آسياأخبار العالمأمريكاأوروباإفريقياالشرق الأوسطبحوث ودراسات

وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأميركي 2025: ترامب يعيد تدوير المفاهيم

اصدرت الادارة الامريكية منذ أيام بما يسمى إستراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2025 بوصفها وثيقة دفاعية تصدر كل سنة ولكن هذه المرة تخرج هذه الوثيقة اتثير الكثير من التسؤولات كما أرادها ترامب المثير في حد ذاته “للشوا”.

الوثيقة اليوم ليست تقليدية ولا يمكن ان تقرأ بوصف تقليدي كما اعتاد الخبراء في الشأن الأمريكي فمع ترامب كل شيء يثير التمهل والقراءات، ففي مضمون الوثيقة إعلاناً سياسياً–اقتصادياً عن انتقال الولايات المتحدة إلى مرحلة ما بعد العولمة “النيوقلوبليزاسيون” أو ربما “مرحلة “الترامبية” الاستراتجية.

ومنذ القراءة الأولى للنص فإنك تنتقل مباشرة الى التسارع الكبير الحاصل اليوم في العالم والمنافسات والقوى الصاعدة العملاقة وبالتالي “الترامبية” اليوم لا يمكنها ان تكتب نصا عاديا تقليديا كلاسكيا، فهي كقوة موجودة ومهيمنة لا يمكنها أن تترك المجال للقوى الصاعدة “فالإيغوا” الامريكي كبير جدا ومريض، وبالتالي النص بما يتضمنه من أولويات وأرقام وتوصيفات، يعكس تحوّلاً بنيوياً في نظرة واشنطن إلى موقعها في النظام الدولي، وإلى معنى “القيادة” نفسها.

للمرة الأولى منذ أربعة عقود، تستفيق الادارة الأمريكية على “الأمر الواقع الداخلي” وتدرك تماما أن الداخل بدأ “يتعب” وبالتالي الأولوية ليست لإنتشارها العسكري الخارجي وعمليات النهب والسرقات التي تمارسها على الخارج، الوضع الداخلي اليوم هو ضمن أولاوياتها وأمنها القومي باعتباره نتاجاً مباشراً لقوة الاقتصاد الداخلي، هذا التحول لا ينفصل عن إدراك أميركي متراكم بأن منظومة العولمة التي خدمت الشركات والأسواق الأميركية لعقود، بدأت تعمل ضد مصالح الدولة الأميركية نفسها وبدأت تتلاشى مع القوى الصناعية الصاعدة وتغزوا كل الأسواق في العالم بمنطق “الاحترام” و”العدالة” وخاصة بمنطق “الانسانية” ونهاية مرحلة عصابات “الكوبوي”. فالاسواق الداخلية الأمريكية اصبحت تعاني من تفكك القاعدة الصناعية، أو هشاشة سلاسل التوريد، أو تضخم كلفة الالتزامات الأمنية العابرة للقارات.

 وبهذا اقترب من الولايات المتحدة الأمريكية الخطر الداهم، ليس من الخارج بل من الداخل، وما على ترامب إلاّ ايجاد الحلول، وهو ما وعد به ضمن حملته الانتخابية وشعاره “أمريكا أولا”، ودخل البيت الأبيض في يناير الماضي، وهو يهدد ويتوعد برسومات جمروكية على دول العالم مستعملا غطرسة وعنهجية أجداده “عصابات الكووبوي”… ولكنه فشل الى حدود اليوم أي قرابة سنة من البحث عن الحلول في الخارج الأمريكي، ولهذا جاءات الوثيقة اليوم مخالفة لمعايير الوثائق السابقة.

الوثيقة الاستراتجية لسنة 2025 تغيرت وانطلقت من فرضية مركزية امريكية ومن واقع أمريكي داخلي بحث، وهي كما جاء في الوثيقة، القدرة الأميركية تبدأ من الداخل.

هذه العبارة الجديدة في الوثيقة هذه المرة قد انظلقت كإطار سياسات واقعية، تقوم على إعادة توطين الصناعة الامريكية الداخلية، وحماية القطاعات الاستراتيجية، وضخ استثمارات ضخمة في التكنولوجيا المتقدمة، ولهذا عمد ترامب في الفترة الماضية لإرغام بعض الحكام العرب وغيرهم من الإستثمار داخل الولايات المتحدة والترليونات التي انتزعها من بعض الدول من أجل الاستثمار في الداخل الأمريكي.

