بعد صفعة قاعدة العديد هل تعيد أمريكا حسابتها العسكرية في الشرق الأوسط؟

إعداد الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الامنية والعسكرية 02-07-2025
يشكّل الشرق الأوسط أحد الركائز الأساسية في الحسابات العسكرية الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة وبداية الهيمنة الصهيوأميركية على النظام الدولي، لاسيما في هذه المنطقة التي تُعد شريان الحياة العالمي.
ولا يزال الشرق الأوسط يحظى بأهمية بالغة لدى صناع القرار في واشنطن، ويُعتبر بمثابة قاعدة عسكرية متقدمة للنفوذ الصهيوأميركي، إذ يتمركز فيه نحو 40 ألف جندي وضابط أميركي موزعين على عشرات القواعد العسكرية، أبرزها في دول الخليج العربي.
ورغم التحولات الجيوسياسية المتسارعة في العالم، وبروز نظام دولي متعدد الأقطاب، ما يزال الوجود العسكري الأميركي في المنطقة قائماً، في محاولة واضحة لرفض مخرجات التغيير، والإبقاء على موقع القيادة والهيمنة المطلقة في الشرق الأوسط.
لكن، وعلى الرغم من هذا الإصرار الأميركي على التحكم في مفاصل المنطقة عبر شبكة قواعده، تشير معطيات وتقارير إلى أن واشنطن بدأت تراجع أولوياتها الجيوسياسية، وتطلب من خبرائها ومستشاريها تقييم فاعلية هذا الانتشار العسكري، ومدى قدرته على تحقيق أهدافها الإستراتيجية، خاصة مع تغيّر قواعد اللعبة في المنطقة رغمًا عن إرادة البيت الأبيض. فقد فقدت سياسة الردع القديمة فعاليتها، خصوصًا بعد الصفعة الإيرانية الأخيرة التي استهدفت الكيان الصهيوني وأصابت قاعدة العديد في قطر بشكل رمزي ومؤثر.
بل إنّ مفهوم التفوّق الرّدعي الأميركي بات محلّ شكّ متزايد، إذ بدأت تبرز مقاربات جديدة تُعيد النظر في فاعلية الردع التقليدي، وفي جدوى الانتشار العسكري الواسع الذي يتطلب تمويلاً ضخماً ورعاية متواصلة بمليارات الدولارات. ولم يعد من المستبعد، وفق بعض التقديرات، أن يُقدِم أحد خصوم واشنطن على توجيه صفعة أخرى قد تتسبب في خسائر فادحة. وتشير تقارير عسكرية أميركية سرّية إلى أن بعض القواعد العسكرية المنتشرة في الشرق الأوسط تعاني من ضعف في الحماية، وتُوصف بأنها “هشّة” من الناحية العسكرية، ويمكن استهدافها أو تعطيلها بسهولة.
وقد كشفت جولة القتال الأخيرة التي استمرت 12 يوماً هشاشة المنظومة الصهيوأميركية في المنطقة. فالطائرات التي زُعم أنها استهدفت البرنامج النووي الإيراني، لم تُطلق من القواعد المنتشرة في الخليج كما كان يُتوقع، بل جاءت من مواقع بعيدة، ما فتح الباب أمام تساؤلات حادة داخل الدوائر الأميركية:
“ما جدوى هذه القواعد التي تُموّل بمليارات الدولارات؟ لم تحمِ إسرائيل، ولم تحقق أهدافها، بل والأسوأ أنها لم تمنع قصف أكبر قاعدة أميركية في قطر بالصواريخ الإيرانية!”
هذا التساؤل وضع البنتاغون في موقف حرج، وترك الإدارة الأميركية تتخبط في مواقفها، بينما بدا الرئيس ترامب يترنح بين ثلاث لهجات:
لغة الوقاحة: التهديد،
ولغة المكر: التهدئة،
ولغة الخداع: الحديث عن السلام.
فقد جمع في تلك الفترة كل المتناقضات مع الكذب وتزوير الحقائق وكان في وضعية تخبط كبير، لأن المخطط الذي اتفق عليه مع نتنياهو كان الإطاحة بالنظام الإيراني وقلب المعادلة بشكل سريع وخاطف ومدمر وبالتالي الإستلاء على إيران وتحطيمها من الداخل ةمن ثمة الإستلاء الكامل على الشرق الاوسط والذهاب مباشرة للإتفاق الإبراهيمي وجعل الجميع تحت الهيمنة الأمريكية من جهة ومن جهة أخرى الضغط على روسيا والصين وباكستان.
