبر منغوليا، بعد إزالة كل العوائق والنقاط الخلافية، فضلًا عن التوسع في خطي “قوة سيبيريا-1″، و”مسار الشرق الأقصى”، ليس مجرد مشروع للطاقة؛ وإنما إعلان عن إعادة توجيه إستراتيجي للغاز الروسي شرقًا.
روسيا التي فقدت جزءًا كبيرًا من حصتها في السوق الأوروبية بفعل العقوبات، تجد في الصين شريكًا مستقرًا، طويل الأمد، في حين ترى بكين في موسكو مصدرًا آمنًا بعيدًا عن الأخطار البحرية، والتدخلات الأمريكية.
الأهمية السياسية لهذا المشروع تكمن -حسبما أرى- في تزامنها مع قمة منظمة شنغهاي للتعاون، أي في اللحظة التي تسعى فيها موسكو وبكين إلى تقديم أنفسهما قطبين إستراتيجيين قادرين على صياغة بدائل في الطاقة والأمن والحوكمة الدولية، وهو المقترح الذي طرحه الرئيس شي خلال اجتماع قمة المنظمة، 1 سبتمبر (أيلول) 2025، وأيّده بوتين.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن خطوط الغاز البرية تمنح الصين هامشًا واسعًا من المناعة في مواجهة أي محاولات أمريكية لعزلها، أو تعطيل وصولها ونفاذها إلى موارد الطاقة.
غير أن الحدث الموازي خلال كل ما يجري في الصين من أحداث هذه الأيام، والذي لا يقل أهمية عمّا ذكرته من اتفاق بين بوتين وشي، كان اللقاء المطول بين بوتين ومودي، الذي بدأ داخل سيارة بوتين “أوروس” الرئاسية، واستمر قرابة ساعة كاملة داخلها، بعيدًا عن كل الأعين والآذان. هذا اللقاء عكس أجواء ودية ومميزة.. مودي تحدث، خلال الجزء البروتوكولي المعلن فيما بعد، عن أن روسيا وقفت دائمًا إلى جانب الهند في اللحظات الصعبة، في حين وصفه بوتين بـ”الصديق العزيز”.
هذه المواقف تأتي في لحظة يتعرض فيها مودي لضغط أمريكي متصاعد؛ فإدارة ترمب فرضت -بلغة تهديدية- رسومًا جمركية تصل إلى 50% على واردات الهند، نصفها، أي 25%، مرتبط بشراء نيودلهي للنفط الروسي، فيما واصل ترمب انتقاد نيودلهي لارتفاع رسومها الجمركية على البضائع الأمريكية، بل يحرض الأوروبيين على فرض رسوم على الهند.
بيد أن مودي -بعناد- لم يرضخ. وتستمر الهند في استيراد النفط الروسي المخفض السعر، بل زادت نسبة الخصم مؤخرًا لتبلغ نحو 6%، وهو ما وفّر لمصافيها منذ عام 2022 أرباحًا إضافية، بلغت نحو 17 مليار دولار.
الهند التي تستورد في الوقت الحالي 40% من احتياجاتها النفطية من روسيا، ترى في هذه الصفقة مع روسيا مكسبًا إستراتيجيًّا يتجاوز بكثير الخسائر المحتملة من الرسوم الأمريكية، خاصةً أن تجارتها مع روسيا بلغت مستوى قياسيًا عند 68.7 مليار دولار، مع هدف معلن من الجانبين بالوصول إلى حجم تبادل تجاري يبلغ 100 مليار دولار بحلول 2030.
ورغم الفجوة الكبيرة في الميزان التجاري، حيث تبلغ واردات روسيا إلى الهند 64 مليار دولار، مقابل 5 مليارات دولار صادرات من الهند إلى روسيا، فإن الترتيبات المالية غير الدولارية بين الطرفين تخفف وطأة الفارق، وتمنح هذا التعاون بُعدًا إستراتيجيًّا في تقويض هيمنة الدولار.
أهمية هذا المسار لا تكمن -في رأيي- في حجم الأرقام فقط؛ بل في دلالات الانحياز السياسي، فمشاركة مودي في قمة شنغهاي، وفي الصين، للمرة الأولى منذ سبع سنوات، هي إشارة واضحة، وعالية الصوت، إلى أن نيودلهي لا تنوي الانصياع بالكامل للخط الأمريكي، لا تحت الترغيب، ولا خوفًا من الترهيب.
ومع أن الهند تظل حذرة في مواقفها تجاه الأزمة الأوكرانية، فإنها عمليًّا تعمق تعاونها مع موسكو في الطاقة، والتسليح (وُقِّعَت عقود طيران حربي جديدة هذا العام).
إن اعتقادي الراسخ في قراءة كل هذه التطورات أن الضغوط الأمريكية، وخصوصًا من جانب العم سام (أو الرئيس ترمب)، سواء في ملف الطاقة، أو في ملف التجارة، أدت -عمليًّا- إلى دفع الهند أقرب إلى روسيا، وأيضًا إلى تليين مواقف نيودلهي تجاه الصين، في إطار إقليمي أوسع.
بهذا المعنى، يمكن القول إن واشنطن، وهي تسعى إلى محاصرة موسكو، أسهمت -عن غير قصد- في تقوية محور روسي- هندي، يمتد عبر منظمة شنغهاي للتعاون، ويفتح أمام نيودلهي ومودي خيارات أكثر استقلالية.
اجتماع بوتين مع شي ومودي على هامش القمة يشير -من وجهة نظري- إلى أن المحور الأوراسي يتبلور، ليس فقط في صياغة ثنائية، روسيا- الصين، كما كان التصور سابقًا؛ بل في شكل مثلث إستراتيجي موسع يشمل الهند، ويجمع بين حاجات الطاقة الروسية، وحاجات النمو الصيني، وطموحات الهند في أداء دور القوة المستقلة غير التابعة للغرب.
ولا يسعني هنا مجددًا سوى أن أرفع القبعة لبوتين، ليس انبهارًا -بغير وعي- بشخصه فحسب؛ بل تقديرًا لبرودة أعصابه، وبُعد نظره، وقدرته على القراءة الإستراتيجية البعيدة، وربط المصالح بالأهداف، وبالأبعاد النفسية للأمم والشعوب والقادة، بما يصب في مصلحته، دون ضغط أو إملاء.
إن زيارة بوتين إلى بكين لمدة 4 أيام في ظل ظروف الحرب المستمرة، وتوقيع اتفاقيات الغاز الضخمة، ولقاءه المطول بمودي، كلها عناصر تؤكد أن موسكو لا تتحرك منفردة في مواجهة الضغوط الغربية؛ بل على العكس، فإنها تنسج شبكة متنامية من الشراكات التي تمنحها هامش مناورة عريضًا.
في هذا السياق، يصبح من الواضح أن الرهان الغربي على عزل روسيا اقتصاديًّا وسياسيًّا لم يتحقق؛ فبدائل الطاقة شرقًا، والتحالفات الأوراسية، تسير بخطى متسارعة نحو إعادة صياغة خريطة القوة العالمية، أو كما قال أحدهم حينذاك بغرورNew World Order