وبالتالي تغيرت المفاهيم عند إدارة ترامب الجديدة، فالأمن القومي الأمريكي لم يعد يُعرّف عبر حاملات الطائرات والقواعد العسكرية الخارجية، بل عبر المصانع، والرقائق الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي، وقدرة الدولة على ضبط اقتصادها في بيئة دولية مضطربة من ناحية، وبيئة دولية تتسارع من أجل الصعود وتغيير النظام العالمي المتوقف عند هيمنة قطب واحد متغطرس من ناحية ثانية.

هذا القطب الكلاسيكي الذي اعتقد انه قد وصل الى “نهاية التاريخ” قد أوصل العالم والبشرية الى أسوء مراحلها، بل وصل الى تهديد العالم بحرب ستقضي على الحياة على سطح الكرة الأرضية، وبالتالي يجب على هذه القوة العالمية أن تجد مخرجا من المأزق التي هي فيه.

 وقد بدأ ترامب يرفع شعارات السلام وفي نفس الوقت لم ينسى طبيعته المتغطرسة يهدد ويتوعد ويريد أن يدخل في حروب ويفتح جبهات في قارات العالم. وبالتالي هذا العالم المتوحش في مأزق كبير وهو يبحث عن الحلول لأمر واقع يعيشه من الداخل، وتسويق الحروب للخارج لم تعد حلولا مجدية، فالمجتمع الأمريكي وعقلية الأمريكي قد تغيرت وأصبحت تنظر الى العالم من منظور آخر اسمه “امريكا اولا”.

هذا المنطق يفسر التراجع الواضح في استعداد واشنطن لتحمل أعباء أمنية طويلة الأمد خارج نطاق مصالحها المباشرة، ولكن “عجائز الصقور الأمريكان” لا يرون ذلك ممكنا ويريدون أن يبقوا على كرسي وعرش العالم، ولهذا نجد ان العقلية الشبابية السياسية الأمريكية تحارب اليوم و”عمران ممداني” هو مثال واضح وصريح في الولايات المتحدة الأمريكية والتحولات الكبرى التي اصبحت تفرض واقعا جديدا في أمريكا.

فالإستراتيجية لا تنفي الالتزامات التقليدية، لكنها تعيد تصنيفها ضمن “خطوط حمراء” مرنة، تُدار بأقل كلفة سياسية ومالية ممكنة. هنا، تتحول فكرة التحالف من التزام أخلاقي أو أيديولوجي، إلى علاقة حسابية مصلحية صرفة، يُقاس استمرارها بميزان المنفعة الاقتصادية والاستراتيجية، وهي تعبر بالأساس على عقلية الأمريكي وعقلية ترامب.

وبالرجوع الى منطقة الشرق الأوسط، يبرز التحول في النظرة الأميركية إلى الشرق الأوسط بوصفه أحد أكثر العناوين اثارة للاهتمام فاليوم يتحدث ترامب في الوثيقة عن ذراعه الاسرائيلي وعن مصالح بلاده في المنطقة وليس عن حلفائه التقليديين وهذا ما يثير حفيظة “الاسرائيلين” على الوثيقة.

فبعد عقود من المركزية النفطية والأمنية، تُعاد صياغة العلاقة مع المنطقة باعتبارها ساحة شراكات ظرفية، لا مجالاً لانخراط عسكري دائم وهي نقلة نوعية وبراغماتية امريكية “ترامبية”.

لم تعد واشنطن معنية بشكل الأنظمة أو مسارات الإصلاح، بقدر ما تهتم بقدرة الدول على تقديم قيمة مضافة: موقع، موارد، استقرار نسبي، أو فرص استثمار. حتى الملفات التي لطالما اعتُبرت ثوابت، باتت تُدار بمنطق الكلفة والعائد، لا بمنطق الالتزام المفتوح.