أما من الجهة الأهم بالنسبة للإدارة الأمريكية هو قطع “أنفاس الصين بالشرق الاوسط” التي أصبحت لها شركات كبرى في المنطقة وكذلك لها شراكة إستراتحية مع إيران” لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وبإختصار “فشل المشروع”…
وبالتالي الدخول في جولة ثانية من الحرب على إيران ومباغتة أصبحت شبه جاهزة وإعادة التفكير في تموقع القواعد العسكرية الامريكية كذلك ضمن المخطط الجديد للجولة الثانية للعدوان على إيران.
وربما سيسمح هذه المرة لإيران بقصف بعض القواعد وخاصة الموجودة في الأردن وبالتالي تعرية الاردن والإنسحاب العسكري الأمريكي وتركها تتصارع مع إسرائيل وبالتالي سيكون القبول بالتهجير الطوعي للفلسطينين للأردن وسيعلن أن إيران هي السبب في تهجير الفلسطينين للأردن وهم من ضربوا الأراضي الاردونية والقواعد الأمريكية غير قادرة على حماية الاردن.
كيف سيكون إعادة تمركز القواعد العسكرية الامريكية في الشرق الاوسط؟
كما لا يخفى على أحد وخاصة الخبراء العسكريين أن واشنطن فعلا قد ساهمت في العدوان الصهيوني على إيران بشكل مباشر ولكنها فشلت وأرادت أن تخفي فشلها بأن قصفت إيران عبر استهداف منشآت نووية إيرانية باستخدام قاذفات بعيدة المدى وصواريخ كروز أطلقت من غواصات في الخليج، والمثير للانتباه أن الطائرات لم تنطلق من القواعد الأميركية في الشرق الأوسط كما يدعون، كما كشفت ذلك صحيفة واشنطن بوست الأميركية التي قالت “القوات البالغ عددها 40 ألفاً، والمعدات العسكرية التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، كانت حينها بلا جدوى”.
بل وواصلت في التقرير قولها، أن وجود هذه القواعد العسكرية في الشرق الأوسط أصبحت عبأ على الإنفاق الأمريكي، خاصة وكما أشرنا أن إيران قد استهدفت بصواريخ قاعدة العديد في قطر، ما أدى إلى إخلاء الطائرات وإعادة تموضع السفن في عرض البحر في حركة قد كلفت ميليارات الدولارات مع إضطرابات نفسية كبيرة للجنود هناك وخروج الشارع الأمريكي المنادي بوقف التدخل الامريكي في الحروب بالحخارج والمنادات بإقاف حرب لا تعنيهم كأمريكيين.
وبعدها مباشرة اتخذ ترامب ومستشاريه قرار التلويح بالهدنة والسلام والوساطة القطرية، وكما يقال “حفاضا لماء الوجه” بدأت البروبغندا الإعلامية تسوق “لمسرحية ايرانية ترامبية”، وهناك تفاهمات تحت الطاولة، وغيرها من رسائل الكذب التي تعودت أمريكا على تسويقها للرأي العام في العالم.
وطبعا هذا من غير المنطقي، لأن أمريكا لو لم تستشعر الخطر على قواعدها في الشرق الاوسط وعلى مكانتها وتفوقها الردعي وعلى الكيان الصهيوني لما طلبت الهدنة ولما نادت بالسلام فقد قال ترامب صراحة للشعب الايراني أخرجوا من طهران ويجب إخلاء طهران بعنهجية ولؤم كبير.
مثّل الاستهداف الإيراني لقاعدة العديد الأميركية في قطر “ضربة في مقتل”، ومن غير المرجّح أن تمرّره واشنطن دون ردّ، ولو بعد حين. فمن المتوقع أن تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة هيبتها الردعية في المنطقة عبر توجيه ضربة عسكرية نوعية إلى العمق الإيراني، خصوصاً أن التخلي عن الشرق الأوسط دون إشعال صراعات أو بقاء “الحماية الأميركية” أمر شبه مستحيل بالنسبة لها. كما أنها تسعى في الوقت نفسه إلى تهدئة الرأي العام الأميركي بإعادة تموضع بعض قواعدها ونقلها إلى مواقع أخرى، مع الحفاظ على حضورها بطرق مختلفة.
وتتضاعف الهواجس الأميركية بفعل صعود “التنين الصيني”، وسعي بكين إلى استرجاع تايوان، ما قد يُحوّل وجهة الصراع العالمي نحو بحر الصين الجنوبي. وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل نشر الولايات المتحدة قبل خمسة أيام فقط لحاملة الطائرات الضاربة “جيرالد فورد” في البحر المتوسط، وهي خطوة يبدو أنها تمهيد لعملية عسكرية بحرية واسعة في شرقي وشمالي المتوسط، ضمن خطة أميركية قديمة لتثبيت اليد على مواقع استراتيجية في المنطقة، وربما قد آن أوان تنفيذها.
وقد أعاد القصف الإيراني لقاعدة العديد طرح تساؤلات قديمة متجددة بشأن فعالية التمركز العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. فالقواعد الضخمة والمكلفة باتت أهدافاً مكشوفة، خصوصاً في ظل تصاعد القدرات الصاروخية غير التقليدية لدى خصوم واشنطن. وأصبح من الوارد أن تُقدم قوى أخرى معادية للوجود الصهيوأميركي على استهداف قواعد مشابهة مستقبلاً، وهو احتمال تتعامل معه الإدارة الأميركية بكثير من الجدية.
ورغم تصاعد دعوات الانسحاب من الحروب الخارجية داخل الولايات المتحدة، لا تبدي واشنطن نية في مغادرة المنطقة بالكامل. فالتخوف من أن يملأ اللاعبون الدوليون والإقليميون الفراغ في حال انسحابها، يدفعها إلى الحفاظ على وجودها، ولو بأشكال جديدة. ولهذا، يرى بعض الخبراء العسكريين الأميركيين أن الوقت قد حان لتطبيق ما يُعرف بنظرية “إعادة خلط الأوراق”، عبر سحب بعض القواعد من الشرق الأوسط ونقلها إلى إفريقيا، وهو ما ألمح إليه ترامب حين قال إن إفريقيا أصبحت “ذات أهمية استراتيجية كبرى” بعد تراجع النفوذ الفرنسي فيها.
ويبدو أن واشنطن تعيد تشكيل بنيتها العسكرية على نحو يضمن لها الانسحاب دون هزيمة، بما يُبقي على صورتها كقوة لا تُكسر. ومن المتوقع، بحسب محللين، أن تواجه بعض الدول التي تستضيف قواعد أميركية اضطرابات شعبية يُستغلّ بعضها كذريعة للانسحاب الأميركي، وفق النمط المعروف في السياسات الأميركية.
وفي تطورات ميدانية، تحدثت مصادر عن استعداد أميركي إسرائيلي لتنفيذ ضربة قوية ضد إيران خلال الأيام المقبلة، إما في نهاية هذا الأسبوع أو في منتصف الأسبوع القادم. وتشير التقارير إلى أن التحرك سيكون واسع النطاق، ينطلق من القواعد الأميركية في الأردن والعراق، مع تعاون استخباراتي داخلي داخل إيران. وتُرجح بعض المصادر أن الموساد لا يزال يحتفظ بخلايا نائمة، تُستخدم في محاولة جديدة للإطاحة بالنظام الإيراني.
في إطار سياسة “إعادة توزيع الأوراق”، أنشأت الولايات المتحدة قاعدةً عسكرية جديدة غرب السعودية تُعرف باسم “منطقة الدعم اللوجستي جنكينز” (L.S.A. Jenkins)، قرب ساحل البحر الأحمر وعلى بُعد نحو 20 ميلاً من الساحل. وتهدف هذه المنشأة العسكرية إلى توفير موقع لوجستي بعيد عن مدى الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية، وتدعم قواعد أميركية أخرى في المنطقة، تمتد من العراق وسوريا إلى الخليج.
تكمن أهمية الموقع الجغرافي لهذه القاعدة في كونها خارج مدى الصواريخ الإيرانية القصيرة المدى، ما يُجبر أي خصم على استخدام صواريخ متوسطة المدى، وهي أقل دقة وتمنح أنظمة الدفاع الأميركية وقتًا أطول للتصدي لها. وقد شهدت القاعدة توسعًا كبيرًا منذ مطلع عام 2024، مع بروز منشآت جديدة وطرق معبّدة وصناديق ذخيرة توحي بوجود بنية صاروخية، وفق صور أقمار صناعية وتقارير استخباراتية عسكرية.
وبحسب تقارير عسكرية، تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة انتشار قواعدها داخل الأراضي السعودية، ولم تقتصر هذه الخطوة على القاعدة اللوجستية “جنكينز”، بل شملت أيضًا مواقع لوجستية إضافية في مطاري الطائف وجدة، حيث تُخزَّن الوقود والذخيرة.
كما تفيد وثائق عسكرية بأن التوسعة قد تشمل لاحقًا مرافق صيانة وترفيه لعناصر الجيش الأميركي، الذي يعتبر أن المملكة العربية السعودية تمثل الموقع الأكثر أمانًا، إذ من غير المرجح أن تُقدم إيران على ضرب بلاد الحرمين ومكان عبادة المسلمين. وإذا أرادت واشنطن إحراج إيران، فقد تستفزّها من الأراضي السعودية لتقع في الفخ، فتنهار الصورة الإيجابية التي أصبحت تحظى بها إيران لدى بعض العرب والسنة، ويُعاد إحياء التنافر الطائفي بين الشيعة والسنة من جديد.
ويكشف هذا التوجه بوضوح عن إدراك أميركي لمخاطر التمركز المكشوف في مواجهة خصوم إقليميين ينصبون العداء لواشنطن، ويعتبرونها “الشيطان الأكبر” ومصدر انعدام التوازن والاستقرار في المنطقة، بسبب دعمها المتواصل لكيان الاحتلال، سواء من قبل إيران أو اليمن.
لكن هذه الإجراءات، رغم طابعها الوقائي، لا تحلّ المشكلة الجوهرية: إذ إنّ دعم هذا الوجود يكلف دافعي الضرائب الأميركيين مليارات الدولارات سنويًا، إلى جانب المخاوف المتزايدة لدى عائلات الجنود من فقدان أبنائهم في حروب لا علاقة لهم بها، في وقت تتحول فيه المنطقة تدريجيًا إلى ساحة اشتباك مع لاعبين إقليميين أثبتوا قدرتهم على المواجهة وبأوراق قوة مختلفة، مثل إيران ومصر وتركيا.
بالنسبة لواشنطن ولمستشاري البنتاغون وترامب، يجب تغيير “التكتيك” الخاص بالانتشار العسكري الأميركي في الشرق الأوسط؛ فبدلاً من توزيع واسع للقوات يمكن شلّ حركتها سياسيًا أو عسكريًا، أصبحت الحاجة ملحة لنموذج أكثر ديناميكية، تكون تدخلاته عند الضرورة وبأقل الخسائر، دون الاعتماد على التواجد المستمر. فتجربة حرب الاثني عشر يومًا كشفت عن هشاشة بنية الانتشار الأميركي، وفرضت إعادة نظر في شكل التمركز في الشرق الأوسط، وربما في بحر الصين الجنوبي أيضًا لاحقًا.
إن خلق وجود عسكري أميركي جديد في غرب السعودية هو ردٌّ تكتيكي على التهديدات، لكنه لا يبدد الشكوك بشأن مدى انسجام هذا الانتشار العسكري مع الأهداف الأميركية الأوسع في المنطقة.
وفي خضم الرهانات والتحديات العالمية الكبرى، التي باتت تزعج الإدارات الأميركية المتعاقبة والتي ترى في الصين خصمها الأول، اتسعت مجالات الأمن القومي الأميركي لتشمل المهاجرين من المكسيك، وبدأ ترامب يلوّح صراحة بضم كندا وبنما…
بات البيت الأبيض ينظر بعين الريبة إلى حديقته الخلفية، وبدأ يُعيد فتح النقاش حول جدوى هذا الشكل من الانتشار العسكري في الشرق الأوسط، وسط عالم متغيّر لم يعد “منضبطًا” ولا يسير وفق إيقاع واشنطن. وقد بدأ هذا النقاش بالفعل، وكانت صفعة استهداف قاعدة العديد العسكرية في قطر ساحة صراع حقيقي داخل أروقة البيت الأبيض، كشفت عن خلافات عميقة بين المسؤولين والمستشارين، فيما يتابع العالم هذه النزاعات يوميًا.