وبالنسبة لأوروبا الحليف الاستراتجي الأمريكي اليوم وضمن الوثيقة الاستراتجية تغيرت الموازين والصفعة كبيرة جدا لأوروبا، وقد كشفت الوثيقة عن إعادة ترتيب قاسية داخل المعسكر الغربي نفسه، حيث تبدو أوروبا الخاسر الأبرز بالرغم التحركات الكبرى لزعمائها إلاّ أن الخسارة أصبحت كذلك واقعا ملموسا.

فالولايات المتحدة تعلن صراحة نهاية مرحلة “الحماية المجانية” وترامب يعلن عن أن كل شيء يجب دفع ثمنه فهصر المجانية خارج من القاموس الأمريكي، وتطالب الأوروبيين بتحمل أعباء الدفاع والطاقة والهجرة.

هذا التحول لا يعني فك الارتباط الأطلسي الغربي، لكنه ينذر بتغيير عميق في طبيعته العلاقات: من شراكة غير متكافئة إلى علاقة مشروطة، تُفرض فيها كلفة الاستقلال على من اعتاد الاعتماد.

ومن يقرأ جيدا الوثيقة في علاقة أمريكا بالقارة الآسيوية فسيجد نقلة نوعية في الاستراتجية الأمريكية، فواشنطن لا تُخفي أن صراعها مع الصين هو صراع على التكنولوجيا وسلاسل الإنتاج، لا على الخرائط العسكرية.

لذلك تُفضَّل التحالفات القادرة على الاندماج الصناعي والتكنولوجي، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، فيما تُقيَّم الدول الأخرى بمدى قدرتها على التكيّف مع نظام اقتصادي أكثر انغلاقاً وانتقائية. وبالتالي تعتبر القارة الآسيوية، في الإستراتيجية “الترامبية” هي مركز الثقل الاقتصادي العالمي الجديد، وميدان التنافس الحقيقي على مستقبل النظام الدولي.

الخلاصة:

اللافت في هذه الوثيقة عندما نقرؤها بتمعن وبفهم للمنطق الأمريكي، ان ترامب لا يسعى إلى مواجهة شاملة مع الصين أو روسيا، بل إلى إدارة تنافس طويل الأمد ويمكن ان يكون تنافس استنزافي للآخر وخاصة للقوى الصاعدة، هي استراتجية تقوم على إضعاف نقاط القوة الصناعية والتكنولوجية للمنافسين، لا على استنزاف عسكري مباشر يقلب الطاولة عليها، فالصناعات العسكرية المتطورة والمتقدمة جدا للطرف الأخر “العدو” او المنافس، يمكن أن يلحق بالجيش الأمريكي خسائر كبرى، وبالتالي الصورة النمطية العسكرية الأمريكية الأولى في العالم والتي لا يقدر عليها أحد يمكن أن تسقط وتظرب وبل والأخطر ان سياسة الردع الأمريكي على دول العالم تنهار وهذا ما يخشاه ترامب وادارته.

وفي هذا السياق، تستفيد موسكو نسبياً من تقليص الانخراط العسكري الأميركي في أوروبا واضعاف “الناتو”، بما يمنحها هامش حركة أوسع، دون أن يعني ذلك عودة إلى منطق الحرب الباردة التقليدية، فالحرب ستكون بواقع اخر غير متوقع والأمريكان لا يحبون المفاجاءت.

وفي نهاية القول،إن إستراتيجية الأمن القومي الأميركي 2025 تؤسس لمرحلة انتقالية في النظام الدولي وتعلن عن انهيار للإستراتجية الكلاسكية بل وان العالم فعلا قد فرض واقعا جديدا وأخرج مفهوم الهيمنة للقطب الواحد من أجل تعدد الأقطاب والعدالة العالمية وإعادة النظر في المنظمات الدولية وتشريعات التي تكيل بمكيالين وطالب العالم اليوم وخاصة القوى الصاعدة بالحوكمة العالمية لتجد أمريكا والغرب أنفسهم في مأزق كبير ويدفعهم لإعادة النظر في استراتجياتهم الدولية وخاصة في علقاتهم مع العالم.

 وبالتالي تصبح الوثيقة الاستراتجية الترامبية عنوانها الأبرز: نهاية العولمة بصيغتها الليبرالية، وصعود منطق الدولة–الاقتصاد. ومن يفشل في إعادة بناء موقعه الاقتصادي، سيجد نفسه خارج حسابات النفوذ، مهما كانت مكانته السياسية السابقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق